لعل ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات، ما بدأنا نسمعه من "رجال دين" في كثير من القنوات "الدينية أو الإسلامية" التي تناسلت كالفطر في الفضاء المفتوح، وغزت الدنيا بالغث والسمين من برامجها، ودروسها "العلمية". فتجد الرجل الذي يسمي نفسه عالما دين، والذي لم يؤهله لذلك إلا شكل جعله يظهر بزي الشيوخ، وبضع كلمات حفظها من هناك وهناك، وجرأة -لكي لا أقول شيئا آخر- على العلماء الماضين، وإخوانه من الدعاة العاملين. وأكثر ما تجده في كلام هؤلاء هو الانتساب للسلف، وكأن الانتساب للسلف يكون بمجرد اجترار كلماتهم، وإعادة طرح مشاكلهم، وليس بالتمسك بمنهجهم و الاجتهاد لزماننا كما اجتهدوا هم لزمانهم. فبالرغم من كثرة الآيات التي تنهى وتحذر من تقليد الآباء، واتباعهم بلا دليل ولا برهان، بالرغم من ذلك، فإن الكثير يعتبر أن تقليد الآباء هو المنهج الأسلم والأحكم، وقد صدق من قال:فليس يصح في الأذهان شيء، إذا احتاج النهار إلى دليل ! مِن منهج التعليم والتربية عند هؤلاء الذين ملؤوا الفضاء صراخا وعويلا ودعاءا بالويل والثبور على من خالفهم، مِن منهج التربية والتعليم عندهم الاعتماد على السخرية من المخالف و الازدراء بمذهبه، فضلا على رميه بالزندقة أو البدعة أو الضلال وهلم جرا. منهج بعيد كل البعد عن منهج السلف؛ فقد كانوا -كما تشهد لذلك مؤلفاتهم- يوردون كلام المخالف، ويذكرون حججه كأنهم يتبنونها، بحيث تبدو لكل متسرع أن ذلك هو مذهبهم، وهم إنما جاؤوا بها لكي يعلم إحاطتهم بها، وأنها لا تخفى عليهم، ثم ليبينوا وجه الرد عليها. وكثيرا ما كان إيرادهم لتك الحجج مجتمعة يقوي مذهب الخصم، فإن لاجتماع الأدلة قوة ليست في افتراقها، يقول حجة الإسلام الغزالي: " فجمعت تلك الكلمات، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها ، حتى أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم ، فقال: هذا سعي لهم ، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها ، وترتيبك إياها". فهو يقول: إنه قد جمع حججهم ورتبها، بحيث تظافرت قوتها، وبين وجه حجيتها، حتى غدت ظاهرة قوية، وحتى لامه في ذلك أصدقاؤه، كيف يقوي مذهب الخصوم، عوض أن يوهنه؟ ! إنه موقف القوي، الذي لا يرى في إيردا أدلة الخصوم غضاضة، فهو لا يخشى منها، لأنه يمتلك من الحجج ما يضحدها، أما الضعيف والعاجز، فلا سلاح له إلا السخرية والتنقيص من الآخر، أو الهجوم عليه بالدعاء و الشتيمة.