لدعوة الإسلام براهين ناطقة بأنها دعوة حق، ولسان صدق، وأقوى تلك البراهين دلالة، وأملؤها للقلوب يقيناً ذلك القرآن الكريم، الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين. ولو لم تقترن دعوة الإسلام إلا به، لكان كافياً في إقامة الحجة على أنها الرسالة الشاملة الخالدة. وللبحث في إعجاز القرآن نواحٍ كثيرة، كشف عنها المفسرون، وأبان عنها أهل البيان، فبسطوا كثيراً من أسرارها، ووضعوا أيديهم على جانب عظيم من حقائقها. والحديث في هذا المقال يتجه إلى بلاغة القرآن الكريم، وحسن بيانه، فنقول: بلاغة القول: أن تكون ألفاظه فصيحة، ونظمه محكماً، ودلالته على المعنى منتظمة وافية. أما فصاحة ألفاظه، فبأن يسهل جريانها على اللسان، ويخف وقعها على السمع، ويألفها الذوق غير نابٍ عنها، وهي مع ذلك جارية على ما ينطق به العرب، أو يجري على قياس لغتهم وبيانهم. وأما إحكام نظمه، فبأن تقع كل كلمة منه موقعها اللائق بها؛ بحيث تكون كلماته متناسبة، يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا يمكنك أن تضع يدك على كلمة وتقول: ليت هذه الكلمة تقدمت عن تلك الكلمة، أو تأخرت عنها. وأما انتظام دلالته، فبأن يطرق اللفظ سمعك، فيخطر معناه في قلبك، وحصول المعنى في القلب بسرعة، أو بعد مهلة يرجع إلى حال السامع من الذكاء، أو بطء الفهم، وحال المعنى من جهة ظهوره، وقرب مأخذه، أو دقته وغرابته. ويتحقق انتظام دلالة الكلام بإخراج المعاني من طُرُقٍ تُريكَها في أقوم صورة، وأعلقها بالنفس، كالتشابيه، وضرب الأمثال، والاستعارات، والكنايات المصحوبة بقرائن تجعل قصد المتكلم قريباً من فَهْم السامعين. وأما كون الدلالة على المعنى وافية، فبأن يؤدي اللفظ صورَ المعاني التي يقصد المتكلم البليغ إفادتها للمخاطبين على أكمل وجه؛ بحيث تكون العبارة بمفرداتها وأسلوبها كالمرآة الصافية، تعرض عليك ما أودعت من المعاني، لا يفوت ذهنك منها شيء. والمراد من المعاني التي يؤديها الكلام غير منقوصة ما يشمل المعاني التي يراعيها البليغ زائدة على المعنى الأصلي الذي يقصد كل متكلم إلى إفادته، وهي المعاني التي يُبحث عنها في علم البيان، وتُسمى (مستتبعات التراكيب). هذه الوجوه هي التي يرجع إليها حسن البيان، يتنافس فيها البلغاء من الكُتَّاب والشعراء، ويتفاضلون فيها درجات، فترى كلاماً في أدنى درجة، وآخر في ما هي أرفع منها، ولا تزال تُصعِّد نظرك في هذه الدرجات المتفاوتة إلى أن تصل إلى كلام يبهرك بفصاحة مفرداته، ومتانة تأليفه، وانتظام دلالته، وبهجة معانيه المالئة ما بين جوانبه. فإذا أردنا أن نتحدث عن بلاغة القرآن، أتينا إلى البحث عنها من هذه الوجوه التي ألمعنا إليها؛ فننظر في ألفاظه من جهة فصاحتها، وفي نظمه من جهة أخذ كل كلمة الموضع اللائق بها، وفي دلالتها من جهة تصوير المعاني، وإيصالها إلى الأذهان من غير تكلف وتعسف، ولا التواء، ثم في جمله من جهة ما تحمل من المعاني التي يستدعي المقام مراعاتها. أما فصاحة مفرداته، فلا تمر بقارئه كلمة منه إلا وجدها محكمة الوضع، خفيفة الوقع على السمع. وأما متانة نظمه، فقد بلغت الغاية التي ليس وراءها مطلع؛ فلا يمكن -للعارف بقوانين البيان، الناظر في منشآت البلغاء بإمعان- أن يشير إلى جُملِة من جمله، ويقول: ليتها جاءت على غير هذا الوضع، أو يشير إلى كلمة من كلمها، ويقول: لو استبدل بها كلمة أخرى، لكانت الجملة أشدَّ انسجاماً، وأصفى ديباجة. يصل الكلمة بما يلائمها، ويعطف الجملة على ما يناسبها، ويضع الجملة معترضة بين الكلمتين المتلائمتين، أو الجملتين المتناسبتين، فترى الكلمتين أو الجملتين مع الجملة المعترضة بينهما كالبناء المحكم المتلائم الأجزاء، فلا يكاد الفكر يشعر بأنه انقطع بالجملة المعترضة عن الكلمة الأولى، أو الجملة، ثم عاد إلى كلمة أو جملة مرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً. وأما انتظام دلالته على ما يقصد إفادته وإحضاره في الأذهان، فترى فيه التشابيه الرائعة، والأمثال البارعة، والاستعارات الطريفة، والمجازات اللطيفة، والكنايات المنقطعة النظير، والتعريض الذي يقتضه المقام، فيكون أقرب إلى حسن البيان من القول الصريح. وقد يظن البعض أن في القرآن آيات مشكلة، أو متشابهة، والحق الذي لا ريب فيه، أن لا إشكال في القرآن عند من يتدبره برويَّة، ويأتي إلى التفقه فيه، وقد تزود بقوانين لغة العرب، ووقف على فنون بيانها. وليس في القرآن متشابه على معنى أن في الآيات ما لا يظهر تأويله للناس، بحيث يتلُونه، أو يستمعون إليه، ولا يعودون بفائدة علمية أو أدبية. وأما استيفاؤه للمعاني التي يستدعي الحال الإفصاح عنها، أو الإيماء إليها، فالمتأمل في الآية، والمتدبر للمعنى الذي سيقت من أجله، يعود منها ويده مملوءة من الفوائد التي يقف عليها؛ من حيث تقرر شريعة، أو تقيم حجة، أو تلقي موعظة، أو ترسل حكمة، إلى نحو هذا مما تستبين سبيل الرشد، وتنتظم به شؤون الحياة، وترتفع به النفوس إلى أعلى درجات النجاح في دنياها، وأعلى درجات الفلاح في أُخراها. لقد بلغ القرآن الغاية من حسن البيان، على الرغم من أشياء اجتمعت له، ولو عرضت لكلام مخلوق، لنزلت به عن المكانة العالية إلى ما هو أدنى. ترى البليغ من البشر يحسن البيان، ويأخذ لُبك بالمنشآت الرائقة، حتى إذا طال به مجال القول، وقطع فيه أشواطاً واسعة، رأيت في جمله أو أبياته تفاوتاً في البراعة، وأمكنك أن تبصر فيها ضعفاً، وتستخرج بنقدك الصحيح من أواخر كلامه مآخذ أكثر مما تستخرج من أوائلها. بيد أن القرآن على طول أمده، وكثرة سوره، نزل متناسباً في حُسن بيانه، كما قال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} (الزمر:23) وقال سبحانه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82). وترى البليغ من البشر يخوض في فنون من الكلام متعددة، فإذا هو يرتفع في فنٍ، وينحط في آخر، ولكن القرآن الكريم يتصرَّف في فنون كثيرة؛ مثل: الوعظ، وإقامة الحجج، وشَرْعِ الأحكام، والوصف، والوعد والوعيد، والقصص، والإنذار، وغير ذلك من الوجوه التي تتصل بالهداية العامة، فلا تتفاوت فيها ألفاظه الرشيقة، وأساليبه البديعة. والمعروف أن القرآن الكريم أتى بحقائق، أسَّس بها شريعة واسعة النطاق، وليس من شأن هذه المعاني أن تظهر فيها براعة البلغاء، كما تظهر في ما ألفوه من نحو: المديح، والرثاء، والتهنئة، والغزل، ووصف المشاهد، إلى غير ذلك مما يطلقون لأفكارهم فيه العِنان، فتذهب مع الخيال كل مذهب، وترتكب من المبالغات ما استطاعت أن ترتكب، والقرآن الكريم يعبر عن تلك المعاني التي تستدعي صدق اللهجة، وصوغ الأقوال على أقدار تلك الحقائق، فترى الفصاحة ضاربة أطنابها، والبلاغة مرسلة أشعتها. في بلغاء البشر من تحس من شعره أو خطبته أو رسالته، أنه لم يكن يتصنع في ما يقوله؛ ذلك أنك تجد في كلامه: الجيد، والوسط، والرديء، وفيهم من تحس في ما يقوله التصنع، وهذا هو الذي يغلب على كلامه المنظوم أو المنثور الجودة في تصوير المعنى، والتعبير عنه بكلام موزون، أو غير موزون. ولكن القرآن الكريم بالغٌ الغاية من حسن البيان، فلا يجد فيه الراسخ في نقد المنشآت البديعية ما ينزل من الدرجة العليا، بل يحس روح البلاغة التي لا يحوم حولها شيء من التصنع سارية في آياته وسوره، سواء في ذلك تصويره للمعاني، أو نظم الألفاظ الناطقة بها. ومن مظاهر بلاغة القرآن: أنه يورد القصة في أوفى درجة من حسن البيان، ثم يعيدها في سورة أخرى على حسب ما يقتضيه مقام الوعظ، حتى إذا عقدت موازنة بين حكايتها هنا، وحكايتها هناك، وجدتهما في مرتبة واحدة من البلاغة، لا تنزل إحداهما عن الأخرى بحال. أما البليغ من البشر، فقد يسوق إليك القصة في عبارات أنيقة، ثم يريد أن يعيدها مرة أخرى، فإذا هي في درجة من البراعة منحطة عن درجتها الأولى.