تابع.. والدولة العميقة أمر واقع في كل الدول، وإلا انقلبت الرأسماليات شيوعيات، والهندوس مسلمين، والأرثودوكس كاثوليكا... كما يحدث بعد الثورات أو الانقلابات أو الاحتلال، حيث تتم مثل هذه التغييرات، مع أن الشعب هو الشعب، وإنما كان مانعها، حال الاستقرار، حراسةُ الدولة العميقة للاختيارات السائدة زمن تكوين تلك الدولة العميقة، وإلا ظهرت هذه التغييرات في التوجهات الراديكالية للشعوب ولو تغيرت الأحزاب الحاكمة فقط، إذا كانت متناقضة التوجه.. وما دام هذا الكيان بهذه "الكونية" والاستمرارية والاستدامة، وهذا الرسوخ والثبات،، فلماذا لا يتم استغلال هذا الثابت الحتمي في "تمنيع" اختيارات الأمم بشكل مؤسساتي ومعلن، بحيث يكون الحاكم الفعلي هو نفسه المعلن، ويُرسّم الأمر أمام الناس، ويباح بما في السر، وتوحد الصورة، ويعلن، على رؤوس الأشهاد، أنه(الكيان) هو الوصي على الثوابت والاختيار العام(النظام)، ثم تجميع الجهد في العمل على إصلاحها وتحصينها وضمانها، بعيدا عن تلك البهرجة الصورية، التي ليس فيها إلا هدر المال والجهد وتقسيم المجتمع، والحاكم الفعلي ثابت مستقر يدير اللعبة من وراء السُّتر؟؟!!!.. بل إن التساؤل قد يأخذ اتجاها "موغلا في الغرابة والشيزوفرينية": والحال العام على الثبات، لماذا يتم نبذ الأنظمة الوراثية(دون قيد للرفض أو شرط للقبول، بل من حيث مبدأ الوجود)، مع أنها، بموازاة "الدولة العميقة/أهل الحل والعقد"(الثابت وجودها في كل النظم)، قد "تضمن تكوين الحكام"(المعروفين سلفا) في معاهدها، وتشكل التربية والتنشئة فيها "تكوينا" عمليا مثاليا للحكام، إذا ما حسُن اختيار منهاج هذا التكوين والتهييء، وضُمنت الرقابة والمحاسبة أثناء الحكم؟؟!!!.. فربما يكون "التوريث" والبيعة حلا، بما يضمن من حرص المورِّث على إرث خلفه من صلبه، و"في الواقع شاهد"(ليست جمهوريات العالم الثالث(وليس فقط العربية) بأفضل من ممالكه وسلطناته وإماراته)، وفي التاريخ دليل(...العثمانيون...).. ديمقراطية يزهو بها الناس وقد أفرزت مرضى دمروا العالم(النازية) أو مختلين يسعون لإبادة أجناس بشرية(اليمين الأوربي(النمسا)، الهند...)، وعهد وتوريث أورث البشرية خيرات، وعاش فيه الناس عزا وكرامة.. حكام لم ينبثقوا عن "الديمقراطية العددية، مسقوفة مدة الولاية"، كما يتم حصرها الآن، ومع ذلك فتحوا بلدانا، وأقاموا دولا وامبراطوريات، وشيدوا حضارات، وشُهد لهم بالعدل والصلاح... عبر تاريخ وجغرافيا هذا الكون الفسيح، من أقصى آسيا، إلى أدنى أوربا، مرورا عبر "الشرق الأوسط"، مهد الحضارات.. بل هناك أنبياء ورسل، عليهم السلام، ورثوا وحكموا وعهدوا وأورثوا.. إن عمْر "الديمقراطية" لا يتجاوز عمر اليافع في سلّم التاريخ، ومع ذلك توجد فيه حضارات ضخمة ومدهشة، بل معجزة، رغم قدمها وعراقتها. كما عرفت كثير من شعوب العالم "قبل الديمقراطية" رخاء ورفاهية وأمنا وطمأنينة وسلاما ووئاما... لا تشعر بها شعوب اليوم.. إن الناس، ومنذ أن بدؤوا في التجمع والتنظيم، قد عرفوا وجربوا وطبقوا عدة أنماط حكم، ولكل منها محاسن ومساوئ. وأوصلت كلُّها البشريةَ إلى مواصل فيها الخيّر وفيها الشرير.. وقد تشكل الديمقراطية، بمفهومها المتداول، النمط المثالي لأنها تستند، من الناحية النظرية، على فلسفة أن البلاد لأهلها، فهم من يحق لهم أن يختاروا من يقودهم لأجَل، وفق تعاقد محدد، يتنافس فيه من شاء لينال شرف ذاك التفويض.. لكن، ونظرا لثبات الاختيار حد الجمود في الديمقراطيات الحالية، حتى بصيغتها النظرية، بما يوحي بانعدام أية حرية أو اختيار أو إمكانية تغيير. ونظرا كذلك لأن آليات التنافس مشبوهة بتمويلاتها المادية ومغالطاتها الإعلامية. ونظرا أيضا للاختيارات المحدودة التي تتيحها، بحيث لا تسمح بطرح الخيارات طويلة الأمد،، فإن هذا النمط بدوره ما هو إلا ذر للرماد في العيون. وبالتالي فليس هناك أي نمط حكم يستحق أن يفضل على غيره، وغاية ما يمكن أن يكون هو اختيار المناسب لكل مجتمع.. وأغلب هذه المثالب لها علاج، لو أراد المنظرون للديمقراطية ذلك، كأن يصارحوا الناس بأن مجال التغيير لن يطال أسس الدولة. وأن يعيدوا النظر جذريا في ما يسمى بالحملات الانتخابية، سواء من حيث التمويل والأموال المرصودة، ولا من حيث الإشهار والتغطية الإعلامية،، بل ربما من حيث مبدأ الإقامة أصلا. وأن يرشّدوا الأهلية الانتخابية(يتوسعون في مفهوم الرشد، ولا يقصرونه على السن، فهناك بالغون سفهاء)، حتى يفرزوا "نخبة انتخابية راشدة". وهذا موجود من حيث المبدأ، ولو بشكل من الأشكال، كما هو الشأن عند انتخاب منتخِبين لينتخبوا بدورهم منتخَبين، وهكذا... أو كما هو الحال لدى الأنظمة التي تنتخب الرؤساء عن طريق البرلمان. وأن يفرّقوا بين شروط انتداب المنفذين، وتلك الخاصة بالمراقبين، حيث يتم انتخاب المنفذين بشروط وصيغ أكثر مرونة، على الأقل من حيث مدة الانتداب(وهو واقع موظفي الدولة الثابتين، والذين ينجزون فعليا المشاريع، بغض النظر عن تتابع المنتخبين العابرين)، وانتخاب المراقبين بشروط وصيغ أخرى، لا تهم فيها طول المدة، ما دامت المهمة هي المراقبة، ويمكن تقييم تلك المهمة حسب كل عملية قام بها الجهاز المنفذ، ولو كانت المدة وجيزة.. انتهى..