الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورني إلى الرباط الاثنين الماضي، تعكس تطورا مهما في العلاقات المغربية الفرنسية بعد فترة من الجمود والتوتر الصامت بين البلدين. فمن الناحية الرمزية اختار هذا الوزير، الذي حمل حقيبة الخارجية في الحكومة التي عيّنها الرئيس إيمانويل ماكرون مؤخرا، أن يكون المغرب أول بلد يزوره في المنطقة، وحرص أن يمهد لمهمته بتصريحات قوية أعلن فيها عن خطوات ستقدم عليها باريس لدعم الموقف المغربي من الصحراء، وأن موقفها سيمضي قدما في هذا الاتجاه. اللقاء الذي جمعه بنظيره في الخارجية المغربية ناصر بوريطة، والذي كان في الجوهر تتويجا لتحضيرات كثيفة تمت في الأسابيع الماضية، حمل معه بعض المؤشرات الدالة، وإن كان في الواقع لم يبدد كل الغموض، الذي يكتنف الموقف الفرنسي. ولعل اللغة التي استعملها كل من الوزيرين المغربي والفرنسي، تكشف بوضوح وجود أشياء عالقة، ربما ستعمل الزيارات المقبلة على تسويتها، فالوزير ناصر بوريطة، ما فتئ يذكر بتغير صورة المغرب، وأن مغرب اليوم ليس هو مغرب أمس، وأنه أضحى يمثل فاعلا أساسيا في المنتظم الدولي، وأن الطلب عليه يتزايد من طرف عدد من الفاعلين الدوليين، بل أشار بوضوح إلى ضرورة أن تساير العلاقات المتغيرات التي يعرفها البلدان، وحدد إطارا تصوريا لتطور العلاقات المغربية والفرنسية، جعل أساسه إعمال مبادئ الاحترام المتبادل. وفي المقابل، فإن وزير الخارجية الفرنسي، رغم اعتباره موضوع الصحراء، قضية ذات أولوية بالنسبة إلى بلاده، فإن التقدم في الموقف الذي كان ينتظر منه في هذا الموضوع، حضر فيه الماضي وحديث عن المستقبل، أكثر من الحاضر، فتحدث عن موقف فرنسا في الماضي، بالإحالة إلى دعمها لمبادرة الحكم الذاتي منذ سنة 2007، وتحدث عن المستقبل، حين طمأن الرباط، ودعاها إلى التعويل على باريس في هذا الملف. أما الحاضر، فقد اكتفى بتقديم إشارات لمفهوم التقدم في الموقف الذي تنتظره الرباط، فوصفه ب «النهج البراغماتي» الذي على باريس أن تتبناه دون تحديد طبيعته، وربطه بدعم جهود المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، من أجل إعادة المفاوضات. صحيح أنه قدم بعض الإيضاحات في الموضوع، فربط مفهوم التقدم في الموقف بدعم جهود المغرب في تنمية الأقاليم الجنوبية، وربطه أيضا بجملة مبادرات، ستقوم بها باريس، كحث جميع الأطراف المعنية على المشاركة بحسن نية في طاولة الحوار حول قضية الصحراء، يقصد بذلك الجزائر التي تتلكأ في حضور الموائد المستديرة بحجة أنها ليست طرفا معنيا بالصراع، وإنما مجرد فاعل حيادي يساعد على الحوار بين طرفي النزاع. لكن رغم ذلك، تبدو فرنسا حريصة على أن تجعل الكسب الذي ستحرزه سابقا على التعبير عن هذا التقدم في الموقف الذي لا تريد اليوم أن تكشف عن جميع مضامينه، أو بالأحرى، لا تريد أن تقدمه دون أن تحصل على ما تريد. فرنسا، أقدمت من خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي على خطوة حاولت من خلالها الإشارة إلى أنها تسير بشكل متدرج في الموقف من قضية الصحراء، فأعلن وزير الخارجية الفرنسي في اجتماعه مع نظيره المغربي عن عزم باريس افتتاح مدرستين فرنسيتين ومركز ثقافي في مدينتي العيون والداخلة في الصحراء المغربية، وهي خطوة وإن كانت صغيرة قياسا إلى ما يتطلع إليه المغرب من إنشاء تمثيلية دبلوماسية فرنسية في المناطق الجنوبية، إلا أنها تحمل معنى سياسيا مهما يحيل على الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. في الواقع، إنه من السابق لأوانه تقييم حصيلة زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى المغرب، فما من شك أن هذه الزيارة، رغم السياسة الفرنسية المتدرجة في التعبير عن تغير موقفها من قضية الصحراء، تمثل بكل المقاييس مكسبا سياسيا مهما للرباط، فاليوم أضحى الطريق سالكا في اتجاه تحويل منطقة الصحراء المغربية إلى جسر حقيقي لمرور الشراكات الدولية، والمبادرات التنموية، وفي مقدمتها مبادرة الواجهة الأطلسية، التي تشير مؤشرات هذه الزيارة إلى تخوف فرنسا من التخلف عنها بعد أن دخلت واشنطن على الخط،، كما صارت عزلة الجزائر أمرا واقعا، بعد أن خسرت مدريد، وابتعدت عنها باريس، والتحقت دول الساحل الثلاثة (مالي، النجير، تشاد) بالمبادرة الأطلسية. لكن مع ذلك، ينبغي أن نقرأ جيدا اللغة الفرنسية، فباريس جاءت تطرح وبشكل غير مفهوم شراكة ممتدة في الزمن (30 سنة) وأبدت كما هو واضح في خطاب ناصر بوريطة اهتماما كبيرا بإفريقيا ومنطقة الساحل، وتريد أن تجعل من الشراكة مع المغرب والمصالح المشتركة بين الطرفين، أداة لاستعادة جزء مهم من نفوذها الذي تعرض للتراجع في المنطقة. تكشف مجموع هذه المؤشرات إذن، عن سياسة تريثية فرنسية، أو بتعبير دقيق، عن تكتيك الفرنسي في المفاوضات، فباريس تدرك أن استدراك الموقف، وضمان مشاركة فعالة في الاستراتيجية الأطلسية التي باركتها واشنطنومدريد، يمر بالضرورة عبر الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، ودعم التنمية في الأقاليم الجنوبية، لكنها، لا تريد أن تقدم هذا الموقف شيكا على بياض، وتفضل أن تصرفه بشكل متدرج، فتبدأ بمجرد خطوات رمزية داعمة للموقف المغربي (افتتاح مدرستين فرنسيتين ومركز ثقافي في مدينتي العيون والداخلة في الصحراء المغربية) ومبادرات سياسية محدودة (دعوة الأطراف المعنية وبشكل خاص الجزائر في المشاركة في الموائد المستديرة) وهي تروم من خلال طرح مفهوم الشراكة الممتد في الزمن (30 سنة) الإيحاء بأن على المغرب في سبيل أن يتقدم موقف باريس أن يقوم بدور أكبر من أجل أن تحظى باريس بمصالح أوسع في إفريقيا، وأن تستعيد نفوذها المهتز في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وأن تضمن أن تكون الأوفر حظا من غريمتها مدريد. الرباط معنية في المرحلة المقبلة أن تعي قوة الأوراق التي بين يديها، وأن تصريف باريس لموقفها من قضية الصحراء بشكل متدرج، وإن كان يثير بعض الحساسية، إلا أنه ليس بمضر، بل يمكن أن يستثمره المغرب سياسيا بشكل جيد، لكن في المقابل، فإن الوعي العميق في حاجة باريس إلى الرباط، لإعادة تعريف سياستها الخارجية في إفريقيا، يسمح بالتخفف من أي ضغط فرنسي يستعمل ورقة الصحراء من أجل إرباك علاقات المغرب مع شركائه لاسيما مدريد. في المحصلة، يمكن القول في التقييم العام، إن زيارة وزير الخارجية الفرنسي حلحلت الموقف، وأبدت مؤشرات إيجابية، لكنها غير مكتملة، وتحتاج الرباط في القادم من الأيام أن تحول تكتيكات باريس التفاوضية إلى موقف واضح، يكون مدخلا للشراكة، لا أن يكون الثمن الذي تقبضه باريس من الشراكة مدخلا لتقدم موقفها.