الثقافة هي بناء تكاملي وظائفي من الثقافة التأملية والثقافة المعاشة وهي تملك وسائل وإمكانيات لا حدود لها لإحياء وانتعاش الذات الحضارية للشعوب وضمن هذه الثقافة الإنسانية تنمو وتتوالد أنواع مختلفة من الثقافات منها ما هو شعبي وما هو غير شعبي، منها ما هو متعالي ومتعالم و منها ما هو متعايش ولا كتابي من قبيل الثقافة الشعبية التي تولد من أحشاء الذاكرة الجماعية وتتمتع بحيوية وتواصل انساني واجتماعي وثقافي لأنها بطبيعتها وموضوعها ووظيفتها فن وثقافة حياة. وضمن هذا المفهوم الشامل تندرج ثقافتنا الامازيغية بكل وسائلها واشكالها التعبيرية المتداولة الشائعة والمتوارثة من رقص ورسم وتشكيل وتمثيل وشعر واحتفال ويشترك في ادائه وانتاجه ابناء المجتمع الامازيغي الذين نشأوا فيها وهم يتوارثون هذا الارث الثقافي تلقائيا مع التزامهم بقواعد وتقاليد هذه الثقافة. في العقود الاخيرة خضعت الثقافة الامازيغية الى العديد من الدراسات الميدانية والتحليلية والعلمية والمقارناتية من قبيل الدراسات الانتروبولوجية والاثنولوجية محاولة الكشف عن ذات الانسان المحلي في تتابعها التاريخي وانتشارها الجغرافي ومن خلال صور واشكال وانماط ووسائل ابداعه. وكان "علم" الفولكلور كعلم تاريخي يحاول ان يلقي ضوء على ماضي هذا الانسان وهو "علم" جديد يحاول ان يصل الى اغراضه –لا عن طريق التأملات والاستنتاجات- بل باستخدام طرائق القياس التي تستعين عند التحليل بسائر الابحاث العلمية الطبيعية او التاريخية وهي ترى في الثقافة الامازيغية صورة للمجتمعات اللا كتابية، مجتمعات وصفوها بالافتقار إلى لغة مكتوبة وتنتمي إلى مؤسسات اجتماعية بسيطة التنظيم ومحدودة الانتشار و لا تعبر إلا عن أعداد قليلة من الناس إضافة إلى إنها منعزلة عن الثقافات الأخرى واتهموها بالقصور وانها مصابة بمرض فقدان التطور وتتغير بشكل أبطا من الثقافات الأخرى !!! هذه الأحكام " الفولكلورية" بنيت انطلاقا من نزعة مركزية أوربية حيث يفضلون ثقافتهم وآدابهم وفنونهم على الثقافات الأخرى وينظرون إلى الثقافة الشعبية باعتبارها الشكل المشوه المنحرف عن المألوف مما يجعل تطبيق الوصية الدينية التي تأمر بتجنب شهادة الزور صعبا في هذا الحقل من حقول الثقافة الشعبية. فأندريه بأسي A-BASSET يرى أن الامازيغية لغة منحطة– وبدائية (لا تسمو إلى مقام لغة ولا إلى مرتبة ثقافة) وسايره في نفس الاتجاه والراي إميل لا ووست E-LAOUST الذي اعتبر اللغة الامازيغية (لغة عنيدة متصلبة جامدة وغير حضارية ) ثم وافقهما أندري أدام A-ADAM (وكان من موظفي الإدارة الاستعمارية ) لما اعتبر الامازيغية لغة تفكير بدائية وقال أن ( البربرية – ويقصد اللغة – ليست لغة ثقافية ). هذه التصورات الانتروبولوجية- الفولكلورية ذات المنحى الكولونيالي حول اللغة والثقافة الامازيغيتين تعبر عن نزعة استعلائية -أثنية - عنصرية إزاء ثقافة الآخر وهي تصورات نشأت وانتشرت مع المدرسة الكولونيالية بمناهج وادوات جديدة (الانتروبولوجية) وهي ما تزال مستمرة وبصيغ جديدة اذ انه بعد الاستقلال السياسي وعوض أن يتم تدمير وتصفية كل أشكال الفكر الكولونيالي إلا انه سيتم تغييب المسالة الثقافية من برامج الاحزاب السياسية الوطنية (وحتى حين تحضر فلا يكون لها وجود إلا في البرامج الانتخابية أو في المناكفات والمشادات الاعلامية والدعائية ...) وفي المقابل تم ما يزال التركيز على مسالة التعريب والتغريب ليس بالمعنى الثقافي والحضاري و إنما في صورته الإيديولوجية. والمغرب المعاصر اليوم في حاجة ماسة الى مقاربات فكرية متعددة ومختلفة للوعي بالمعيقات الذاتية والموضوعية وفي حاجة ماسة الى استراتيجية أبستمولوجية تحرر هذه المعرفة وتخلخل تاريخ البنيات الفوقية الوطنية وتحرر العمق الاستراتيجي للبنيات المعرفية الوطنية من كل النزعات العلموية الاختبارية ومن كل النزوات الوجدانية المشحونة بهالة عاطفية ومن كل الاستقطابات الايديولوجية او الفئوية او الانتخابوية والذي يخشى منه ان يغرق النقاش الى ما لا نهاية له او ان يعيده الى المرحلة التي وضعه فيها الظهير الاستعماري 1930؟؟ فكيف الوصول الى تحرير المعرفة الوطنية من القولبة والمجانسة والمشابهة والتدجين العنيف ؟ وكيف يمكن النهوض بالمسالة الامازيغية؟ وهل يجب اعادة بناء مفهوم التعددية الثقافية على اسس جديدة او على اساس الوحدة دون المغايرة ؟ للتعددية الثقافية تاريخ يمتد لأكثر من نصف قرن مضى وهذا التاريخ كله يحمل تراكما ثقافيا وجداليا منه ما هو فلسفي وسياسي وقانوني ومؤسساتي وشارك في اغنائه كل اطياف الباحثين والعلماء والدارسين وخصوصا علماء الاجتماع الذين استطاعوا ان يثيروا النقاش حول هذه المقولة (التعدد الثقافي) لكنهم كانوا اقل تركيزا واقل حزما من مثقفين اخرين كانت لهم الجرأة في اثارة المشكلات والاشكالات التي تجعل تطبيق التعددية الثقافية امرا عسيرا وهذا ما اشار اليه ويل كيمليكا Will kimilicka عندما سعى الى تقوية وتعزيز النقاش بتحليلات عملية لا فقط بملاحظات نظرية لان التعددية الثقافية في نظره تنبع من ملاحظة مفادها انه توجد في المجتمع المعني فروق ثقافية وترى ضرورة الاعتراف بتلك الفروق وهي صورة عن المجتمع وصورة عن الفئات الثقافية المتمايزة التي يفترض انها تقبل العيش معا ديموقراطيا من خلال الربط بين تأكيد خصوصياتها واحترام القيم الانسانية العالمية (القانون – العقل). ان روح التعددية الثقافية تكمن تحديدا في نظر ويل كيمليكا في هذا التمفصل الديموقراطي القائم على مبدأين يصعب المواءمة بينهما وهما الاعتراف بالخصوصية الثقافية واحترام القيم الكونية وهكذا يمكن القول ان تطبيق التعددية الثقافية يصطدم بالضرورة بمشكلات كبيرة فنحن لا نعيش في عالم مجرد وحالم بل في عالم متحرر ومتغير ومتنوع ولا نهائي. فمنا من لا يرى بالضرورة المشاركة في علاج تعددي ثقافي يدخلهم في المجتمع يرون انه قد دمرهم والبعض الاخر يطلب العيش في عزلة بصورة مستقلة مع قوانينهم الخاصة ولهذا دفعت هذه التعددية الثقافية الى دخول الدين في النقاش العمومي والخصوصي للظاهرة. في السنوات الاخيرة تجرا البعض وارهق النقاش الثقافي والسياسي حول المسالة الامازيغية عبر اقحام العامل الديني وكان المسالة ليست قضية ثقافية بل ان المسالة الثقافية والسياسية للأمازيغية تكتسي سياقا دينيا والغاية من استدخال الدين في اللعبة هو خلق تناظر معقد بين الهوية والدين الا ان الدين ليس هو الثقافة وانما كما يرى عالم الاناسة كليفور غيرتز Glifford GEERTZ بإمكانه الارتباط بها ارتباطا قويا، فهل يريد بعض هؤلاء ان نقصد بالأمازيغ شعبا يضم غير اللامؤمنين او غير المؤمنين واللاادريين والملحدين منه؟ ان ادخال العامل الديني في النقاش حول المسالة الامازيغية هو خطا ومن الخطأ اختزال الدين في ابعاده الثقافية فقط فهو قد يثير مشكلات معقدة. ان الدين هو من جنس الايمان والاعتقادات لا من جنس الاستبطان البسيط لعناصر ثقافية.. ماذا لو افترضنا مثلا اننا نعالج ونناقش مسائل تتعلق باللباس المشرقي (البرقع والحجاب) واللباس الامازيغي (ادال – الشايت – لقطيب- تاسبنيت..) فان مثل هذا النقاش حول التعددية الثقافية سيبدو باهتا ومحدودا لأنه يقف عند الشكل والمظهر ولا يتابع ويتتبع العمق والجوهر. كما ان هناك من اعاد النقاش الى مفهوم العرق وسعى البعض الى ابرازه عبر تقديمه في الفضاء العام بوصفه معركة من خلال الصفات البيولوجية او الفيزيائية فبدا نوع من الاعتداد والاعتزاز بالعرقية التي لا طعم لها وكأننا مختلفين جسديا ومتباينين عقليا وغير متكيفين ثقافيا وعاجزين عن الاندماج في المجتمع السائد. وهكذا فان ادخال التعددية الثقافية في لجة الصراع الديني ستحيلنا حتما الى مجال اخر هو مجال اللائكية فيما تحيل مسالة التمييز العرقي الى الصراع الهوياتي .. ولقد تناولت كاترين اودار هذا الموضوع حين اكدت ان التعددية الثقافية تؤدي الى اضعاف الدولة القومية وتأجيج الانقسامات وتهديد الاجماع الذي يهدد في الوقت نفسه الديموقراطيات المعاصرة فاين يكمن الحل؟ حتى الذين راهنوا على الحداثة والعولمة صدمتهم هذه الاخيرة لأنها تحض على احترام القيم "العالمية" للقانون والعقل والمعنى الدقيق لفكرة (الحقوق الثقافية) في نظر تيار العولمة والتحديث انه يجب ان لا تسند (الحقوق) الا للأشخاص لا الى الفئات والاقليات والجماعات والحق هو خيار فردي (الليبرالية) ولذا يجب ان نسمح لأي فرد ان يكون سيد وجوده دون ان يتقمص هوية جماعية او يتبنى خصائصها في العيش والغذاء والثياب والاخلاق ...ان العولمة تنفي الخصوصيات وتدعو الى العقل الكوني !!! وكما عارض روادنا ومفكرونا في السابق التصورات الكولونيالية ومخرجاتها من الكتابات الاتنولوجية و الانتروبولوجية التي تقيم فصلا بين الحضارة الأوروبية وثقافة الشعوب الأخرى فقد عارض اخرون كل اشكال القراءات "الجديدة" التي ادخلت الدين في اللعبة او لعبت على استعادة العرقية الفيزيائية والبيولوجية اواحتمت بأيديولوجيا العولمة والحداثة لأنها جميعا تعيق التطور الحضاري والانساني. ان التعددية الثقافية تستدعي قواعد ومعايير وسياسات على مستويات عدة عالمية واقليمية وقومية ومحلية وان التفكير بإمكانات ادراج التعددية الثقافية ضمن جميع هذه المستويات وتنظيمها يمكننا من السماح لها بالتكيف مع العالم المعاصر. ان اكبر اساءة لمفهوم وشعار التعدد او التنوع الثقافي واللغوي في بلدنا واكبر حركة تخريبية في وجه الوحدة (قائم ليس فقط في الاخر وفي الخارج اوفي الخطر الخارجي بل كامن كذلك في تصورنا للوحدة وفي سلوكنا تجاهها وفي امكان استغلالها سياسيا كأداة للقولبة والمجانسة والمشابهة ...كما استعملت الاشتراكية والديموقراطية وغيرها من الشعارات النبيلة لخدمة نقائضها احيانا) محمد سبيلا لابد من نقد الميتافيزيقا السائدة ومؤسساتها السياسية والثقافية المغروسة في الحقل الثقافي الوطني لأنها لا تؤسس لتنوع ثقافي يحقق الاجماع ولا تفصح عن الذات المتعددة والذاكرة المتعددة ولا تبني للتعددية الثقافية التي تمثل حقائق عالم اليوم. وهكذا اصبح ضروريا اعادة بناء مفهوم جديد للتعددية الثقافية يقوم على : حق الاختلاف وهو ليس حقا فرديا بل هو حق اجتماعي يجد اساسه في الواقع الاجتماعي نفسه لان (كل مجتمع في جوهره مجتمع متعدد) وهو في النهاية وحدة تباينات وتمايزات ووحدة فروق وتناقضات بل ان الهوية ذاتها ليست وحدة مغلقة وانما تتكون من قوى مختلفة تنطلق من الجذور الطبيعية والتاريخية التي تشكل الوجود الانساني كما ان الديموقراطية نفسها مفهوم قائم على مبدا المغايرة لأنها هي حق الاخر في الوجود وفي ابداء الراي واختلاف في اللغة وفي التعبير الثقافي ونمط التفكير والابداع... حق النقد للمؤسسات السياسية والثقافية ونقد الافكار والمفاهيم التي يتداولها علم السياسة الوطني حول المغرب مجتمعا وثقافة وهنا يمكننا الرجوع الى الدور السلبي للحركة الوطنية تجاه مسالة التعدد الثقافي واللغوي حين ربطت عناصر الهوية المغربية باللغة والدين والغت الامازيغية بل انها استخدمت الظهير البربري 1930 وسيلة لخطابها الايديولوجي ان لم نقل تبريرا للهيمنة الحزبية والسياسية والمركزية ولا زلنا نجد اثارا لمثل لهذه التصورات الايديولوجية عند العديد من الاحزاب ومفكريها واعلامييها وهو ما يدل على ان الحركة الوطنية لا تزال تعيش (عقدة التجزئة) كما انها عاجزة عن طرح تصور شامل للتحول الديموقراطي والتنوع الثقافي الوطني. ضرورة اخراج التعددية الثقافية من الاطار المؤسساتي الصارم ومن النزعة الهوياتية العاطفية وربطها بالتحديات والتغيرات العالمية والاقليمية والوطنية والمحلية حتى يمكنها التكيف مع العالم المعاصر. إن مهمة النهوض بالأمازيغية هي عنصر من عناصر معركة الديمقراطية : معركة دمقرطة الإعلام والتعليم والمؤسسات الوطنية والتشريعات والقوانين – ومعركة احترام حقوق الإنسان وكرامته ومرتبطة كذلك بمعركة الإصلاحات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للقضاء على التخلف والتأخر وضمان تنمية مستديمة لكل مناطق البلاد وخصوصا البوادي والقرى النائية في الاطلس والريف. لذا على كل مواطن غيور وكل مدافع عن حق الامازيغية في الحياة إلى رفع شعار (الامازيغية مسؤولية وطنية) أي مسؤولية كل القوى الوطنية و الديمقراطية بدون استثناء ....إنها معركة الجميع