أرشدت السنة النبوية إلى الاعتناء بالجسد من خلال السعي في تقويته والأخذ بأسباب صحته، والتوازن في تغذيته من غير إسراف ولا مخيلة، كما وجهت السنة النبوية إلى الطرق المثلى في التعامل مع الأغذية النافعة وحفظها من التبديد والإهدار، وهذا يؤكد على واقعية التوجيه النبوي وتوازنه بين مطالب الروح والجسد والظاهر والباطن. التحذير من إهمال التربية البدنية: قد يحصل لدى البعض اندفاع كبير في مجال نوافل العلم والصيام والقيام أوغيرها من الاهتمامات الأخرى، بحيث يهمل الحقوق الأخرى، ومنها الحقوق البدنية، مما يؤدي إلى الفتور وربما الانقطاع بالكامل، لذلك جاء التوجيه النبوي الحكيم بالتوازن بين حقوق الروح وحقوق البدن، وأن المسلم مأجور في ذلك كله، إذ إن كل جانب يكمل الآخر. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن عمرو، بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حظا، ولعينك عليك حظا، وإن لزوجك عليك حظا، صم وأفطر، صم من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صوم الدهر» قلت: يا رسول الله، إن بي قوة، قال: «فصم صوم داود عليه السلام، صم يوما وأفطر يوما» فكان يقول: «يا ليتني أخذت بالرخصة». وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجوع؛ لما فيه الإضرار البدني، مما يتسبب في إضعاف أعمال الروح، فالبدن مطية الروح، فكان لا بد من خدمته ليتحمل أعباء العمل، ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة، قال: كان رسول صلى عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة». وإنما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع لأنه قاطع عن العمل، كما قال الطيبي - رحمه الله -: الجوع يضعف القوى ويشوش الدماغ، فيثير أفكارا ردِية، وخيالات فاسدة، فيخل بوظائف العبادات والمراقبات، ولذلك خُصَّ بالضجيع الذي يلازمه ليلا، ومن ثمَّ حُرِّم الوصال. انتهى التحذير من الإفراط في الغذاء: وكما أن الجوع يضر بالبدن ويقعده عن العمل، فإن الشبع المفرط كذلك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره كثرة الأكل، ويحذر من الإسراف فيه، وهو الأكل فوق الشبع، وكان يرغب المسلم بالاقتصاد في الأكل، بحيث يتوازن بين طعامه وشرابه ونفَسِه، ففي سنن النسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف، ولا مَخِيلة». وفي سنن الترمذي عن مقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنَفَسِه». قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها. انتهى. وقد أشار ابن القيم عند كلامه على هذا الحديث إلى أنه القانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب، وعقد فصلا في هديه صلى الله عليه وسلم في الاحتماء من التخم، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة، وقال: مراتب الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة، والثانية: مرتبة الكفاية، والثالثة: مرتبة الفضلة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع، فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن، هذا إذا كان دائما أو أكثريا، وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به، فقد «شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال: "والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا". انتهى. وفي المسند عن جعدة بن هبيرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده، ويقول: «لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك».وفي هذا إشارة إلى كراهة الاستكثار من الأكل المؤدي إلى السمنة، وتوجيه إلى التوازن في النظام الغذائي بالتوسط والاعتدال، وانصراف همة المسلم إلى ما هو خير له. ومن التوجيهات النبوية في التوازن الغذائي الحث على الإكثار من الصيام، حيث يعد الصيام من أسباب الصحة البدنية، فضلا عن الفوائد الروحية والإيمانية، يقول عبد الحميد بن باديس في مجالس التذكير: شرع الصوم ليقاوم شر شهوة الطعام، لما فيه من راحة للمعدة ونقاء، وتربية على امتلاك زمام نفسه عن الشهوات والملذات، وعلى استطاعة حملها على الجوع والعطش عند الاقتضاء، فالصوم ضرورة لنظام الغذاء وحفظ الصحة البدنية وعون للإنسان على حسن استعماله لآلته الترابية الأرضية للترقي إلى آفاقه الروحية النورانية وكمالاته العلوية. انتهى. الحفاظ على الغذاء من الإهدار: وفي السنة النبوية التوجيه بحفظ الطعام والغذاء عن الإهدار والإسراف، ففي صحيح مسلم عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها، ولا يدعْها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة». قال ابن هبيرة في الإفصاح: وذلك لئلا يكون مضيعًا للمال من جهة أن تلك اللقمة قد تكون سادة جوع مسلم أو مثقلة للميزان، ميزان متصدق بها أو ببعضها، فلا معنى في إضاعتها؛ فربما تكون ميزانه في القيامة قد وقفت على أن ترجح تلك اللقمة، وإذا رجحت بها دخل الجنة، وإن لم تكن اللقمة فرجحت سيئاته دخل النار، فيكون إهماله لتلك اللقمة وتكبره عن أن يزيل عنها الأذى قد أدخله النار؛ ولو فعل لأدخله الجنة، وهذه اللقمة أمر ظاهر وميزانها مكشوف، والوزن فيها بيِّن، وكم فيها من ذرة، وقد قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره} الزلزلة: 7-8. ولأن البركة قد تكون في تلك اللقمة. انتهى وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحفظ اللقمة الواحدة، فكيف بملايين الأطنان المهدرة من الغذاء في العالم اليوم، فنحن أمام ظاهرة عالمية في إهدار الغذاء، حيث جاء في تقرير منظمة الغذاء العالمية إن المواد الغذائية المهدرة عبر العالم وصلت إلى 931 مليون طن، ما يمثل 17 في المائة من الأغذية المتاحة للمستهلكين في عام 2019، وأن العالم العربي يهدر أكثر من 40 مليون طن من الغذاء في مكب النفايات، في الوقت الذي تعتبر بلدان المنطقة من أكبر البلدان استيراداً للغذاء.