تابع.. وإذا كانت السياسة هي رأس الأمر، وعبرها يتم تنظيم المجتمع وقيادته وحمايته، وإذا كانت سبل تلك القيادة متنوعة، فيها التليد وفيها الجديد، ومنها ما انقرض ومنها ما لم يزل، فإن أغلب غالبية الناس يعتبرون "الديمقراطيةَ" أسمى إنجاز وصل إليه الاجتهاد البشري في مجال تفويض تدبير الشأن المجتمعي العام، على المستوى النظري على الأقل.. وركيزة هذه الوسيلة في تداول التدبير هو الكم الفارق بين الأغلبية والأقلية، وهذا لفترات زمنية محددة،، أي أن جوهر الأمر هو "صراع الأعداد".. لكن "الديمقراطية العددية"، بهذا الإطلاق، تأبى الثبات، من جهة، وتجافي الحق والصلاح، كما يحددهما الناس، من جهة أخرى، ولا يثبت للمصطلح سوى ذاك البريق الكاذب الواهي، واللمعان الغادر المموِّه المضلل.. فهي، بهذه النسبية المفرطة، تعيش أزمة بنيوية وخانقة من حيث صراع وانقلاب وتغير وتضاد الشرعيات حتى بين ما تفرزه الصناديق اليوم من قوى وبرامج، وبين ما تحاول أن تفرضه "القوى الحية"(النقابات...) غدا، عبر عرقلة تنفيذ اختيارات صناديق الأمس، بل وبين ما قد يشهده الشارع، بعد غد، من "ثورات"، تبدأ مارقة، وتنتهي شرعية.. فتكون الشرعية لمن يمتلك أداة الضغط، بغض النظر عن أية التزامات سابقة!!!.. وأزمة الديمقراطية العددية تتجسد كذلك في عدم القدرة على الالتزام بالحفاظ على الثوابت والهوية والاختيارات الكبرى والنواظم الاستراتيجية، في حالة "تغول" تيار يعاديها، وهي حالة واردة نظريا.. أزمة الديمقراطية العددية "المسقوفة الأجل" تخيم أيضا بظلالها الثقيلة على قدرة "المتبارين"(المنتخبين المفترضين) على اختيار المشاريع الكبرى ذات الأمد الطويل، وإمكانية تنفيذها، أو إلغاء ما برمجه السلف منها، ولا يساير توجه الخلف(ما دام من غير المنطقي أن يُلزَم أحد بتنفيذ أجندة غيره).. لأن المفترض في المترشح للحكم لمدة ست(06) سنوات(وهي أقصى مدة في أغلب الأنظمة) ألا يضع برامج استراتيجية عملاقة، قد يستغرق إنجازها أكثر من عشرين(20) سنة مثلا، وهو لا يعلم أنه سيعاد ترشيحه. فإذا ما حصل، فإن المفترض في من يلي ألا يكون مضطرا لتبني وإتمام ما بدأه غيره ممن سبق، والذي قد يكون غريمه في الاختيارات والتوجهات الاستراتيجية،، اللهم إلا إذا كان ليس للشعب الحق في تحديد السياسات الطويلة الأمد، وإنما يحق له فقط أن يختار من يدبر له معيش يومه، وينجز له مشاريع "السندويتش"، مشاريع الأربع(04) سنوات،، وهو الواقع.. وعليه تكون المشاريع التي لا يمكن إنجازها في دورة انتخابية، أو ولاية حكومية، ومع ذلك تم التخطيط لها وإنجازها، تكون قد أُنجزت "دون تعاقد"، أي لم ينجزها المنتخبون الذين اختارهم الشعب وتعاقد معهم. بل خطط لها وأنجزها "أناس ثابتون"، لا علاقة لهم باختيار الناس وإرادتهم، وهم عمود الدولة الحقيقي، كما سنعود لتفصيل ذلك لاحقا.. هذا على المستوى الأعلى، مستوى التنظير والتأطير.. أما على المستوى الأدنى، مستوى التنزيل، المستوى المؤسساتي والتقني، وبسبب الفسيفساء التي تفرزها "الهندسة الانتخابية"، وتنبثق عنها كيانات متربصة ببعضها، تتحين فرص تصفية حسابات التيارات السياسية المتناحرة. وأيضا بسبب كثرة الأجهزة الرسمية التي أفرزت بيروقراطية موغلة في التعقيد.. بسبب هذا، قد "يتعذر" تنفيذ الاختيار أو الوعد الانتخابي، تحت وطأة تعدد هذه الهيآت والمؤسسات "الرقابية"، والتي قد يصل التداخل بينها حد التعارض أحيانا(الجهاز التنفيذي(الرئيس أو الحكومة)، البرلمان، النقابات، أجهزة ومجالس سيادية...)، ما يؤدي بالعملية برمتها إلى محض لف ودوران في حلقات مفرغة، دون أية إنتاجية أو مردودية.. كيف يكون ل"ديمقراطية" مصداقية، وهي تفرز مسؤولين محليين من اتجاه، ومجالس من اتجاه آخر، وغرفة برلمان من اتجاه ثالث، وغرفته الأخرى من اتجاه رابع، ورئيس الدولة من اتجاه خامس،، وقد تكون الاتجاهات مختلفة حد التناقض،،، وهذا كله في "عرس ديمقراطي" واحد، وكأننا نحسب نتائج انتخابات دول العالم برمتها، وطيلة تاريخ الانتخابات، في نفس العملية الانتخابية؟؟!!!.. "ديمقراطية" يختار المواطن بمقتضاها صاحب برنامج راقه، فإذا ما وصل هذا المختار إلى السلطة عجز عن تنفيذ الوعد، ليس تنصلا منه ولا تملصا، وإنما منعته الأجهزة أو اللوبيات(المجالس العليا، النقابات...)!!!.. "ديمقراطية" يجب فيها إبرام صفقات بين الأحزاب التي تسيطر على مؤسسات معينة، كي تسير أمور البلد(حزب الرئيس، والحزب الذي يسيطر على الكونجرس، مثلا)!!!..