ليس من المغالاة القول ان نجاح المدرس هو جزء من نجاح الامة. فنساء ورجال التعليم قوة اجتماعية وثقافية يلعبون دور القيادة ويتبوؤون موقع النخبة في تحديث المجتمع وتغييره نظرا لقربهم من مركز الثقل والحركة في المجتمع اي موقع التربية كنقطة انطلاق في (خلق العملية المجتمعية الواعية الموجهة). انهم يساعدون على حدوث تغيير ايجابي باعتبار ان التربية هي مؤشر من مؤشرات التنمية ولا غنى عنها في صنع انسان المستقبل الذي ترجوه اية امة. راهن عليهم رواد الحركة الوطنية وزعماء الحركات السياسية سواء في فترة الاحتلال وما بعد الاستقلال لأجل اقامة مشروع مجتمعي حديث وتكوين انسان جديد بمواصفات وسمات جديدة تمكن الاجيال من مواجهة كل التحديات والتكيف مع كل الوضعيات وعلى اساس الحفاظ على الهوية الوطنية والوجود الحضاري للامة ولهذا ربط احد قادة الحركة الوطنية (المهدي بنبركة) بين تطور القطاع التعليمي وتحسين الوضع المادي والاجتماعي للمدرس حين اشار في احدى خطبه امام حشد من المؤتمرين النقابيين بان (مسؤولية المدرس هي المساهمة والوصول الى هدف تعميم التعليم كسبيل الى التقدم والتحرير) وهي مسؤولية عظيمة رأى انها تقتضي (ان لا تكون وضعية المدرس مهانة وساقطة) ولهذا دافع المهدي بنبركة عن تحسين الوضع المادي والاجتماعي للمدرس والتقدير القيمي الرفيع لمهنة التدريس لانهم على راس اسياد الامة كما يقول. وعن تحديات ممارسة هذه المهنة النبيلة التي لم توصف عبثا بانها (اخر المهن) بحكم ارتباطها العضوي بالتأهيل لمجتمع المعرفة والتواصل وبالإدماج في عالم الثورة المعرفية والمعلوماتية مما يطوق مهنة التدريس بمسؤوليات طلائعية.. فماذا قدمت المهنة للمدرس والمربي ؟ وهل انصف المجتمع نساء ورجال التعليم؟ ولماذا استهداف مهنة التدريس واحتقار الاعتبار الاجتماعي لوظيفة التعليم؟ لماذا الانظمة الاساسية لموظفي التعليم لا ترقى الى مستوى التقدير القيمي الرفيع لمهنة التدريس وتسمو بالوضع المادي والاجتماعي للمدرس من قبيل الانصاف والمساواة مع موظفي القطاعات الحكومية الاخرى؟ كيف انهار المدرس اجتماعيا وطبقيا وتدحرج في السلم الطبقي الى درجة افتقاده للاستقرار الاجتماعي والنفسي ... فكيف كان المدرس وكيف اصبح الان؟ في فترة الحماية الفرنسية بالمغرب كان المد الاستعماري يجسد قوته في الالة العسكرية وفي التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الا انه لا يكتفي باستخدام هذه القوة المادية والعسكرية بل يوظف قوته وتفوقه المعرفي والعلمي وهكذا حاول الاستعمار الفرنسي احكام قبضته على المجتمع المغربي ونجح في استخدام شقي المعادلة الاستعمارية(القوة والمعرفة) وعملا بهذا المنطق عمل الاستعمار الفرنسي على بلورة استراتيجية تقوم على تحطيم البنيات المادية والرمزية للمجتمع المغربي وليس غريبا في هذا الصدد القول ان المشروع التربوي الكولونيالي الفرنسي كان اطارا منهجيا دقيقا لضبط الابدان والعقول كما ان سياسته التربوية لم تكن ارتجالية او عفوية بل كانت محكمة ومنظمة لإخضاع الناس واستغلالهم بل واستعبادهم. وبناء عليه لم يكن صدفة ان تأخذ الحملات الاستعمارية الاولى شكل بعثات تعليمية لان سياسة التعليم التي اسسها الاستعمار لم تكن تهدف الى نشر العلم والمعرفة لصالح المجتمع ولم تكن تهدف لبناء وتطوير تعلمات وكفاءات وقدرات المتعلمين او تحسين مؤهلات وخبرات المستخدمين والموظفين في القطاعات الخدماتية والانتاجية والاجتماعية بل كانت السياسة التعليمية الكولونيالية تهدف بالأساس الى ايجاد متعلمين ومستخدمين يقومون بأدوار جديدة تلبي حاجات الادارة الاستعمارية. يقول جورج هاردي G-HARDY مسؤول الحماية في قطاع التعليم بالمغرب آنذاك (ان انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل ...ان القوة تبني الامبراطوريات ولكن ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام ...ولذا يجب اخضاع النفوس بعد ان يتم اخضاع الابدان) وانطلاقا من هذا التصور الكولونيالي يتضح لنا كيف حاولت فرنسا استغلال المغاربة فكريا وايديولوجيا بعد ان تم استغلالهم ماديا والمدخل لهذا الاستعمار كان هو التربية والتعليم ولهذا قسمت فرنسا التعليم في المغرب الى تعليم فرنسي واخر يهودي وثالث اسلامي فظهرت مدارس للنخبة الحاكمة ومدارس للطبقات الشعبية ومدارس للتعليم الاصيل... ويبدو من هذا التقسيم ان فرنسا لم تكن تعلم وتكون وتدرس وتبني المدارس للمغاربة هكذا حبا في سواد عيونهم بل كان هدفها من الناحية البيداغوجية والايديولوجية هو نشر ثقافة محافظة وثقافة حداثية علمانية في نفس الان قصد انتاج فئة تكون من جهة محافظة على وضعها الاجتماعي والطبقي ومن جهة ثانية مدعمة لمشروعها الرسمالي الاستعماري. اما من الناحية الاجتماعية كان الهدف من نظامها التعليمي الطبقي تقسيم فئات المجتمع المغربي على اساس سلالي ديني (يهود مغاربة ومسلمين) ثم على اساس اجتماعي بالتمييز بين النخبة والاقطاع من جهة وبين مجموع السكان البسطاء المهمشين في البوادي والمدن وهذه الفئة العريضة من السكان ليسوا في نظرها الا ادوات تحت الخدمة او يد عاملة يتم استغلالها لصالح الاقتصاد الراسمالي الكولونيالي. وفي هذا الشان يقول وزير المستعمرات الفرنسية سرو SARRAUT (ان من واجبنا ان نقوم بتكوين وتثقيف الاهالي ...ولكن هذا الواجب الاساسي مرتبط تماما بمصالحنا الاقتصادية الواضحة جدا... ان التعليم في الواقع يمكننا من تحسين قيمة الانتاج الكولونيالي وذلك بان ننمي عند العامل الاهلي المغربي نوعية ذكائه وان نضاعف من قدراته) وتأسيسا على هذه الرؤية الكولونيالية نلمس كيف كان المحرك الاقتصادي دافعا خفيا او معلنا بشكل او باخر وراء اقدام فرنسا على وضع مشروعها التربوي بالمغرب. هذه الرؤية الكولونيالية بدأت تتبلور في المجتمع المحلي بعد ان عملت الفئات الاولى من المتخرجين المغاربة من مدارس الحماية الفرنسية وشغلت المراتب الوظيفية الهامة واستطاعت الحصول على مكاسب مادية واجتماعية هائلة وهو ما حفز ودفع عددا مهما من الاسر المغربية لتسجيل ابنائها في مدارس التعليم الفرنسي لأنه اصبح وسيلتهم الوحيدة لتغيير وضعهم الاجتماعي والطبقي واستمر هذا الطموح الاجتماعي في اعتبار مهنة التعليم وسيلة والية للتسلق في السلم الطبقي والاجتماعي حتى الى فترة ما بعد الاستقلال حين لم يجد هؤلاء المغاربة البسطاء الا فرصة ولوج ابنائهم للمدارس العصرية لتحسين وضعهم الاجتماعي والرقي الى مستوى طبقة اجتماعية اعلى وهكذا انبثقت فئة اجتماعية جديدة ترقت بفضل شواهدها التعليمية العليا وتوسع نفوذ ومساحة هذه الطبقة الاجتماعية الجديدة من الاطر المتعلمة التي جاءت لتلبي حاجات تحديث الدولة وتوسيع نفوذها خصوصا بعد خروج الاستعمار وحاجة الدولة الحديثة لأطر بديلة وجديدة تحل محل الاطر الادارية للمعمرين. ولما كانت هذه الطبقة الاجتماعية الجديدة التي تقود هذا التحول تريد تقليد البورجوازيات الاوربية فقد سارعت الى تبني ثقافتها الغربية ولغاتها الاجنبية في الادارة والاقتصاد والتجارة والمال، ولما كان طلاب العلم وخريجي المدارس والمعاهد والجامعات ايضا يريدون الالتحاق والاندماج في الطبقة الاجتماعية الجديدة فانهم يحاولون التأقلم مع الرهانات الجديدة التي يفتحها التعليم المعاصر والشواهد الجامعية العليا للمدارس الأجنبية والوطنية ليسارعوا بدورهم الى تبني هذه الثقافة الغربية ولغاتها الاجنبية حتى اصبح العلم والتعليم وسيلة للاغتراب الثقافي والتسلق الطبقي مما اضفى على هذه الطبقة الاجتماعية سلوكا فرنكوفونيا اضعف انتماءها الثقافي والحضاري غير انها استطاعت ان تفرض ذاتها على الفئة الاقطاعية التي تركتها الادارة الاستعمارية. ونظرا لأهمية فئة الموظفين كعنصر اجتماعي هام ومؤثر في البنيان الاجتماعي نتيجة لظروف التخلف الاقتصادي للمجتمع والتي يصبح فيها العمل الوظيفي الحكومي المجال الرئيسي للترقي في السلم الاجتماعي والطبقي فإننا نجد فئة الموظفين المنتسبين لقطاع التعليم يلعبون دورا خاصا (لقوة عددهم ومكانتهم ونفوذهم النقابي والسياسي) في تطوير اساليب الحياة في مجتمعهم وفي تغيير العلاقات الاجتماعية والانسانية وتغيير القاعدة المادية للمجتمع لانهم يعكسون بكل وعي تطور المصالح الطبقية في المجتمع (انهم يمثلون الفئة المثقفة الواعية ) فهم للمجتمع بمثابة الجهاز العصبي للجسم الانساني وان توسع وتمدد هذه الفئة الواعية ثقافيا وسياسيا والمجسدة للطبقة البورجوازية الصغيرة والممتلكة للسلطة المعرفية تسعى دائما لتعزيز موقعها الطبقي وتوسيع قاعدة افرادها من خلال الرهان على وظيفة التعليم كأساس لتحسين وضعها الاجتماعي واعتبارها السياسي لكن مع تطور البنيات الرأسمالية للدولة لم تنجح قوة او "ثورة المدرسين " في كسب الرهان الطبقي وفي تحقيق العدالة الاجتماعية وعدالة الاجور وتكافؤ الفرص بينها وبين "اخوانهم" الموظفين في بعض القطاعات الحكومية الاستراتيجية الامنية منها والقضائية والخدماتية كما ان وتيرة الاسراع في التحول الراسمالي للدولة وقوة الجهاز البيروقراطي لم تسمح الا لفئة محدودة منها في ولوج المناصب الوظيفية الكبرى في اجهزة الدولة كما لم تقدر على توفير فرص استيعاب الخريجين من ذوي الشهادات العليا ليبقي الكثير منهم في مراكز دنيا او يحشرون في نظام وظيفي تعاقدي مجحف فقدوا فيه كل الامتيازات والمكاسب السابقة. ان البناء الاقتصادي الراسمالي والبيروقراطي الضخم لم يستطيعا ان يستوعبا الكفاءات العلمية والمهنية من ذوي الشواهد العليا والخبرات المتميزة كما ان السياسة التعليمية المتبعة لم تساير التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة فازداد اعداد العاطلين عن العمل وسدت ابواب التوظيف و تقلصت المناصب المالية ووجد حملة الشهادات التعليمية العليا انفسهم بعيدين عن تحقيق طموحهم واحلامهم ورغباتهم التي زرعت فيهم اثناء سنوات الدراسة كما وجد عدد كبير منهم انفسهم مرميين خارج طموحاتهم وممنوعين من الحصول على ما حصل عليه سلفهم من الموظفين في القطاع فأصيبوا بالإحباط وانصب حقدهم على السلطة التي خدلتهم بل وحتى على الموظفين الذين فازوا بمناصب ووظائف لينسلخوا عن الواقع السابق ويستمتعوا بمنافع ومكاسب الطبقة الجديدة. ان الذين وجدوا وظيفتهم في المؤسسات الرسمية الادارية والخدماتية وغيرها من مؤسسات الدولة او في هيئات القطاع العام سرعان ما اندمجوا مع طبقتهم الجديدة وشاركوها سلوكها وامتيازاتها وثقافتها ايضا اما الاخرون من موظفي التعليم الذين لم تتغير وضعيتهم المادية لسنوات بفعل السياسة الاقتصادية التي صاغتها المؤسسات المالية الدولية (تجميد الاجور- تقليص فرص الترقية والترسيم – استبدال التوظيف بالتعاقد – اعادة النظر في قانون الوظيفة العمومية – ضرب المكتسبات في نظام التقاعد والتعويضات)كما ان برنامج التقويم الهيكلي الذي قام المغرب بتطبيقه منذ 1983 ادى الى تقليص نفقات التسيير لتوفير الموارد خدمة للديون ولمصالح الرأسمال على حساب القطاعات الاجتماعية وعلى راسها التعليم... هذه السياسة الاقتصادية التي صاغتها المؤسسات المالية الدولية ترتبت عنها نتائج سلبية منها تسريح العمال وافلاس المؤسسات الانتاجية وتخفيض الميزانيات المخصصة للقطاعات الاجتماعية وعلى راسها قطاع التربية والتعليم وتشجيع الخوصصة بها فأرخت هذه الازمة بكل ظلالها على الاوضاع المادية والاجتماعية للمدرسين ومنها تجميد الاجور والاجهاز على المكتسبات في العديد من التعويضات ( تعويضات العمل في العالم القروي – تعويضات السكن – المنح الدراسية لأبناء وبنات نساء ورجال التعليم – التعويض عن الامراض الناجمة عن المهنة- تقليص فرص الترقية السريعة - التشغيل بالعقدة ...) وكل ذلك انعكس سلبا على الاوضاع الاجتماعية والمادية لنساء ورجال التعليم واظهر تمايزا طبقيا صارخا في بنية الاجور العمومية وزاد من تحقير الاعتبار الاجتماعي لمهنة التعليم وتعريض سمعة ومكانة رجل التعليم لخطاب تهكمي بذيء واطاح بالتقدير القيمي الرفيع لمهنة التدريس قصد زعزعة ثقة رجل التعليم في نبل وشرف مهنته وتحجيم دوره التنويري والتثقيفي والتحديثي للمؤسسة التعليمية في مفارقة صارخة عكس ما يحظى به التعليم ورجل التعليم –عبر العالم- من تقدير واحترام لجلال وعظمة مهنة التعليم. فهل اعطت هذه المهنة للمدرس ما كان يصبو اليه ؟ وهل انقذته من براثن الفقر والحاجة ؟ وهل لا تزال تغري الشباب لولوجها ؟ ولماذا تشوش بعض الخطابات و"الابداعات الفنية" وغيرها على رمزية وهيبة المؤسسة التعليمية؟ وبعد هذا وغير هذا هل اصبح شرفا ان (تكون مدرسا) !!!!