إن الحياة البرلمانية لا تحسب بعدد السنين بقدر ما تحسب بتراكم التجارب البرلمانية والعمل البرلماني ومدى صدقية التمثيلية البرلمانية، وحسن أداء البرلمان لدوره في النظام السياسي كحلقة في سلسلة السلط الثلاث التي تكون النظام الديموقراطي أو الساعي ليصبح كذلك، فالسلطة التشريعية في النظام الديموقراطي لها مكانتها ولا يمكن تجاوزها، كما لا يمكن للنظام السياسي أن يسير أو أن يعمل بدونها في تناغم وانسجام. أما لما يكون الزمن السياسي المغربي لم يستثمر بشكل ،ولا بمضموم، جدي وفعال لحد الأن، ليجعل من هذه المؤسسة التشريعية سلطة كاملة لا تقل ولا تفوق أهمية لباقي السلط ،وذلك يعود لعدة أسباب، أهمها أن النخب السياسية انشغلت بترتيبات جانبية وأعطت أهمية لمصالحها الخاصة وتركيز مراكزها في السلم السياسي وضمان التواجد الحزبي او القبلي والمصلحي في النظام السياسي والتسابق على جني الثمار كل وفق تبريراته ودوافعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ، هذا من جهة ومن جهة أخرى كانت النخب السياسية مشتتة بين عدة انشغالات سياسية واقتصادية واجتماعية ، وعدة اعمال ومهام مركزية ومحلية وطموحات حزبية ونقابية ، وهذا ما يفسر ذلك التفكك الحزبي الذي مازالت تعاني منه الساحة الحزبية والنقابية لحد اليوم وهذا ما أثر على التركيبة السياسية المغربية ولاقت عدة عقبات ومنعرجات ، لأن التصور الشامل لبنية النظام السياسي في البداية لم تكن ترى التمثيلية الشعبية في شكل البرلمان كما هو متعارف عليه في النظم السياسية البرلمانية بل كان يعتبر كهيئة استشارية لمركز القرار والحكم الذي استقر على النظام الملكي بعد الاستقلال ليكون حلقة وصل واستمرارا – مع بعض التحديثات – التي تطلبتها المرحلة السياسية والتاريخية آنذاك. إذن منذ البداية لم يكن البرلمان يأخذ قسطا مهما في خريطة النظام السياسي . وفي هذا الوضع السياسي المركب من عدة واجهات المتضاربة والمتناقضة والتي جعلت من الساحة السياسة منقسمة الى عدة ساحات مكونة من فصائل كلها تسعى للوصول لسدة الحكم بكل الطرق والوسائل، وهذا ما دفع النظام الملكي المغربي بقيادة المرحوم الحسن الثاني الذي فهم اللعبة السياسية المغربية جيدا واطلع على كل مكوناتها وبدت له الصورة واضحة جدا ليضع كل الخيوط المتحكمة فيها في يده منذ وضع الدستور الأول لسنة 1962 ، فكانت الصراعات الحزبية والنقابية المعارضة وذات توجه" تقدمي" بالإضافة الى تدخل المؤسسة العسكرية لتفرض تصوراتها السياسية وإن فشلت في ذلك ، لكنها تركت بصماتها في الفكر السياسي وفي ذهنية النخب السياسية كل وفق قناعاته السياسية وتأويلها ،وكانت كلها تتمحور حول كيفية تقليص سلطات الملك أو تغيير النظام بالأساس عن طريق الانقلابات. أما حزبي الاستقلال و الاتحاد الاشتراكي الذي خرج من رحمه كانا يستقطبان المعارضة السياسية في البلاد بجانب حزب التقدم والاشتراكية فيما بعد ثم منظمة العمل الديموقراطي وأخيرا الحزب الاشتراكي الموحد ، وكانت الساحة الحزبية تعرف تغيرات وانشقاقات لا تستند على أسس او أسباب إيديولوجية أو اختلافات في المشاريع المجتمعية والسياسية والاقتصادية بل كانت الانقسامات الحزبية كسلاح مضاد للإضعاف الأحزاب المعارضة ،وهذا ما فسح المجال للأحزاب اليمينية التي أطلق عليها الأحزاب الإدارية لتتكاثر ولتملأ الساحة الحزبية ويختلط الأمر على المواطن الدي لا يفهم في اللعبة السياسة كثيرا ولا يميز بين هذا وذاك من الأحزاب بسبب الجهل السياسي والوعي بالمرحلة السياسية وخبرة خباياها الوضع الذي مازال حاليا يتخبط فيه. . من الواضح إذن أن اللعبة السياسية منذ البداية لم تكن لتستقيم وفق القواعد المطلوبة للتوفر على بتية نظام سياسي ديموقراطي بكل الشروط المطلوبة، وعلى هذا الأساس تراكمت التدخلات وكثرت التفاعلات من أجل أن تأخذ كل جهة نصيبها من قسمة "كعكة" الحكم، وفي أطار نظام كان مازال يجر معه بقايا التقاليد والأعراف والعادات القبلية ونوستالجيا امتيازات عهد الحماية للمتعاونين مع المحتل الفرنسي وتمسك النظام المخزني بنواة بنياته التي لم تتغير في ظل الحماية بقدر ما كانت هناك إضافات لا تمس جوهره بقدر ما تساعد على تكريس الاحتلال على تمرير مصالحه عبر تحديث الإدارة المغربية لتصريف مصالحه الاقتصادية والسياسية والثقافية والتمكن بالهيمنة على كل ثروات البلاد . وفي ظل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها النظام السياسي المغربي تطورت الزوايا السياسية من قبل النخب ومخططي نظم الحكم ومنظريه لتجد البنية البرلمانية كسلطة تشريعية وكنخب برلمانية تغييرات جعلت من البرلمان مركز استقطاب من قبل شتى طبقات المجتمع المغربي ومكوناته السياسية ،بل إن البرلمان أصبح للكثير منهم ترقية اجتماعية واقتصادية وحماية من المتابعة القضائية والمحاسبة المالية فيما يخص الضرائب ،كما أن البعض وجد في البرلمان طريقا سهلا لتسهيل تمرير مصالحه وجسرا للمرور فوق المساطر الإدارية واختزال الطرق لخدمة مصالح شركاته ومصانعه بلقاء مدراء دواوين الوزراء وتمكينهم بالملفات المطلبية لمصالحهم الخاصة دون المرور من المسطرة الإدارية القانونية التي يخضع لها كل المواطنين. ومهما يكن من أمر فالحياة البرلمانية المغربية لم تضف الكثير للنظام السياسي كبنية تؤسس على عقلية برلمانية تحترم النقاش والآراء سواء مؤيدة أو معارضة، بل استقر البرلمان في العقل الجمعي على أساس أنه إطار للكلام ورفع الصوت حين المرور المباشر في النقل المباشر للجلسات البرلمانية على الشاشة الصغيرة، ومن ساكنيه من كشف عن بطنه وهو يحتج على رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ، إلا ان في الكواليس ظهرا "الخصمان السياسيان" . وهما يتصافحان ، مما يدل على النقاش السياس البرلماني مازال لم يمكن من وضع قواعد وأسس أخلاقية للتعامل البرلماني بين مكوناته على مبادئ الاحترام والتقدير وفسح المجال للتعبير لكل مكوناته على أسس أخلاقية ومواقف لا تخدش الشعور الإنساني ، لهذا دعا الملك محمد السادس عدة إلى تخليق الحياة البرلمانية من خلال" إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها، تكون ذات طابع قانوني ملزم ،" وبالفعل شرع مجلس المستشارين في على تعديل مواد نظامه الداخلي، التي سيتم تضمينها مقترحات تخص تخليق الحياة البرلمانية. ولكن هل يمكن لمدونة الأخلاق البرلمانية من شأنها لوحدها أن تعطينا برلمانا يناقش كما ينبغي أن يكون النقاش السياسي، نقاشا عميقا وموضوعيا ويغوص في مشاكل واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي وفي كل المشاكل التي نعاني منها؟ هل القانون الداخلي المتضمن لمدونة أخلاقية برلمانية قادرة على أن يغير البنية الذهنية والأخلاقية لدى البرلمانيين وتربيتهم التي ترسخت من خلال ممارسة واقع مجتمعي وتربوي وعقلي كثيرا ما تعود على القفز على الحقائق والتمسك بالحبل الي يوصله لمصالحه؟ لكن نسبق الأحداث فالصبح قريب . ولما وصل الأمر الأخلاقي بالبرلمان بفعل ممثلي الأمة كان على أعلى سلطة في البلاد أن تتدخل لتدعو لوضع تلك المدونة الأخلاقية للحد من وضع حول جلسات البرلمان، بغرفتيه تمتلئ بالصخب والصراخ وبالكلام الساقط لدرجة أن الملك الحسن الثاني من قبل وصف البرلمان ب "السيرك" .ولم يسلم البرلمان من النقد من قبل عموم المواطنين ، خاصة لما عرف الجميع أن وصول الكثير من ممثلي الأمة كان عبر شراء الأصوات، أصوات الناخبين . اما الباحثون في الشأن البرلماني المغربي فقد تم تقييم البرلمان المغربي على أنه فقط غرفة للتسجيل، بحيث كانت كلمات المتدخلين من البرلمانيين غالبا ما يبدؤون مداخلاتهم بكلمة "نسجل " . إن حياة البرلمان المغربي، رغم السنين لم تجعل منه كائنا سياسيا ناضجا، ولم تزده الأعوام غير الانتكاس والتقهقر، والحال أن الحياة السياسية المغربية في استقرار واستمرارية، ولكن البرلمان واقف على قاعدته التي تقول: " إنا نحن هنا قاعدون"، ولو عدنا للذاكرة البرلمانية لوجدنا البرلمان المغربي، برلمانات متعددة الأوجه. فبرلمان 1963 الذي استمر الى حدود 1965 حيث تم حله بسبب أحداث الدارالبيضاء، لم تكن جلساته ، كما هي الحال عليه الأن، بل كانت عبارة عن محاكمات متواصلة يتربع في منابر الدفاع عن الشأن العام والصالح العام نخبة من رجالات الوطن التي شكلت فريقا للمعارضة ،فريقا من النخب التي تدربت في أطار الحركة الطلابية ، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، ( أوطم) ويضم مجموعة من الشخصيات مكونة من عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان محاميا، والمهدي بن بركة الذي كان مفوها ومولاي المهدي العلوي والفرقاني المقاوم وبن ابراهيم الشتوكي والمعطي بوعبيد ومحمد التبر ومحمد لحبابي وآخرين من الجامعيين الذين احتكوا بالحركة الوطنية وتسلموا مشعل النضال الوطني بصدق وأمانة . . أما حقبة برلماني 1970 - 1972 فلقد كانا يختزلان فترة من عدم الاستقرار السياسي للنظام ككل ، بحيث شهدت هذه الفترة حدوث انقلابان عسكريان فاشلان، هذا الأمر دفع النخب الحاكمة لمراجعة التركيبة البرلمانية من نظام الأحادي الى نظام برلماني ثنائي المجلسين ، وأدخلت تعديلات في دستور 1972 بحيث يظل البرلمان قائما ولو طانت هناك حالة استثناء ، تلك الحالة التي ظلت عمليا مستمرة منذ 1965 الى سنة 1977 سنة انتخاب برلمان جديد ، وبذلك يمكن القول أن البرلمان المغربي مؤسسة سياسية تعكس التطورات والتحديات التي تمر بها البلاد ،وعليه يظل البرلمان المغربي لاعبا أساسيا في الحياة السياسية بالرغم من أن عدة نقائص تؤثث هيكلته الشكلية وتظل عالقة به الحدود التي لا تطلق له العنان لبرلمان كمؤسسة وللبرلمانيين كفاعلين سياسيين للقيام بالأدوار التي من شأنها أن تجعل منهما محركين للفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالبلاد ،وبذلك تكتمل الدائرة المحركة لعجلة التسريع السياسي نحو الديموقراطية، حيث تصبح التمثيلية البرلمانية لها معناها على أرض الواقع السياسي وبالتالي لن تكون هذه المؤسسة موضع النقد والاحتراز بل وكثيرا ما تكون موضع التندر وتقليل الشأن السياسي واعتبارها مؤسسة تابعة لا أقل ولا أكثر . ولكي نكون في الطريق السيار للديموقراطية على النخب السياسية أن ترفع السقف للمطالبة بجعل البرلمان المغربي سلطة تشريعية، وسلطة شريكة في النظام السياسي ،لا ملحقة للمصادقة على مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة له على عجل ،بل على البرلمان أن يأخذ وقته القانوي للنقاش والدراسة ، وإن استعصت علية قضية من القضايا عليه أن يطلب استشارة مكاتب الدراسات المختصة ويعتمدها وأو يستأنس بها في اتخاذ موقفه ، إزاء تلك القضايا المستعصية عليه ، وما خاب من أستشار ... إن الحياة السياسية لمؤسسة ما لا يمكن اختزالها في مقال صحفي بقدر ما أننا مررنا على بعض الأوجه التي يمكنها أنتكشف لنا الوجه الحقيقي للبرلمان وحياته التي تطورت عبر عقبات وسوء أدراك عواقبها على المسار الديموقراطي وتعطيل الزمن السياسي المغربي للوصول لمحطات التنمية والتقدم والرفع من مكانة المواطن عوض أن نظل ندور في حلقة مفرغة لا تفيد إلا من يستغل الفعل الساسي التردي لأسباب شخصية أو طبقية ليستزيد من ربح الوقت وما يترتب عليه من تراكم المصالح المادية والمعنوية على حساب معاناة شرائح عديدة من المجتمع المغربي الذي يستحق أفضل المعاملة وأجود نخب ترقى به لسماء الحرية والرخاء. إن البرلمان المغربي بغرفتيه لم تحسن النخب السياسية استعماله كآلية لتوسيع صلاحياته التي من شأنها أن تسرع بدمقرطة الساحة السياسية وتوسيع فضاء الحريات العامة، وتنقية الأجواء السياسية وإرساء السلم الاجتماعي والاقتصادي والاجتماعي. وليكون البرلمان مؤسسة يستقطب خيرة المواطنين تربية سياسية وأخلاقية ومستوى فكري وثقافي، والتزام بالمسؤولية وثقة وإخلاص للقيام بتمثيل المواطنين سواء من صوتوا عليهم أو من صوت على خصومهم السياسيين.