وحدث أن كنا ستة أشخاص محشورين داخل سيارة الأجرة الكبيرة أمام علامة قف حمراء ثابتة، ملتصقين تقريبا بحاوية قمامة تقيأت كل ما بمعدتها وبكل الألوان!! ومع أنني لست متحفزا ولا متربصا بالشارع العام ،إلا أنني تأملت المنظر قليلا- وهو منظر يشبه معظم الشوارع بمدننا إن لم أقل كلها- فبدا لي كأنه عصير مركز للحياة العامة ببلادنا، شارع عبارة عن لوحة بانوامية لحالة المغرب وكل مشاكله، على شكل نماذج حية تمشي على الأرض في خليط عجيب يشبه خليط التوابل التي تشكل " راس الحانوت"!! وهكذا أحكمت الفوضى سيطرتها على الشارع الذي أصبح ميدانا فسيحا تدار فيه معارك الخبز اليومية، في جو من التدهور والضعف. وهكذا وأمام تفشي الظواهر الاجتماعية من أمية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وجرأة الاعتداء على الشارع العام، يمكن رصد جيشا من الباعة المتجولين والمتسولين ،وحلقات بائعي الأعشاب وبيض النعام وجلود الأفاعي والأشياء العجيبة الغريبة للتداوي من جميع الأمراض والأسقام!! كل ذلك ويصطف إلى جانبهم بائعي كل شيء من ملابس مستعملة وأدوات وأشياء لا "هوية"لها !!بل حتى الخبز والحلويات تحجز مكانها داخل هذه "السمفونية" الصارخة..ناهيك عن السلع الجديدة المعروضة بشكل سافر على الأرصفة المخصصة أصلا للراجلين. إضافة إلى مواقف سيارات غير منظم وهكذا أصبح الشارع العام مهرجانا مزركشا بالتلوث الصوتي،أو لنقل أصبح الشارع كرنافال يومي تؤثثه المقاهي والأسواق التي تخرج ما في بطونها إلى الفضاء العام،ولا ننسى ما يحدث طبعا خلف الأسوار المنسية حيث يقضي بعض البشر حاجاتهم الطبيعية!! ويزداد المنظر تعقيدا مع سقوط الأمطار ، !! وخطوة خطوة ترسخت اللامبالات كطقس يومي في حياة الشارع العام.ربما من فرط القرب نكاد لا نرى كل هذه التفاصيل التي نعيشها حولنا ،وقد نحتاج أحيانا على أن نطير في الهواء لنطل على هذه البانوراما التي لو مايزال الفنان الاسباني الشهير "بابلو بيكاسو" على قيد الحياة لرسمها لتنافس " غرنيكا". لكم تبدو شوارعنا التي لا يهدأ فيها الغبار الذي يغطي واجهات المباني موحشة ومخنوقة ،ليضع ستارا من القبح يحجب الأفق. إن الشارع العام بمدننا يعج بمظاهر الهشاشة وغياب شروط الحياة الكريمة،خاصة شرط العمل التي يسمح للمواطنين تحمل واجباتهم المهنية والعائلية والاجتماعية والتمتع بحقوقهم،ذلك أن مخاطر هذا الوضع تؤثر بشكل واضح على القيم والمعايير الاجتماعية،فيطل علينا هذا الخليط العجيب في الشوارع والطرقات،والذي يغذي الإرهاق وخيبة الأمل من رفاهية السير في شارع أنيق فسيح مصقول بعناية ومحاط بالأشجار والحدائق ونوافير المياه . لايختلف اثنان على أننا تطبعنا بشكل رسمي مع الحفر في كل مكان والتي أصبحت مع الوقت "وديان سحيقة" كالمرض المزمن يصادفها السائر على قدميه أو الممتطي ظهر أي وسيلة نقل .وبهذه المناسبة أهمس في أذن كل من يحمل نظارات طبية أن يجددها على مدار العام!! في خضم هذه المغامرة اليومية التي نخوضها ونحن نسير في الشارع لا تحضرني سوى جملة واحدة من كل مأثورات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب" لماذا لم تمهد لها الطريق يا عمر؟!" فأتأمل كيف كانت هذه "البغلة " محظوظة حيث شغلت بال الخليفة عمر وخشي وهو في المدينةالمنورة أن تعثر –تلك البغلة- بالعراق. نعود إلى واقع البشر الذي تحكمه مؤسسات محلية ومركزية وتتدخل فيه ،إما لتكريس وقائع الفقر التي تؤثث الشارع في مدننا ،أو الحد من آثاره البائسة. فهل يمسك القائمين على تدبير الشأن العام على " راس الخيط"؟ فإذا كان مفهوم الضبط الاجتماعي يستدعي الخوض في الحقوق والواجبات ،فإن الامساك ب"راس الخيط" يستدعي إعادة النظر في سلم الأولويات المجتمعية والسياسات العمومية والاهتمام بالفئات الهشة عبر التركيز على الاستثمار في التعليم والصحة والشغل.قد يتساءل البعض "ما علاقة الشارع بكل ذلك؟ نعم هناك علاقة تناسبية وتفاعلية أكيدة بين الأمرين.ذلك أن تفعيل الحقوق الأساسية ، التي ينص عليها الدستور المغربي والمساواة بين كافة الفئات المجتمع التي ينص عليها الدستور المغربي،وتحقيق العدالة الاجتماعية. ذلك أن دولة الحق والقانون تنبني على ما تحمله المؤسسات العمومية من معنى وليس ما تحمله من خطاب لم يتخلص من "الخشبية". إن اشتباك مفهوم المواطنة وحقوق المواطن في الشارع العام،لاترتبط فقط بثقافة الواجب بل تقتضي تحمل المسؤولية الاجتماعية وضمان المشاركة الجماعية في التنمية ،بعيدا عن التحرش بالمواطن يئن تحت وطأة حمولة التهميش التي تراكمت عبر السنين.وهكذا فإن ظاهر الشارع العام إنما هي مؤشرات واضحة عن تردي الخدمات العمومية. وبالتالي فإن تفكيك عوامل الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية من بطالة وفقر سيحرر الشارع العام من الفوضى باعتبار المظهر العام للشارع في مدننا هو نتيجة طبيعية لتدهور إمكانات المجتمع وقدرته على الفعل الايجابي في ظل التهميش المستحكم وتراجع الاهتمام بالمصلحة العامة ،فتتراجع المنظومة القيمية والأخلاق ،فتحل محلها الأنانية والقتال الدائم لانتزاع أي موقع في الزحام وبأية طريقة!! وهنا نعود لوظيفة الدولة التي استغرقت في الخطاب بعيدا عن إرادة سياسية حقيقية تنزل إلى الواقع لتوسيع المشاركة المجتمعية في تدبير الشأن العام ،وتوفير البرامج الحقيقية لمحاربة الفساد بناء على الحكم الرشيد القائم على الشفافية والمساءلة وسيادة القانون. فالشارع إذن عنوان لتنامي البطالة والهامشية والهشاشة الاجتماعية ، وهي كذلك عنوان للتراخي في تطبيق القانون. وحين يبدأ المسؤولون على تدبير الشأن العام النزول إلى الأرض، آنذاك فقط يمكن أن تداعبنا الخيالات الجميلة عن شوارع حريرية وطرقات لاتسبب الانزلاق الغضروفي. لقد أصبح الشارع سوقا كبيرة مكتظة بالبشر كلما أدخله ،أحس وكأنني ألهث من الفزع والفوضى ،ولا يتبقى أمامي سوى أن أطير،أو استدعي الصمت لأوجز معنى السير في شوارعنا ، لقد استهلكنا كل البشاشة ونحن نقطع شوارعنا، بل حتى النوافذ لا تتسع لإطلالة رأس متورمة مما يحدث في الشارع....!! تزاحمت الصور والأصوات والأشياء في شوارعنا على شكل خليط يحاكي "راس الحانوت"، فأصبح حجم البؤس والإذلال يتفاقم ليمارس علينا كل أشكال القهر. وفي انتظار عطر الزهور، فالحكمة تقول أنه على الدولة أن تقوم بوظيفتها الحقيقية عبر الآليات الرسمية وغير الرسمية التي تقود إلى الامتثال للقانون ليطابق السلوك العام في الشارع مع أعراف المجتمع وقوانينه وبالتالي الامتثال لها ..بدل تقديم ساعة أو تأخيرها .ودائما الأرض لمن يحرثها.