نشأنا في مدينة صغيرة إلا أنها جميلة بل إنها أجمل مدينة، جميلة ببنيانها وبسكانها و بمعالمها كنا نعرف جميع أزقتها و شوارعها ، كنا نعرف جميع سكان حينا و الأحياء المجاورة بأسمائهم والأحياء البعيدة نعرف سكانها بوجوههم أو لكونهم أقارب بعض أصدقائنا أو أقارب جيراننا .رغم أن معظم الأزقة لم تكن معبدة إلا أنها كانت جميلة في أعيننا و غالبا ما كنا نحولها إلى ملاعب لكرة القدم في أوقات معينة من اليوم و بشكل مكثف خلال شهور من السنة و للإشارة فأغلبنا كنا محترفين لأن اللعب بلا مقابل لم يعد يحفزنا إلا أن المستفيد هو الحكام لدرجة أن الجميع أصبح يفضل لعب دور الحكم ، أو من يربح الكثير من المقابلات و هو أمر ليس سهل المنال فقد كانت المباريات سجال يوم لك و يوم عليك و هذا بالطبع دون علم عائلاتنا ، لم تكن هناك سوى حديقة وحيدة و بسيطة في جنتنا لكنها كانت كالماسة التي تزين التاج ، و لم نكن نرتادها إلى بعد العصر لأن حرارة النهار تمنعنا من ذلك و مع مرور الزمن تحسنت الإنارة فاصبحنا نقصدها ليلا بعدما حولنا ملعب كرة السلة بها الى ملعب مصغر لكرة القدم فكنا من أوائل من إخترع كرة القدم المصغرة لكن بمرمى شبيه بمرمى ملعب الهوكي مع منع الحارس من لمس الكرة باليد، توفر في جنتنا متنفس اَخر هو السينما و التي كانت تعرف إقبالاً كبيراً رغم أن الأفلام المعروضة كانت باللغات الغربية و الاسيوية و التي مكنتنا من تعلم الكثير من الكلمات الغربية من قبيل (سي و نو كريمي نيل و ديسكانسو و النوظو و الموتشاتشو و الكو بوي...) بل أصبح سكان أحد الأحياء الأكثر شعبية يتواصلون بإحدى اللغات الاسيوية فتسمع ( نيهي و بيا و ميا و زندكي و دوستي و كريشنا ....) و في الأعياد لا يتمكن من دخول السينما إلا المحظوظين لأن التذاكر يتضاعف ثمنها في السوق السوداء كما أن الجمهور يتوسع ليشمل الأطفال و العنصر النسوي ، وللأمانة فإن هذه الملتقيات غالباً ما كانت تتخللها مشاجرات تنتهي بسرعة بفعل تدخل الأصدقاء و لا تٌخَلف عداء دائما، في جنتنا كانت المناسبات من أعراس و غيرها بأبواب مفتوحة فالدعوة عامة و مقياس أهميتها ليس أنواع المأكولات و المشروبات وإنما عدد الحضور و تعتبر مناسبةً للتعارف مع أشخاص اخرين، في جنتنا كان لدينا مستشفى واحد و لم يكن عليه ضغط كبير لأن الأغلبية يخشون المستشفى و منهم من يتعوذ عند ذكره و كان الناس يلجؤون الى الطب التقليدي في المقام الأول أما الجروح و الام الرأس فالصبر والتحمل كان هو الدواء ، في جنتنا كان لدينا موسمين للاصطياف ، الأول في شهر مارس خلال عطلة الربيع و تكون الوجهة هي البوادي و الأرياف المحيطة بجنتنا، أما الموسم الثاني فهو فصل الصيف و الوجهة فيه هي شواطئ البحر، و خلال الموسمين نرتبط بمعارف و علاقات جديدة و نصبح في احتكاك مباشر مع الطبيعة و من منا فكر في السفر الى مدينة غير جنتنا يكون التساؤل الأول ليس ماذا سنرى و لكن بمن سنلتقي و مع من سنتسامر فيكون القرار هو البقاء في جنتنا ففيها كل ما نحتاجه كما أننا لا نعاني فيها من الوحدة والعزلة او التوتر او الكآبة ، في جنتنا كان هناك مسبح لكنه غير متاح للجميع فثمن التذكرة يفوق إمكانيات الأغلبية منا و بما أنه كان في منطقة منخفضة أسفل منحدر كنا نستمتع بمشاهدته و من فيه من أعلى التلة . في جنتنا عانت فئتان من الخدمات الأولى هي سيارات الأجرة ذلك أنه و أنت تنتظر مرور طاكسي يتوقف عليك أحد الأقارب أو الأصدقاء أو الجيران ، أما الفئة الثانية فهي الفنادق ذلك أن الوافدين إلى جنتنا يُمضون أيامهم بجنتنا عند أقاربهم أو معارفهم و من العيب أن تلجأ الى فندق و هناك أقارب أو معارف لك بجنتنا ،كانت جنتنا مقصداً لأسراب و أنواع عديدة من الطيور المهاجرة خلال رحلتي الخريف والربيع من أفريقيا نحو أوربا و من أوربا إلى أفريقيا حيث تجد مثلا البط و السنونو واللقلاق ،ولعل ما كان يجذبها هو المستنقعات بالوادي حيث تكثر بعض الحشرات التي تعتمد عليها في تغذيتها ، في جنتنا كان أصحاب الإعاقة الذهنية و ذوي الاحتياجات الخاصة مرحب بهم في جميع البيوت ولم يكونوا أبداً عبئً على أحد بل كانوا مصدر بهجة و سرور للجميع وكان الجميع يشملهم بالعطف والمساعدة ، في جنتنا كانت أغلب الأسر لها اكتفاء ذاتي من الحليب و مشتقاته فجل الأسر تتوفر على بعض المواشي قرب بيوتها أو على أسطح منازلها ،في جنتنا غالبا ما يكون طعامك قد ساهم فيه الجيران بمكون كالملح أو الماء أو التوابل أو ...مع التقدم في العمر و الانفتاح على العالم اكتشفت أمراً مهما و هو أن جنتنا مدينتنا ليست هي المدينة الجنة الوحيدة ،فهناك مدن كثيرة كانت جنان لساكنتها مثل انفا و روما و باريسالقاهرة و لوس انجلس وأكادير و ... قبل أن يصيبها ما أصاب جنتنا من النمو العمراني و التمدن و الانفجار السكاني و الضجيج و التلوث حتى أصبحنا نتحين الفرص و حتى الأعذار لمغادرتها ، لكن ربما هذه المدينة الكبيرة التي نراها مختلفة عن مدينتنا جنتنا ربما هي الأخرى جنة في عيون غيرنا.