لعل أعين الإنسان العربي كانت ولا تزال مشدوهة إلى ما يجري في مصر، من أحداث ووقائع وتجاذبات.. بوصفها "أم الدنيا" كما يزعم أبناؤها.. أو باعتبارها ملحن الأغاني.. وباقي العرب لا يتجاوز دورهم، ترديد لحنها وعزفها على حد وسم أحد حكام الكيان الصهيوني. وكان من آخر مستجدات الواقع المصري، إصدار القضاء الشامخ، وقضاته الأفذاذ، ورجاله الأشاوس، حكما ببراءة حسني مبارك، مما نسب إليه زورا ووبهتانا وإفكا.. وهذا الحدث العجيب، يطرح العديد من التساؤلات والاشكالات.. بل ويقضي على جل الطموحات والتطلعات التي أنيطت، في سالف الأيام، بما سُمي بالربيع العربي؛ ومما سيحمله للشعوب الثائرة، من تغيرات وهزات وتقلبات في بنية العالم العربي ونسقه الاجتماعي والسياسي.. فكتبت حوله الكثير من الأبحاث، وسطرت في الدفاع عنه العديد من الدراسات، وألقيت الندوات والمحاضرات، وتنقل المثقفون والأكاديميون يجوبون البلاد تبشيرا وجذلا بالمستقبل المشرق المستنير، كما ألهم الربيع العربي، باقي الشعوب العالمية وحتى الغربية؛ التي تقاطرت في تظاهرات واحتجاجات... رغبة منها في تحسين الاوضاع، وتطلعا لزحزحة الظلم والفساد والاستبداد.. بل حتى الكيان الصهيوني، اغترف من معين هذه الثورات.. ورفع شبانه ذات الشعارات.. لكن هذا الزخم لم يتجاوز مرحلة المخاض.. حين سُوق إعلاميا أن الشعوب بورودها و أزهارها.. وافتراشها الطرقات والشوارع.. بمقدورها أن تسهم في التغيير، وأن تسمع صوتها لساكني القصور من الرؤساء والامراء والملوك.. غير أن فروع هذه الانظمة وتعقيداتها في الدولة؛ لما لها من المقدرات والإمكانات والوسائل.. ما جعلها تتربص بالثورات، وتُنفد بعضا من رجالاها باعتبارهم رموزا ودعاة للثورة وملهمين لشبابها... وكلا ادعى وصلاً بليلى.. لقد كان أبرز من أوقف ثورات الياسمين والزهور.. من التنقل بين البلدان المشرقية والمغاربية.. هو طاغية سوريا بشار الاسد، الذي استقوى بطائفته العلوية النصيرية الشيعية، وبأحلافه من إيران وروسيا والصين وسكوت العرب والغرب.. ومدوه بالفرصة تلو الفرصة.. فبدأت زهور الياسمين وأوراق الربيع.. تذبل وتجف.. على ثرى درعا وسهول حلب وآثار حمص وصحراء دير الزور.. حتى امتدت لسنوات.. ولا زلنا نحصي ضحاياها ونسمع أنين أطفالها.. وآخرها ما تناهى إلى أسماعنا من القتل بالكيماوي.. الذي لم يتأكد العالم بعد، أهو كيماوي أم جرثومي أم نووي أو عطري ... المهم أن أمين الأممالمتحدة، أعرب عن قلقه وعبر حزنه العميق وندد وشجب بقوة.. يبدو أن هذا الطاغية، كان من الأسباب التي أرجعت للطغاة نَفَسَهم، وجعلتهم يسترجعون ويستعينون بالخبراء والاموال والخطط، لوأد أي ثورة أو تحرك جماهيري يلوح في أي بلد عربي.. فإذا دمر القذافي البلد.. وأحرق سوريا الاسد.. فما الضير وما العيب أن يُخرج السيسي رفقة ثوار آخرين، زعيمهم المخدوع المغبون، من سجن خمسة نجوم إلى إقامة جبرية؛ تقله المروحيات ويستقبل التهاني والتبريكات من المواطنين الاحرار.. والثوار الابرار.. وما فائدة الأخوة العربية والوحدة الإسلامية، إن لم تصطف دول الممانعة والطوق والانفتاح... على الاستفادة من أموال البترول.. وتجار الدين.. وعلماء المارينز من الموظفين.. فحتى لو قطعت دول الغرب الكافر المعونات والمساعدات والقروض عن أم الدنيا وأشقائنا.. فخادم الحرمين.. وسليل الهاشميين.. وفخر آل النهيان .. وحتى سلطان أمير قطعة البحرين.. سيتدخلون لمساعدة الإخوة العرب والرؤساء الاشقاء، ضد الإرهابيين والمخربين وعملاء الشياطين من الشعوب والجماهير والثارين الجائعين.. إنه خطاب صريح لكل من تسول له نفسه.. ويوحي إليه شيطانه.. وتؤزه مشاعره.. إن حاول أن يشق يد الطاعة من سيده وملكه ومولاه.. فمصيره أن الدول الشقيقة، متحالفة مع بعضها الى آخر رمق، ستقف ضده وتعيد الحق إلى أصحابه من ذوي الفخامة والقداسة والجلالة.. وما أموال الدول وجيوشها وشرطها وخبراؤها إلا لهذا القصد.. ولا يغرنك أن الملوك والرؤساء والامراء قد تراجعوا في بداية الربيع العربي.. وقدموا تنازلات.. وتركوا الهمج الرعاع يطوفون ويسبون ويصرخون ويتجرأون على أسيادهم في الشوارع.. فهذا الفصل من عمر الدول العربية.. قد مضى إلى غير رجعة .. وذهب دون أن يترك أي أثر.. لقد أظهر حدث الإفراج عن مبارك وسحل الآلاف في الشوارع وقتلهم وسجنهم.. وإبادتهم بالكيماوي.. أن زعماء الدول العربية، قد تعاهدوا على المضي قدما دون رادع أو خجل، في التشبث بالكرسي، وتدمير من يحاول زعزعة استقرارهم.. وأظهر أن الوحدة العربية قائمة كالبنيان المرصوص، ليس بين الشعوب، وإنما بين الأشقاء الزعماء.. وأظهر أن سيف الحجاج هو الخيار القادم لأي ثورة.. لأن المال الخليجي متوفر.. والغطاء العربي موجود.. والسكوت العالمي متاح.. وأظهر أن الدعم متيسر ماديا وإعلاميا وسياسيا وعسكريا وإيديولوجيا.. فلماذا تتجرأ الشعوب على من يقودها نحو التنمية والاصلاح والرقي؟. وأظهر كيف أن الشعوب لا زالت تخدع ببساطة ويسر.. وأن نسيانها شبيه بنسيان الأطفال.. وأظهر أن الحرية والكرامة والانعتاق من الاستبداد والعبودية.. لابد له من تضحيات جسام.. وأظهر كثرة المتسلقين والمنافقين وتجار الدماء وخونة البلاد والعباد.. وأظهر عمق التبعية والارتباط بالدول الكبرى.. وأننا لا زلنا في استعمار واستحمار واسترقاق يشبه ما تحدث عنه عباس العقاد.. وأظهر كذلك وهذا أخطر، ألا فائدة ترجى من ثورة، إذا عاد رئيسها المخلوع، مظفرا محلقا في المروحيات.. محميا بمواكب الأمن والقنوات.. وأن الثورة إن لم تكن مزلزلة عنيفة كاسحة للنظام القديم.. فهي ذر للرماد وضحك على الذقون وعبرات للتماسيح والعفاريت.. كعفاريت ابن كيران.