الملخص: الألفاظ العربية عبر تاريخها الطويل، تمتاز بالمرونة و السلاسة و سهولة الاستعمال، و لهذا الأمر أسباب عديدة تضافر الزمان و المكان و الإنسان لتتويجها على عرش البلاغة و البيان، أيام كان السلم و الحرب ينصاعان لسلطة الكلمة البليغة و الشاعر و الخطيب. و لأجل هذا وغيره ، اختار المولى عز و جل هذه الألفاظ لتحمل الرسالة الخاتمة إلى البشر أجمعين و تكون في الختام لغة أهل الجنة المنعمين. الكلمات المفتاحية: اللفظ، الكلمة، البلاغة، القرآن، الإعجاز، الشكل، الصورة، الإيقاع، الجمال. الألفاظ في اللغة العربية: اللفظ هو اللَّبنة الأساسية في بناء الجملة، و أصغر وحدة لغوية دالة في بناء المنظومة اللغوية. و هي ما يعرف في اللسانيات بالمورفيم ( في بعض تحديداته) morphème و هو ما يقابل في اللغة العربية "الوحدة الدالة الصرفية"[1] و في اللغة العربية استعملت كلمة "لفظ" في الأصل للدلالة على معاني كثيرة، ثم صارت تحمل المعنى المعروف اليوم الدال على الكلمة أو المفردة. و اللفظ في اللغة العربية:« أن ترمي بشيء كان في فيك، و الفِعْلُ لَفَظَ الشيءَ. يُقَال لَفَظْتُ الشيء من فمي ألفظه لفظا رَمَيْتُه، و ذلك الشَّيءُ لُفاظَةٌ؛ قال امرؤ القيس يصف حِمارًا: يُوارد مجهولاتِ كلِّ خَمِيلَةٍ ** يَمُجُّ لُفَاظَ البَقْلِ في كُلِّ مَشْرَبِ.»[2] و اللفظ بهذا مرتبط بالفم، أي أن كل ما كان في الفم و رُمي منه فهو لفظ. و اللفظ الكلام، لأنه يُخرَج من الفم أيضا:« و لفظ بالشيء يلفِظُ لَفْظًا: تكلَّم، و في التنزيل العزيز:﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[3]و لَفَظْتُ بالكلام و تَلَفَّظْتُ به أي تكلمت به. و اللَّفْظُ واحد الألفاظ، و هو في الأصل مَصْدَرٌ.»[4] و قد عرّفه الشريف الجرجاني بقوله:« اللفظ: ما يتلفظ به الإنسان أو من في حُكمه، مهملا كان أو مستعملا.»[5] و في المعاجم الحديثة المتخصِّصة يُدرج اللفظ في أبواب النحو و البلاغة « و اللفظة إما مفردة أو مركبة، و هي موضوعة لخدمة المعاني. و إذا أرادوا إصلاح اللفظة فإنما عَنَوا خدمة المعاني.»[6] أما في النحو فاللفظ «صوتٌ مشتمل على بعض الحروف تحقيقا، نحو: "عَلِمَ، كِتابٌ، شَمسٌ" أو تقديراً، كالضمير المستتر في قولك: "اِجتهد" الذي هو فاعله.»[7] لِلَّفظ أهمية خاصَّة عند العرب، قديما و حديثا. و قد دارت حوله نقاشات و ألفت فيه كتب و مجلدات. و ما قضية "اللفظ و المعنى" بالخفية على المتخصِّصين في اللغة و الأدب. و الجاحظ من أوائل من اهتم بهذه القضية و قد كان له حديث طويل و متشعِّب عن اللفظ في مختلف مؤلفاته، و قد تحدث بدايةً عن الصوت المؤلِّف للفظ:« و الصوت هو آلة اللفظ، و الجوهر الذي يقوم به التقطيع، و به يوجَد التأليف و لن تكون حركات اللسان لفظًا و لا كلاما موزونًا و لا منثورًا إلا بظهور الصوت، و لا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع و التأليف.»[8] إن طبيعة اللفظ صوتية، فهو مؤلف من أصوات مرتبطة ببعضها تشكل كلمة، تلفظ من الفم، و تنطق باللسان وسائر الأعضاء المكونة للجهاز النطقي. و التقطيع و التأليف هما العمليتان اللتان ينتج من خلالهما اللفظ، و يعني بذلك تقطيع الأصوات إلى مقاطع و تأليفها بضمها إلى بعضها لتنسج الألفاظ و التراكيب. ابن جني، هو الآخر، من الذين تعرضوا لقضية اللفظ و المعنى. و قد تحدث عن عناية العرب بألفاظها و في "الخصائص" نجده يقول:« فأول ذلك عنايتها بألفاظها فإنها لما كانت عنوان معانيها، و طريقا إلى إظهار أغراضها، ومراميها، أصلحوها و رتبوها، و بالغوا في تحبيرها و تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في السمع، و أذهبَ بها في الدلالة على القصد؛ ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذَّ لسامعه فحفظه، فإذا هو حفظه كان جديرا باستعماله، و لو لم يكن مسجوعا لم تأنس به النفسُ. و لا أنِقَت لمستمعه، و إذا كان ذلك كذلك لم تحفظه، و إذا لم تحفظه لم تطالِب أنفسها باستعمال ما وضع له، و جيء به من أجله.»[9] قول ابن جني، هذا، يذكرنا بأن اللغة العربية كانت لغة منطوقة أكثر منها مكتوبة. و اهتمام العرب بألفاظهم كان اهتماما بما تسمعه آذانهم لأن الأذن العربية كانت أذنا حسَّاسة لإيقاع الألفاظ و موسيقاها فكانت ذواقة تستعذب الكلام حسن الألفاظ و متناغم الأجراس و تنفر من كل حوشي و غريب مستكره. و اهتمام العرب بألفاظها لا يعني البتة إهمالها لمعانيها، و قضية اللفظ و المعنى سال حولها حبر كثير بين علماء العربية قديما و حديثا. و قد وضع ابن جني في "الخصائص" بابا للردّ على من اِدّعى على العرب ذلك: « باب الردّ على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ و إغفالها المعاني: اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية، و أكرمها، و أعلاها، و أنزهها. و إذا تأملته عرفت منه و به ما يؤنقك. و يذهب في الاستحسان له كل مذهب بك و ذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها و تهذبها و تراعيها، و تلاحظ أحكامها، بالشعر تارة، و بالخطب أخرى، و بالأسجاع التي تلتزمها و تتكلف استمرارها. فإن المعاني أقوى عندها، و أكرم عليها، و أفخم قدْراً في نفوسها.»[10] بين ابن جني كيف أنه للمعاني قدراً و فخامة عند العرب و أن اهتمامهم بألفاظهم دليل على اهتمامهم بمعانيهم. فاللفظ لا يكون إلا دليلا على معناه و كلما تألّق اللفظ و تميز تألّق معه المعنى و كان له الأثر المرغوب في نفوس المتلقين له:« اعلم أنه لمّا كانت الألفاظ للمعاني أزمّة، و عليها أدلّة، و إليها موصلة، و على المراد منها محصِّلة، عُنيت العرب بها فأولتها صدْرا صالحا من تثقيفها و إصلاحها.»[11] و ليؤكد ابن جني هذا المعنى و مدى اهتمام العرب بمعانيها من خلال اهتمامها بألفاظها نجده يضيف قائلا:« فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها و حسنوها، و حموا حواشيها و هذبوها. و صقلوا غُرُوبَها و أرهفوها، فلا تريَنَّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، و تنويه بها و تشريف منها.»[12] و قضية المفاضلة بين الألفاظ و المعاني قضية أقدم من ابن جني ذاته، و قد اجتهد علماء العربية في إثبات الفضل لأحدهما أو لكليهما، و منهم من حدّد لكل منهما سماته و خصائصه. و امتدت مناقشات هذه القضية قرونا من الزمان إلى عهد الجرجاني عبد القاهر، حيث أرجع الفضل في إعجاز القرآن للنظم الذي يؤلف الألفاظ مع معانيها في نسق بديع معجز. و قد تحدث الجاحظ من قبل عن حكم المعاني و طبيعتها التي تختلف عن طبيعة الألفاظ:« ثم اعلم، حفظك الله، أن حُكمَ المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، و ممتدة إلى غير نهاية، و أسماء المعاني مقصورة معدودة، و محصلة محدودة.»[13] و في موضوع المفاضلة بين اللفظ و المعنى يقول الجاحظ:« قال بعض جهابذة الألفاظ و نقّاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس المتصوَّرة في أذهانهم، و المتخلجة في نفوسهم، و المتصلة بخواطرهم، و الحادِثة عن فِكَرِهم، مستورة خفية، و بعيدة وحشية، و محجوبة مكنونة، و موجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، و لا حاجة أخيه و خليطه، و لامعنى شريكه و المعاون له على أموره، و على ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. و إنما يُحيي تلك المعاني ذكرهم لها، و إخبارهم عنها، و استعمالهم إياها. و هذه الخصال هي التي تقرِّبها من الفهم، و تجليها للعقل، و تجعل الخفي منها ظاهراً، و الغائب شاهداً، و البعيد قريبا، و المقيّد مطلقا.»[14] إن قول الجاحظ هذا لا ينم عن رأيه، و إنما عن رأي (بعض جهابذة الألفاظ و نقاد المعاني) أما رأيه ففيه توفيق بين الألفاظ و المعاني؛ يقول:« فإذا كان المعنى شريفا و اللفظ بليغا، و كان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، و منزها عن الاختلال مصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة.و متى فُصلت الكلمة على هذه الشريطة، و نَفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق و منحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدورَ الجبابرة، و لا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة.»[15] أما في العصر الحديث فقد كان للدارسين في مجال العربية اهتمام بقضية اللفظ و المعنى و أدلوا بدلوهم فيها. فمنهم من رأى أن الحُسن في الكلام يتقاسمه اللفظ و المعنى بنفس الدرجة:« و الحق(...) أن كل حسن يعود على اللفظ هو ذاته عائد على معناه، و كل حسن يعود على المعنى هو ذاته عائد على لفظه؛ إذ الحروف و مضمونها معاً هما اللفظ.»[16] و في الاصطلاح المعاصر" اللفظ" يقابل مصطلح "الشكل" مثلما يقابل "المعنى" مصطلح "المضمون".« و إذا كان "اللفظ" في مفهوم القدماء، يكاد يقتصر على دلالة الكلمة، و يتجاوزها ليشير إلى مدلول العبارة، فإن الشكل في الاصطلاح المعاصر، يشتمل على هذا المدلول و يتعداه ليشير إلى مختلف الدلالات اللغوية و الأسلوبية في النص الأدبي، كما في الفنون الجميلة على أنواعها.»[17] و من هذا فإن "المضمون" أو ما يسمى في الاصطلاح المعاصر"بالمحتوى"« يشير بتوسع، إلى ما اصطلح القدماء على تسميته بالمعنى أو الفكرة، في مقابل الشكل في معجمنا المعاصر. و إذا كان "المعنى" يكاد يقتصر، في اصطلاح القدماء، على مدلول "اللفظ". و ينحصر في نطاق الآثار الأدبية فإن "المحتوى" أو "المضمون" يتسع، في الاصطلاح المعاصر، ليشمل مدلول "اللفظ" في الكلمة، و العبارة، و النص بكامله، مع ما يشمل عليه النص من أبعاد و دلالات، و يتعدى حدود الأدب، ليشير إلى مدلول الآثار الفنية على اختلافها.»[18] و في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى رأي ميخائيل باختين في الكلمة من خلال نظرته لها في الرواية، حينما رأى أنها كلمة حية بخلاف ما يراه ( الفكر الأسلوبي التقليدي)، بحسب قوله، الذي يُعرِّف الكلمة بموضوعها الذي سيقت فيه و تعبيريتها المباشرة. و يتجاهل تفاعلها الحيّ مع مختلف المواضيع خارج سياقها. و رأيه هذا يحيلنا على موضوع تعدد القراءة، و كيف يمكن للكلمة الانفتاح على عدد لا متناه من القراءات انطلاقا من السياق الذي وردت فيه، باعتبار أنها مشحونة بعدد لا متناه من المعاني المتدرجة احتوتها في مسارها التاريخي و حُمّلت به منذ ولادتها الأولى و إلى آخر استعمال لها. و اللفظ في اللغة العربية له بعده الجمالي الذي يضفيه على النص. و جمال الألفاظ عند العرب جمالٌ للمعاني.«فمن حيث الشكل اهتمت جهود العلماء بدراسة الألفاظ و صنفوها تصنيفا حكموا بجمال بعضها و حكموا بقبح بعضها. و أوصوا باستعمال الجميل و اطِّراح القبيح. فقد اشترطوا في جمال اللفظ: الجزالة و الاستقامة، و مشاكلته للمعنى، و شدة اقتضاء القافية له إن كان الموضوع شعرا.»[20] و المعايير التي وضعها العلماء للحُكم على الألفاظ معايير كثيرة اتفقوا على بعضها و اختلفوا حول بعضها الآخر، و هي قضية معروفة في البلاغة العربية طال تدارسها قرونا طويلة. و يبقى للفظة العربية جمالها الخاص، الذي يبدو أثره واضحا على نفس المتلقي إمتاعا و تأثيرا، و ذلك إذا ما صيغت في أسلوب بديع. و المتعة و التأثير، لا يتحقق أحدهما أو كلاهما إلاّ بتوظيف اللفظ في نص أدبي، لأن الكتابة الأدبية هي الوحيدة التي تبعث في الألفاظ روحا مؤثرة؛« أما الكتابة الأدبية فهي بناء لغوي جميل، و الأديب يرى أن المفردة كائن حي و دلالة حيوية، تقوم بوظيفة نقل المشاعر في صيغ مغايرة للاستعمال المعهود، و لا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل عند بث الروح في حنايا الكلمات،..»[21] اللفظة في الأدب نتاج فكري يميز الإنسان عن سائر الكائنات.« و الأدب هو الحقل الفكري الذي تغرس فيه الكلمات طمعا في ثمرة التأثير الوجداني، و هو يتخذ من الكلمة الوسيلة الجمالية، لأن غايته لا تقتصر على الإفهام و التعبير المباشر، بل تتعدى هذا إلى مستوى فاعلية المتلقي، إذ يوجد تعامل خاص مع الكلمات يختلف عن المجالات الأخرى.»[22] و الكلمة في الأدب تتحول من لفظة تحمل معنى معجميا مباشرا، إلى لفظة محملة بالشحنات التي تشع عددا لا متناهي من الأفكار و المشاعر و الأحاسيس التي يساعدها السياق المبدَع في استخراج طاقاتها الكامنة فيها لفظا و دلالة،« مما يجعلها تتجاوز كونها أصوات مادة معجمية، و هي ترسم و تشخص و تجسِّم حالة شعورية، فتتسع دلالتها الإشارية الضيقة، و تحمل دلالة أخرى في حالة الاتساع.»[23] تتضح طبيعة اللفظة الأدبية حينما نقارنها بمثيلتها في الكتابة العلمية؛ ذلك أن اللفظة ذاتها إذا ما وظفت في نص علمي تختلف طبيعة و روحا عنها إذا ما وظفت في نص أدبي.« و هذا هو الفرق بين الكتابة العلمية و الكتابة الأدبية، فالأولى لا تهتم بالانتقاء، لأنها لا تعنى بالاعتبارات الوجدانية، فتقلع عن جمال النحو بعلائقه المؤثرة، كما تقلع عن جمال الصرف الذي يعطي الصيغة الفاعلية الجمالية، و تتجاهل الفروق الدقيقة بين المفردات، كل ذلك لأنها كتابة مباشرة لا تخاطب الشعور، و المفردة في مضمارها إن هي إلا وسيلة لمخاطبة العقل مباشرة.»[24] و اللغة العربية لها طاقة متفردة كامنة في مفرداتها الأصيلة، و لها طاقة فريدة في احتواء المفردات الأعجمية و تعريبها واستعمالها بما يوافق طبيعتها. و الألفاظ الأعجمية التي صارت معرَّبة تعز على الإحصاء. و القرآن الكريم فيه من هذه الألفاظ ما يثبت أن اللغة العربية قادرة على التوسع و النماء و التعايش مع غيرها من اللغات بكل مرونة و سلاسة. و اللفظة العربية أصيلة أم دخيلة لها من الجمال و الرشاقة و الأناقة ما يؤهلها للتربع على عرش الجمال اللغوي لفظا و دلالة، لما فيها من الانسجام بين حروفها و التآلف بين أجراسها و التوافق بين المعاني و الأصوات البانية لها. ب-الألفاظ في القرآن الكريم: ألفاظ القرآن الكريم متميزة لفظا و معنى، على الرغم من كونها ألفاظا عربية اعتاد العرب قديما على استعمالها، وفهم معانيها. و إعجازها لهم، و هم أربابُها، دفعهم إلى البحث في السر الكامن وراء امتناعها عنهم و عدم قدرتهم على مجاراتها قرونا طويلة. و هو الأمر الذي ولّد علوما كثيرة دارت حول القرآن الكريم و إعجازه. « لألفاظ القرآن جانب كبير في سموه فوق أنماط التعبير الأخرى. و تقوم هذه الألفاظ القرآنية على اعتبارات لم تتحقق لغيرها. لذلك فإن النظر فيها لم يقتصر على جانب واحد، بل يجد الباحث المجال فسيحا أمامه حين يعمد إلى دراسة ألفاظ القرآن.»[25] و اللفظة في القرآن قد يتغير معناها من المعنى المعتاد عند العرب إلى معاني أخرى تفهم من خلال السياق، و لهذا اختصت البلاغة بعلومها المختلفة تبيينا و توضيحا لما حملت ألفاظ القرآن و تراكيبه من معاني تفهم في كل مكان و زمان بما يوافق المقام. إن كل لفظ في القرآن الكريم مختص بمكانه لازم له و لا يمكن بأية حال من الأحوال تغييره أو تبديله و لو بأقرب الألفاظ إليه معنى و لفظا. و كل لفظ قرآني له من الجمال ما يدفعنا للتأمل فيه و التمتع به من نواح متعددة أجراسا و إيقاعات، معاني و إشعاعات. و لكل معنى ظلال و إيحاءات.« و لسنا نستطيع إحصاء تلك النواحي في جمال ألفاظ القرآن إحصاءً، و لكننا نضرب من الأمثال على مقدار طاقتنا، و من غير أن نصل إلى أقصى الغاية، و إنما نسدّد ونقارب، بل المقارنة فوق طاقتنا، و قد سَبقَنا إلى تلك المحاولة فحول البيان.»[26] أكثر ألفاظ القرآن عربية أصيلة، فقد نزل بلسان عربي مبين، و ألفاظه العربية منتقاة بدقة معجزة. و قد وجد الدّارسون أن اختيار الألفاظ في القرآن كان يخصُّ صيغا صرفية بعينها أكثر من غيرها مثلما ذهب إلى ذلك عبد العظيم المطعني في قوله:« .. فإن القرآن يؤْثر استخدام الألفاظ القصار الثلاثية الأصول أو الرباعية الأصول. و الثلاثية الأصول فيه أوفر عدداً من الرباعية. "أما أن اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء. لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه. إلاّ ما كان من اسم عُرِّب و لم يكن في الأصول عربيا. كإبراهيم... و إسماعيل... و طالوت ... وجالوت.. و نحوها. و لا يجيء فيه كذلك إلاّ أن يتخلله المدُّ كما ترى. فتخرج الكلمة و كأنها كلمتان."»[27] و الألفاظ الأعجمية في القرآن كثيرة لكنها معرَّبة جارية على سُنن العربية. فهي سهلة و ليست مستثقلة في النطق والاستعمال. و قد« عدَّ العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفرس و الروم والنبط و الحبشة و البربر و السريان و العبران و القبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها و أجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية.»[28] و في القرآن الكريم ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغريب أو الغرائب. و هي ألفاظ صعب على الناس فهمُها، خاصة بعد اتساع الدولة الإسلامية و انفتاح الأوائل على شعوب و أقوام أعجمية، فاستهجن اللسان و ضعفت السليقة، فبات المسلمون غريبين عن كثير من الألفاظ العربية الأصيلة. و في هذا ألفت كتب و مصنفات منها: "غريب القرآن" لأبي عبيدة معمّر بن المثنى، و "غريب القرآن" لابن قتيبة، و "نزهة القلوب" لمحمد بن عزيز السجستاني. و قد تحدث الرّافعي في "إعجاز القرآن" عن غريب القرآن و بين سبب تسميتها كذلك: « وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها مُنكرة أو نافِرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربَة في التأويل؛ بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً؛ جميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما.»[29] و بالرغم من وجود هذه الألفاظ الغريبة في القرآن إلاّ أن ألفاظه كلها جاءت على درجة واحدة من الإعجاز والفخامة و الجلال. إلى جانب السلاسة و العذوبة و الخفة و الجمال، ذلك أن « القرآن يتأنّق في اختيار الألفاظ. ويستخدم كلاًّ حيث يؤدي معناه في دقَّة فائقة تكاد تؤمن معها بأن هذا المكان إنما خلقت له هذه اللفظة دون سواها ولذلك لا نجد في القرآن ترادفا، بل كل كلمة تحمل إليك معنى جديداً. فالألفاظ فيه قولة عنيفة في مقام التهديد والوعيد، رقيقة عذبة في مجال الترغيب و التهذيب و هادئة حسنة في مقام التشريع و التفريع.»[30] و من جانب آخر غير القرآن معاني كثير من ألفاظ العربية أو حدّدها و أصبحت دالة على أمور خاصة بالإسلام دون غيره من المجالات. و من أمثلتها: ( الصلاة، النفاق، الصراط،..) و الشواهد من هذا النوع كثيرة. و مهما كانت ألفاظ القرآن الكريم عربية أصيلة أم دخيلة معرّبة فإنها معجزة هذا الكتاب رونقا و جمالا، ونظمها بشكله الفريد هو الذي أعطاها تلك الأبعاد الجمالية غير المسبوقة، بل إن الاختيار الدقيق لكل منها دون غيرها و تركيبها في مواضعها هو الذي أكسب النظم جماليته و إعجازه. ألفاظ القرآن جميلة و خفيفة على النفس، سلسة لا يتعب قارئها من تلاوتها و لا يملّ من تكرارها. و يأنس سامعها بها. و تطمئن روحه بالإنصات للتلاوة بعد التلاوة. « و أعجب شيء في أمر هذا الحس الذي يتمثل في كلمات القرآن أنه لا يسرف على النفس و لا يستفرغ مجهودها، بل هو مقتصد في كل أنواع التأثير عليها، فلا تضيق به و لا تنفر منه و لا يتخوَّنها الملال. و لا تزال تبتغي أكثر من حاجتها في الترؤح و الإصغاء إليه و التصرف معه و الانقياد له، و هو يسوِّغها من لذتها و يرقه(كذا) عليها بأساليبه وطرقه في النظم و البيان، مع أن أبلغ ما اتفق للبلغاء لا تجمع منه النفس بعض ذلك حتى يتعسفها و يثقل عليها و تبتلى منه بالتخمة و سوء الاحتمال.»[31] و لأن جمال الألفاظ أمر له أهميته في اللغة العربية فقد اهتم النقاد العرب قديما به و تنافس الشعراء في انتقاء أفضلها و أجملها و أرقها لينظموا بها أروع القصائد آنذاك. كما أن العلماء المسلمين من بعدهم لم يتوانوا في الاهتمام بجمال الألفاظ دراسة و تحليلا و نقدا. و كان للألفاظ في القرآن الحظ الأوفر في الدراسة و الاهتمام من هذه الزاوية. و جمال الألفاظ العربية مردُّه إلى عناية العرب بها منذ القدم، إصلاحا و صياغة و استعمالا. فقد امتازوا « برهافة الحس، فهم يتأثرون أشدّ التأثير بما يسمعون، و للكلمة قدسيتها، وهي تفعل فعلها إلى أبعد مدى، فيحاربون ويصالحون، و يضحون و يكرمون نتيجة سماع كلمات، و هم سيدركون القيمة الموسيقية في القرآن بسبب معايشتهم لفن الشعر والخطابة، و اهتمامهم البالغ بالكلمة.»[32] تؤلف الألفاظ القرآنية موسيقى داخلية في النص القرآني، يلحظها المتمرس بالعربية و القارئ الجيد الذي يجيد تلاوة القرآن بأحكامه، غير أن الدارسين للقرآن و علم التجويد، لا يعزون هذه الموسيقى إلى التجويد بقدر ما ينسبونها إلى الألفاظ المنتقاة في ذاتها.« فالتجويد ليس شيئا إضافيا أو زركشة لتزيين كلمات القرآن، فهو إعطاء الحرف حقه في الأداء، و بما أن النسق القرآني فريد النوع، فقد كانت قواعد التجويد بالغة الأهمية،لأنها تبرز جمالا سمعيا غير معهود، كما أن مراعاة قوانين التجويد مراعاةٌ للعربية التي هي المادة الصوتية لهذا الكتاب العظيم، و هي لغة تستبعد بطبيعتها الوعورة والثقل. فقد اختار الناطق بها كل سهل مستساغ، و كان القرآن اختيارا آخر، و لهذا كانت آياته إعجازا لهم. لأنه يفوقهم في هذا المجال بمراعاة دقائق فنية موسيقية، و هي ما يدعى بالموسيقى الداخلية.»[33] جمال الألفاظ العربية عامة و الألفاظ القرآنية خاصة راجع في حقيقة الأمر إلى تناسق حروف اللفظة الواحدة فيما بينها و تلاقي مخارجها، بحيث يلفظها المتكلم دون عناء كبير، بانسجام و راحة، فلا تُتعِب الألفاظ العربية الجهاز الصوتي. « إن كلمات القرآن لها في تناسق حروفها و تلاقي مخارجها إشراق بلاغي، و لكن لا ينكشف ذلك الإشراق إلاّ بالتضام، أي: إن الإشراق ذاتي، و هو الأصل، و لكن شرط ظهوره تضام الكلمة مع غيرها.»[34]فالأسلوب هو الذي يسمح لهذا الإشراق بالظهور، لأن ألفاظ القرآن متآخية فيما بينها تمهد كل لفظة لأختها التي تليها في النغم و في المعنى، في الصوت و الدلالة، إنه تناسق القول الذي لم تشهد العرب له مثيلا. إن ألفاظ القرآن الكريم متميزة جمالا و رونقا و تألقا في الشكل. و جمالا و إصابة و تأثيرا في المعنى. لقد اختار القرآن الكريم ألفاظا عربية من أروع ألفاظهم. و صاغها صوغا عجزوا عن مجاراته. و ألّفها تأليفا ظل العرب قرونا طويلة يبحثون في أسرارها، و لا زالوا، يكتشفون في كل مرة سراّ من أسرار جمالها المبهر و تأثيرها الآسر في نفوس المتلقين.