نجح مسلسل طارق بن زياد ،على الرغم من الاختلاف الكبير في تقدير قيمته الفنية،وسيل الانتقادات التي وجهت اليه ، على الاقل في تحريك العديد من الأسئلة الحارقة المكبوتة في الوجدان المغاربي والإسلامي والتي في طليعتها سؤالان اثنان : الأول حول البون الشاسع بين مااستطاع الأجداد تحقيقه من أمجاد وانتصارات زاهية ،وبين مانكابده نحن احفادهم من خيبات وهزائم قاسية . والثاني حول تقاعسنا نحن المغاربة عن استثمار المحطات المضيئة من تاريخنا و عن استدعاء شخصياتنا العظيمة في بناء صرح القوة الناعمة التي نريد منها تحويل النموذج المغربي الى نموذج ملهم وجاذب في المحيطين الإقليمي والقاري ولم لا الدولي . كذلك مسلسل طارق الذي آثار هذه العاصفة من النقاشات بين الجزائريين والمغاربة حول ان كان بطلا مغربيا ام جزائريا، جعل طارق ينهض من قبره ليعطينا درسا في الوحدة .فهذا النقاش الذي صار مادة دسمة لبعض الفضائيات، دونما اي حسم .مأبدا تلك الحيرة في تحديد محتد طارق ،لدليل على ان الوحدة السياسية والجغرافية الحقيقية التي أنجبت أمثال طارق،وابن تاشفبن، وابن تومرت ،وابن رشد وابن طفيل ،والادريسي ،وابن خلدون،هي المغرب العربي الكبير الذي كان دون حدود قبل سايس بيكو المشؤومة كما رد بذلك المخرج الكويتي محمد العنيزي . ولذلك لست ارى اية مشكلة ان يلبس طارق بن زياد جبة فضفاضة تتسع لنا جميعا، أن يكون مغربيا او جزائريا او ليبيا او من المشرق العربي، فذلك لايغير من كونه صار بعد ذلك ملكا لكل العالم الإسلامي. ثم ليس لنا ان نكون ذوي غرض ايديولوجي ونهرع بكل نزق بمناسبة عرض المسلسلسل ، لكي نتبرأ من انجاز طارق بن زياد كما يفعل بعض المتحذلقين، من الحقوقيين المتطرفين الذين يخضعون تاريخا مر عليه أربعة عشر قرنا لمعايير حقوقية لم تستقر عليها الإنسانية الا اخيرا ،وليتها طبقتها بحذافيرها، فلازلنا نرى ان القوة والسلاح هما الفيصل في العلاقات الدولية و المحدد لقسمات النظام الدولي ،ومع ذلك يضرب البعض صفحا عن هذه الملاحظة، ويحاول ان يهدم بمعول تمنطقه الزائف مجد هذا البطل العظيم الذي لاتزال بريطانيا تطلق اسمه على الجبل الذي كان قد حل به اولا عند مجيئه لشبه الجزيرة الابيرية. يحاول البعض كذلك ان يسعى بالدسيسة في التاريخ مدعيا ان الامازيغ إنما تقدموا جيش الفتح لأن القائد بن نصير كان يريد المخاطرة بهم اولا .وهذا تجني على الاحداث ليس الا ،وتكلف في تأويله بسوء نية، لتصوير الفتح الاسلامي كعملية غزو تحضر فيها حسابات ضيقة .بينما الواضح جدا أن اجدادنا الامازيغ تسلموا المشعل بسرعة من اجدادنا العرب لاقتناعهم بالاسلام دينا، بل ولقد تجندوا للفتح تحت قيادة أمير الجيش المعين من الخليفة بدمشق ، وبالتالي لم تكن هناك مقاومة شديدة للفتح بالمغرب الكبير ، فانتشار الإسلام به استغرق من الزمن مثلما استغرقه انتشاره ليعم الجزيرة العربية في المشرق وعلى عهد الرسول الكريم صلعم وخلفائه الراشدين ،بل كان هناك استيعاب كامل لمفهوم الجهاد، وكذلك احتضان وانضمام وانخراط في شتى مناحي رسالة الإسلام الذي كان انذاك لازال يزحف في اتجاه كل الدنيا بفضل قوة الدفع التي جاء بها الوحي المحمدي . بطبيعة الحال ،نحن أمام تاريخ بشري ،وحينما تمر القرون ،تنمحي التفاصيل الصغيرة وتخلد الدلالات الكبرى ،و يبقى تلاقح الشعوب، التي تعاود تخلقها من جديد، فالهوية ليست ثابثة، بل هي تتطور بمرور الزمن، وتكتسب قسماتها العصية على الذبول بفعل الاجماع والتحولات الفارقة ،هذا ماادى الى نشوء الشخصية المغربية المنضوية في إطار الشخصية العربية والإسلامية الجامعتين، واللتان لاتعنيان نفس النسخة الاصلية البدائية. لذلك نفهم لماذا ينظر المغاربة والجزائر والمغاربيون والعرب والمسلمون لطارق بن زياد كبطل فذ للاسلام والعروبة والامازيغية ،وكايقونة من ايقونات التاريخ التليد.ففي النهاية لاتعني هذه الانتماءات الثلاث سوى هوية واحدة بفعل الانصهار الذي حدث بينها. خطأ البعض من المحللين كونهم يحللون الاحداث انطلاقا من خلفية نقص .. من شعور فظيع بالدونية والتبعية يتملكهم تجاه للغالب الذي ليس الا الغرب، فلايستطيعون ان يرسموا للأمة أفقا تترسم خطاه، ويصدقون بغباء حضاري المستشرقين، ويروون سرديتهم، وينسون ان الغرب الذي يتبجح بالديموقراطية وحقوق الانسان هو من تسبب في مقتل 20 مليون نسمة خلال الحرب العالمية الثانية، و50مليونا في الثانية ،وهاهو بصدد توريط البشرية في حرب عالمية ثالثة.فأي جرائم تنسب للفتح الاسلامي؟ والذي كان يفتح بلادا شاسعة ببضعة آلاف من المجاهدين . الم يفتح ابن العاص مصر ب3000 و طارق اللاندلس ب7000 امازيغي مسلم فقط؟ . لايتمكن هؤلاء المحللون من ان يسافروا عبر الزمن، ومن أن يتقمصوا سياقات العصر الذي تجري فيه احداث المسلسلات التاريخية وضمنها مسلسل طارق بن زياد ،و تلك مشكلتهم ان تكون رؤيتهم في هذه الحالة مثلومة وناقصة، ولايعتد بها. ثم هل يتعين ان ينقل المسلسل صورة طبق الأصل للأحداث،ام له ان يتصرف فيها للضرورة الفنية .اعتقد ان استحضار الحقيقة كما جرت تستدعي ان نعود جميعا القهقري الى الفتح وننضم جنودا في جيش طارق لنحكي الاحداث بامانة. وهذا مستحيل .العمل الفني له هامش حرية و ابداع ،وله ان يختلق حتى شخصيات وهمية على يمين ويسار البطل، لم يكن لها وجود تاريخي حقيقي، حتى يقوم بالتنقل بها بين الاحداث التاريخية التي تقول كتب التاريخ انها وقعت بالفعل حتى يتسنى له ان يسكب هذه الاحداث في قالب درامي. اما قضية الحقيقة فهي نسبية،ونحن نعرف اليوم ان الحقيقة حقائق، ولذلك لنا ان نختار الحقيقة التي تخدم مستقبلنا، لاضير في ذلك، ولو سقطنا جراء ذلك في الأسطرة او حتى في الخرافة المفيدة التي تساعد النشئ الصاعد على الاعتدادبأمته وتاريخها . نحن بهذا لانزور التاريخ وانما نقدمه في طبق شهي مفهوم محفز للنهوض، فالشعوب تحيي من جديد وتستنهض هممها بالاساطير وبناء القدوات. يصور البعض ان الصراع قد كان في الأندلس صراع إلغاء وهذاخطأ فحتى ملوك الطوائف كانت صراعاتهم سياسية وليست مذهبية او عرقية جاءت نتيجة الرغبة الشديدة في الحكم الم يستنجد الامراء العرب بالاندلس بملوكنا الامازيغ يوسف بن تاشفين ،ويعقوب المنصور وابنه ،وابي الحسن المريني ؟؟. الم يقل المعتمد انه يفضل رعي إبل ابن تاشفين على رعي خنازير الفونس؟؟. طارق كانت له حياته الخاصة، كان رجلا طموحا ياكل ويشرب ويغضب ويناظر سياسيا، ويحب حليلته ام حكيم ، ولكن بعد رحيله، ينبعث طارق التاريخي العابر للقرون، طارق الأيقونة... الذي ستحبه الجماهير المسلمة ...طارق الذي صنعناه بوجداننا واستيهاماتنا ورغباتنا، طارق الذي يصل في عصرنا هذا لكي يخدم الهدف الاستراتيجي الذي نسعى اليه اليوم وهو عودة الأمة العربية الى ركح الاحداث العالمية. .ولذلك فالمسلسل ليس كتاب تاريخ بل هو دراما تحاول ان توقظنا من سهادنا وان تحفزنا على استعادة مجدنا البائد . لان الدراما التاريخية كما افهمها وكما تفعلها كل الامم، إنما تخاطب روح الشعوب، وتمجد أعلامها، ولاتقتلها قتلا،لانها فن يتم في الاستديوهات وليست علما باردا يجري في الجامعات. الدراما للشعوب، والبحث العلمي للمختصين، والشعوب تحتاج للمنشطات التاريخية. ولذلك فالفن عندما يكون له غاية استؤاتيجية فهو يخدم هدفا نبيلا و لايزيف التاريخ، وانما يتحول إلى محفز لكتابة تاريخ جديد . نحن كمغاربة أحق بطارق من الآخرين، وكان علينا ان لانترك غيرنا يسبقنا اليه ، كان علينا ان نستبق ذلك بأن نهتم بتطوير كتابة السيناريو، و هو ما يتطلب ان نعيد قبل ذلك الاشعاع للتخصصات الأدبية ونوظفها في مثل هذا المضمار. اننا بحاجة إلى قوة ناعمة تجعل افئدة من الشعوب تميل الينا. والسينما والمسلسلات إحدى الوسائل الناجعة لذلك .
كلنا يعرف ان طارق وابن نصير كانت نهايتهما مأساوية في طرقات دمشق، ولكن ذلك لاينقص منهما شيئا ،وانما هو نقص فظيع في تقدير مكرمات بعض الابطال نتيجة الدسائس السياسية التي لايكاد يخلو منها عصر من العصور او ينجو منها شعب من الشعوب. هذه النهاية يمكن للمخرج ان يستغلها لزرع بذور الشك في عظمة العصر الزاهر للأمة، ويمكن ان يصورها كنهاية تليق بالابطال الذين غالبا مالايقدرهم مجايلوهم، وقع ذلك للمسيح الذي رفعه الله اليه، وغاليليو الذي قتل، والحلاج الذي صلب، وعلي بن ابي طالب الذي شج رأسه بالسيف،....واللائحة لا تنتهي ،ولكن مثل هذه النهايات لاتؤثر كثيرا في السردية بل تأسطرها ولذلك يظل هؤلاء الاشخاص الاستثنائيون اعلاما ملهمين يتحدون النسيان بعد ان زودتهم المأساة ببعد درامي اضافي يرشحهم لأن يظلوا على الدوام منارات متوهجة تنير الطريق للمريدين وللخلف.