الثقافة هي بناء تكاملي وظائفي من الثقافة التأملية والثقافة المعاشة . وتملك وسائل وإمكانيات لا حدود لها لإحياء وانتعاش الذات الحضارية للشعوب . وضمن هذه الثقافة الإنسانية تنمو وتتوالد أنواع من الثقافات منها ما هو شعبي وما هو غير شعبي , منها ما هو متعالي ومتعالم و ما هو متعايش ولا كتابي كالثقافة الشعبية التي تنبثق من أحشاء الذاكرة الجماعية, وهي ليست حالة من الإبداع والخيال الذهني فحسب بل هي وعاء للمعتقدات والعادات والقيم و الأعراف التي تجسدت في الماضي وتجلت في حضارة هذه الذاكرة الجماعية ,وهي لا تبقى حبيسة هذا الماضي كما أنها لا تمنعها هذه الذاكرة من استعادة وعيها المعاش والراهن . و الإنسان كما تمثلته هذه الثقافة ليس كائنا أزليا بل وليد الذاكرة التاريخية التي تجسد له معنى ودلالة وجوده . ضمن هذا التعريف يمكن أن يندرج مفهوم الثقافة الشعبية الامازيغية , وهي كباقي أشكال الثقافات الشعبية للشعوب المماثلة ذات القيمة الحضارية أو كأنساق تعبيرية و دلالية تعبر وتحاكي الواقع والطبيعة بوسائل لسنية وغير لسنية مثل الحركات والرقص و الرسم والتشكيل والتمثيل والاحتفال … و تشكل بالنسبة للإنسان الامازيغي حاجات روحية وطبيعية , لذا يتم المحافظة على هذه الأشكال التعبيرية بشكل عفوي ومنظم لأنها شبه قوانين رمزية وعرفية تساهم في تنظيم الأفراد و الجماعات وتسايرهم مسايرة تامة ودائمة. الثقافة الشعبية الامازيغية تبقى مرتبطة بالمجال القروي والفضاء الجبلي خصوصا , ومرتبطة بساكنته المحافظة المتمسكة بالأرض والموطن . وان الحديث عن هذا المجال الذي تسود فيه هذه الثقافة الأصلية ولغتها الأم كان محط اهتمام الباحثين الأوربيين منذ بداية القرن التاسع عشر: من أمثال روبير مونطاني -ROBERT MONTAGNE- وجاك بيرك – JACQUES BERQUE – و الإخوان باسي BASSET F- و جوستينار -JUSTINART – وإميل لاووست- LAOUST E -وحتى من الباحثين المغاربة منهم من سار على نهجهم , مثل السوسيولوجي المغربي بول باسكون PAUL PASCON. لقد كونت هذه الكتابات عن الشعوب الأخرى ,مدخلا خاصا لدراسة الحضارات بالمقارنة, عرف فيما بعد بعلم الاثنوغرافيا الذي اعتمد الوصف المجرد في الكتابة من دون تحليل أو تعليل. و أكدت هذه الكتابات الاتنوغرافية والانتروبولوجية ذات المنحى الكولونيالي أن المغرب منقسم في تنظيمه الداخلي إلى مجالين متنافرين : الأول يمثله بلاد المخزن والثاني بلاد السيبة, أي البلاد التابعة للسلطان أو السلطات الاستعمارية آنذاك , كالمدن التاريخية القديمة (فاس – الرباط – مراكش – …) والبلاد الخارجة عنهما ( بلاد الامازيغ ) . ويرى بعض من هؤلاء الدارسين والمؤرخين أن حدود هذا المجال الاخير يطابق حدوده اللغوية( بلاد ناطقة باللغة الامازيغية) . وان تنظيمه الداخلي يعكس تقاليد امازيغية عريقة في الممارسات والمعتقدات وأنماط العيش . وبذلك تكون اللغة والثقافة الامازيغيتين رهينة هذا المجتمع القروي/القبلي التي تتداول فيه بتنوعاتها وخصوصياتها وعفويتها , ولأجل إماتة و إزاحة الإنسان الامازيغي عن أرضه وموطنه قامت الدوائر الكولونيالية وباجتهادات من الباحثين والدارسين من رواد المذاهب الانتروبولوجيا و الاتنولوجيا , بمحاولات تحطيم الكيان الثقافي واللغوي للاما زيغ عبر العديد من الكتابات و الدراسات الانتروبولوجية و الاتنولوجية (ثقافات الشعوب البدائية) . فاندريه بأسي A-BASSET يرى أن الامازيغية لغة منحطة – بدائية (لا تسمو إلى مقام لغة ولا إلى مرتبة ثقافة) وسايره في نفس الرأي إميل لاووست E-LAOUST الذي اعتبر اللغة الامازيغية (لغة عنيد ة متصلبة جامدة وغير حضارية ) ووافقهما أندري أدام A-ADAM (وهو من الموظفين داخل الإدارة الاستعمارية ) حين اعتبر الامازيغية لغة تفكير بدائية وقال أن ( البربرية – ويقصد اللغة – ليست لغة ثقافية ) . هذه التصورات الانتروبولوجية ذات المنحى الكولونيالي حول اللغة والثقافة الامازيغيتين تعبر عن نزعة استعلائية -أثنية – عنصرية إزاء ثقافة الآخر, لكن هذه التصورات اللغوية والثقافية التي ظهرت مع نشوء المدرسة الكولونيالية والمناهج الانتروبولوجية ما تزال مستمرة وبألوان أخرى حيث انه بعد الاستقلال السياسي , عوض أن يتم تدمير وإقبار هذه النظريات المذهبية المتوحشة , وتصفية كل أشكال الفكر الكولونيالي إلا انه يتم تغييب المسالة الثقافية من البرامج السياسية للأحزاب الوطنية (وحتى حين تحضر فلا يكون لها وجود إلا في البرامج الانتخابية أو في المناكفات والمنافحات الانتهازية …) ولا اثر واضح لهذه اللغة في البرامج التعليمية ولا في المقررات الدراسية. وفي المقابل تم التركيز على مسالة التعريب والتغريب , ليس بالمعنى الثقافي والحضاري و إنما في صورته الإيديولوجية مما أدى إلى تهميش وإقصاء هذه الثقافة عبر تهميش وإقصاء البادية المغربية من التنمية المستدامة . ولقد عارض الأستاذ محمد شفيق هذه التصورات الكولونيالية وربيباتها من الدراسات الاتنولوجية و الانتروبولوجية التي تقيم فاصلا بين الحضارة الأوروبية وثقافة الشعوب الأخرى. كما تعرض لبعض القراءات التأويلية لكتاب مغاربة و رأى أن التعصب سواء أكان دينيا أم إيديولوجيا أو قوميا فانه يعيق التطور الحضاري ويضيع فرص الوحدة والتكتل والتجانس ويقضي على القيم الأخلاقية والإنسانية. وللتدليل على الحيف والتهميش الذي تعانيه اللغة والثقافة الامازيغيتين ومن خلالهما تهميش الساكنة الامازيغية وموطنها في البادية المغربية : – أ – على المستوى التشريعي ما يزال المغرب متأخرا في إخراج النصوص القانونية التطبيقية التي بإمكانها أن تتبوأ اللغة والثقافة الامازيغية مكانتها الطبيعية في السوق الرمزية للغات والثقافات بالمغرب , – ب – على المستوى السياسي ما تزال الاختيارات والأولويات التي تبنتها بعض التنظيمات السياسية (حزب الاستقلال ) قبل وبعد الاستقلال تحت ضغط الرغبة في تحقيق الدولة الوطنية المركزية التي تتجاهل اللغة والثقافة الامازيغية بدافع مقاومة الغزو الأجنبي وتحصين الذات على حساب الخصوصيات الثقافية واللغوية و الاثنية المغربية . – ج – اختزال الهوية الوطنية في البعد الثقافي العربي المشرقي و الإسلامي متجاهلة بذالك الحقوق اللغوية والثقافية للمغاربة الناطقين بالامازيغية عكس ما كان عليه الأمر في العصور الماضية مع الدول و الإمبراطوريات المغربية بشمال إفريقيا والمغرب الكبير, حيث كان الإسلام هو دستور الدولة والعربية لغة فقهائها ,ولكن دون طمس أو تهميش للغة الامازيغية , لغة القبائل والزعماء وكبار القوم (المرابطين والموحدين والسعديين …) – د – على المستوى الاجتماعي والثقافي لوحظ إقصاء ممنهج للبادية من مسلسلا ت التنمية والاكتفاء باستغلالها ظرفيا في الانتخابات (الأصوات الانتخابية) والصراعات حول السلطة (تمرد عدي اوبيهي نموذجا ) بعد أن كانت البادية هي منطلق فيالق جيش التحرير والمقاومة المسلحة (ثورات موحى اوحمو الزياني بالأطلس المتوسط وعبد الكريم الخطابي بالريف وانتفاضة ايت بعمران ) ولوحظ ذالك التهميش أكثر في البادية السوسية وهو تهميش لم يطل الجانب الاجتماعي فقط بل إن الثقافي تم إهماله وإقصاؤه وخصوصا الثقافة الشعبية التي هي أصلا موطنها هو البادية وحاملوها من ساكنة هذه المناطق المهمشة . – ه – على المستوى الاقتصادي فان الواقع المزري الذي تعيشه الثقافة الامازيغية يرجع بالأساس إلى كونها منتشرة بالخصوص في المجتمعات القروية التي كانت تعيش في ظل النظام القبلي والعشائري – الإقطاعي – أو ما قبل الرأسمالي , فتعرضت هذه الثقافة إلى الانهيار والتفكك تحت وطأة النمط الاقتصادي النقدي المعتمد على تمركز الرأس المال والملكية العقارية الفردية مما أدى إلى ظهور أنماط جديدة للسلطة تمثلت بتنظيم – الدولة – ومركزية السلطة تم حل التشريع القانوني محل العرف القبلي (ازرفان) إن هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية قد عصفت بكيان المجتمع القروي مما ترتب عنه انهيار وخلل طال أهم البنيات المجتمعية و الأسرية, كما شمل التغيير والهدم عدد من الممارسات والمعتقدات والقيم الحضارية وأنماط العيش ,,, وأهمها تلك القيم التي كانت توازن المجتمع القروي : كالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وما تخلقه من تكافل وتآزر …وبفعل هذه التغيرات السوسيو اقتصادية أصبحت اللغة والثقافة الامازيغيتين وما يرتبط بهما من ممارسات و تعابير فنية وقيم حضارية تتعرض تدريجيا لتلاشي و الإقصاء وفي أحيان أخرى تتعرض للتدجين والتهجين عبر صور فولكلورية أو متحفية , مما أدى إلى تسريع سيرورة استلاب الهوية الثقافية الامازيغية ومحاولة إفراغها من البنيات المكونة للشخصية الثقافية المغربية . – و – على المستوى الإعلامي ما يزال الإعلام العمومي غير مقتنع بأهمية الدور الثقافي للامازيغية . كما انه ما يزال بعيدا عن واقع مجتمعنا وواقع ثقافة الأمة المغربية بكل مكوناتها ويمكن القول أن التلفزة المغربية بكل قنواتها تجد فيها أصنافا من الثقافات المشرقية وغير المشرقية وألوانا من اللغات الأجنبية واللهجات العربية المحلية إلا اللغة والثقافة الامازيغية بل حتى تلك القناة الوحيدة (القناة الثامنة؟؟) تلجا إلى دبلجة عدد من أفلامها وبرامجها إلى إحدى اللهجات الامازيغية عوض إنتاج برامج امازيغية محضة . من المفروض أن تكون كل القنوات التلفزية العمومية والخاصة مرآة لواقع مجتمعنا ,وصورة مجسدة لتنوعنا الثقافي واللغوي و ألاثني , مما يجعل المواطن المغربي العربي اللسان أو الامازيغي اللسان معتزا بكل عناصر مقوماته الثقافية والتاريخية ,واعتبار التنوع والتعدد لا يتناقض مع وحدته ووطنيته بل مصدر قوته وتماسكه . لقد حذرنا المرحوم الأستاذ محمد كسوس السوسيولوجي المغربي ,واحد المؤسسين للمدرسة السوسيولوجية المغربية من داخل اليسار الوطني ,,, حذرنا من أن كل طعن في مكونات الثقافة الامازيغية أو العربية هو طعن في مستقبل وطاقات الشعب المغربي بكل فئاته , ولذا طالب بالدفاع عن الثقافة الامازيغية لأنها جزء من ثقافة الشعب وثقافة المجتمع المغربي , و دعا إلى رفع التهميش عنها مع اعتبار الامازيغية والعربية لغتين وطنيتين (إن المجتمع المغربي بدون نمو اللغة العربية اعور . وبدون نمو اللغة والثقافة الامازيغية أعمى) وفي نظر الأستاذ محمد شفيق فانه لا خوف من أي انحراف في مسارنا الوطني , ولا من أي انحراف من وحدتنا المتينة التي شيدها الامازيغ والعرب وغيرهما عبر قرون من الممارسات الوطنية , ولكن الخوف هو اتهام البعض لكل من يغار على التراث الامازيغي بالموالاة للمستعمر أو الاستقواء بالأجنبي وهذا الاتهام يعد في حد ذاته جريمة , إن مهمة النهوض بالامازيغية , هي عنصر من عناصر معركة الديمقراطية : معركة دمقرطة الإعلام والتعليم , والمؤسسات الوطنية والتشريعات والقوانين – ومعركة احترام حقوق الإنسان وكرامته وهي كذالك مرتبطة بمعركة الإصلاحات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للقضاء على التخلف والتأخر, وضمان تنمية مستديمة لكل مناطق البلاد وخصوصا البوادي والقرى النائية. لذا على كل مواطن غيور , وكل مدافع عن حق الامازيغية في الحياة إلى رفع شعار (الامازيغية مسؤولية وطنية) أي مسؤولية كل القوى الوطنية و الديمقراطية بدون استثناء …. إنها معركة الجميع.