قبل أقل من أسبوع، قام وزير التجارة الخارجية الفرنسي فرانك ريستر بزيارة إلى الرباط في خطوة متقدمة لتقوية الشراكة الاقتصادية وطي الخلاف معها وإرساء أسس متينة لعلاقة مستدامة بين البلدين. المؤشر القوي الذي حملته هذه الزيارة هو إعلان ريستر عزم فرنسا الاستثمار إلى جانب الرباط في الصحراء، وهو ما يعتبر تقدما إضافيا في اتجاه حسم الموقف من هذه القضية لصالح الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. المعطيات المتعلقة بأجندة إصلاح العلاقات الفرنسية المغربية، وطي صفحة الخلاف بشكل نهائي، تتحدث عن زيارة وشيكة لوزيري الاقتصاد برونو لومير والزراعة مارك فينو قبل نهاية الشهر الحالي، وذلك في أفق الترتيب للقاء القمة الذي يجمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والملك محمد السادس بالرباط لتتويج الموقف النهائي من الصحراء، والذي يرتقب أن يتم الإعلان عنه ضمن أجندة زيارة ماكرون للمغرب. كان واضحا كما سبق وأشرنا إلى ذلك في مقال سابق، تعليقا على زيارة وزير الخارجية الفرنسي للرباط، أن رؤية فرنسا للسياسة الخارجية تغيرت بشكل كامل، بعد أن تعرضت لنكسات كبيرة في منطقة الساحل جنوب الصحراء، ثم في منطقة غرب إفريقيا بعد الانتخابات الأخيرة في السينغال، التي أصعدت رئيسا للحكم يحمل مشروع التحرر من النفوذ الفرنكفوني اقتصاديا وثقافيا، بحيث أصبحت باريس ترى أن مفتاح نجاح السياسة الجديدة التي من شأنها استعادة بعض نفوذها في المنطقة أو على الأقل إيقاف مسلسل تراجعه، هو إصلاح العلاقة مع الرباط، ولو كلف ذلك أن تذهب باريس بعيدا في موقفها من الصحراء لجهة الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. زيارة وزير الخارجية للرباط في آخر شهر فبراير الماضي ولقاؤه نظيره المغربي ناصر بوريطة، حملت جديدا مهما بالنسبة إلى الرباط، فقد أعاد تصريحاته السابقة بأن باريس كانت دائما داعما أساسيا لمقترح المغربي للحكم الذاتي، وأعطى إشارات بأن موقف باريس يسير في اتجاه التقدم، وفهم من ذلك أن هناك إكراهات، تتعلق بتوفير شروط تغير سياستها الخارجية دون الإجهاز على بعض المكتسبات، فرضت على باريس أن تدبر عملية الإعلان عن الموقف الإيجابي من الصحراء، وأن باريس تطلب بعض الوقت، على الأقل حتى تأتي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرباط، ويتم فيها الإعلان النهائي من قضية الصحراء. الرباط تعاملت بإيجابية وحذر مع تصريح وزير الخارجية الفرنسي، واعتمدت مقاربة «ننتظر ما سيحدث من تغير في الموقف الفرنسي»، ولم تغامر بأي خطوة تشير إلى الحسم النهائي للخلاف بين البلدين، باستثناء التمويل الفرنسي لبرنامج إصلاح التعليم، الذي تبنته وزارة التربية الوطنية، والذي تزامن مع ترتيبات زيارة وزير الخارجية الفرنسي للرباط، إذ تم توقيع اتفاقيتين (قرض وهبة) بين وزارة الاقتصاد والمالية المغربية والوكالة الفرنسية للتنمية بقيمة حوالي 134,7 مليون يورو (ضمنها 4,7 مليون أورو هبة)، وهو ما يمكن أن يدرج في سياق تقاطع المصالح، أي استفادة الرباط من دعم مالي يمكن من تهدئة الإضرابات التعليمية التي دامت حوالي ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه، دعم الإصلاح الموسوم ب»مدرسة الريادة» الذي تبنته وزارة التربية الوطنية، وذلك في مقابل الاستمرار في دعم تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وتحسين مستويات تعلمها في المؤسسات التعلمية المغربية. الرباط استقبلت تصريحات وزير التجارة الفرنسية بترحيب كبير، واعتبرت أن ذلك يشكل خطوة مهمة في اتجاه الاعتراف بسيادتها على الصحراء، لكنها مع ذلك، بقيت محتفظة بقدر كبير من الاحتياط والحذر، فالإعلان الفرنسي عن النية في الاستثمار، لا يحقق كل ما تريده الرباط، ولذلك، فهي لا تزال تنتظر خطوة أخرى أكثر تقدما، حين يتم تحويل النية إلى أفعال من خلال مشاريع واتفاقيات يتم المصادقة عليها في الخطوة القادمة، أي عند زيارة وزيري الاقتصاد والزراعة الفرنسيين إلى الرباط قريبا. الجزائر استقبلت هذا الإعلان الفرنسي بامتعاض كبير، وجبهة البوليساريو اعتبرت الموقف الفرنسي الجديد استفزازا غير مقبول، بينما تحرك الرباط كل أوراقها لتدفع باريس إلى الخروج من دائرة الازدواجية والإعلان النهائي عن سيادة المغرب على صحرائه، بما في ذلك استعمال ورقة الاستثمار في الهيدروجين الأخضر الذي أعلنت الرباط بصدده عرضا مغريا أشعل منافسة المستثمرين الدوليين، وتسعى لتعبئة مليون هكتار من أجل استقبال الشركات المستثمرة (300 ألف هكتار في المرحلة الأولى)، وستكون مدينة العيون في الصحراء محورا لعدد كبير من هذه الاستثمارات، ولا تريد باريس أن تفقد نصيبها الوافر من هذا العرض الذي تعول فيه الرباط أن تكون فاعلا عالميا في مجال الطاقة النظيفة، وتعزز به الاستثمارات الضخمة التي قامت بها في مجال الطاقات المتجددة. واضح أن وزير التجارة الفرنسي جاء إلى الرباط ليعطي زخما لتصريحات وزير الخارجية الفرنسي السابقة التي حاول فيها أن يشرح التقدم في الموقف بالصحراء في علاقة مع المشاركة في تنمية الأقاليم الجنوبية، فالمعطيات التي رشحت من هذه زيارة وزير التجارة الفرنسي للرباط، تشير إلى أن باريس تسعى أن يكون لها حظ وافر في مشروع إنشاء محطة توليد الكهرباء باستعمال الهيدروجين الأخضر بنسبة 100 في المائة في مدينة العيون، والذي يتوقع أن يدعم زيارة إنتاج المغرب من حصة الطاقة المتجددة من 40 في المائة إلى 52 بالمائة بحلول 2030. الرباط أخذت أيضا تعهدا من وزير الخارجية الفرنسي في زيارته السابقة بدعم باريس لها في الضغط لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وبالتحديد ما يتعلق منها بضمان مشاركة الجزائر في الموائد المستديرة التي ينظمها المبعوث الشخصي مع الأطراف المعنية للتوصل لحل سياسي للنزاع حول الصحراء. الكثيرون يرون بأن أي تحول في السياسة الفرنسية لجهة المغرب، سينتج عنه توتر مع الجزائر، وأن سياسة التدرج التي انتهجتها فرنسا في تدبير موقفها لن تحول دون إفساد علاقتها مع الجزائر، لكن باريس اختارت منهجية استثمرت فيها عنصر الزمن بنحو ذكي، فالجزائر مقبلة على انتخابات وسط خلافات عميقة داخل مربع الحكم حول الولاية الثانية للرئيس الحالي عبد المجيد تبون، وقد قدمت الانتخابات إلى سبتمبر القادم، أي قبيل الزيارة التي تم الإعلان عنها للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لباريس، أي أن باريس أضحت اليوم متحررة نسبيا من ضغط الزيارة، ولها مدى زمني أوسع للمناورة بعد أن يتم حسم مرشح مراكز القوة للرئاسة، وتجرى الانتخابات ويتم انتخاب الرئيس المنتخب الجديد، والجزائر في هذه الظرفية لا تملك أن تقوم بردود فعل غير مدروسة حتى تنجح ترتيبات انتقال أو تجديد شرعية السلطة، والرئيس الجديد أو القديم الجديد سيجد نفسه في نهاية المطاف أمام واقع تغير السياسة الفرنسية في المنطقة، وسيكون ملزما بالتكيف، بحكم أن السياسة الخارجية بالمنطقة كلها تغيرت في اتجاه معاكس، بما في ذلك ليبيا، التي أعلنت مؤخرا أنها غير معنية بأي هيكل سياسي في المنطقة يكون بديلا عن اتحاد المغرب العربي أو يروم إقصاء وعزل المغرب.