بعد تصريحات فرانك فالتار شتاينماير قبل شهور أنه مستعد لتقلد منصب رئيس الدولة الألمانية لولاية ثانية، فها هو ائتلاف الاتحاد الديمقراطي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي الألماني يلتحق بموكب الائتلاف الحكومي المؤلف من الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني، الحزب الديمقراطي الحر وحزب الخضر، هذا الأخير كان يميل إلى ترشيح سيدة بدل رجل، لأن حسب "الحمض النووي" لحزب الخضر من الواجب الالتزام بالتمييز الإيجابي لاستنبات المساواة في الفرص، بغض النظر عن العرق، الدين، الجنس،العمر، العاهة أو الميولات الجنسية، كما يشجع الألمان المجنسين بالانخراط الفعال في الحزب. وهذا ما أسفر عن تعيين "تشيم أوزدومير" من أصول تركية مسلمة وزيرا للفلاحة والتغذية، كما من المحتمل أن يفوز "عُميد أومنيبور" بأمانة حزب الخضر في الانتخابات الحزبية المقبلة، وتجنبا لبعض التصادمات والمشاحنات داخل الائتلاف الحكومي فضل حزب الخضر الهدنة والمرونة وامتثل لرغبة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والحزب الديمقراطي الحر بغية تزكية ترشيح فرانك فالتار شتاينماير لولاية ثانية. من عجائب الديمقراطية الألمانية أن رئاسة الدولة ليست مقرونة بأي سلطة معنوية، لأن هذا منصب فخري لا غير، والرئيس الفعلي للدولة الألمانية هو "أولاف شولتس"، ومنصب الرئيس ليس مقتصر على هذا الحزب أو الآخر، ولكن متاح لكل مواطن ألماني كان مؤهلا للتصويت في انتخابات "البوندسطاك"، البرلمان الألماني، أين تحسم القرارات المصيرية الكبرى، أما الغرفة الثانية فهي تأشر فقط على هذا المشروع أو الآخر، لأي كان الحق أن يتقدم بترشيح نفسه، الشرط الثاني هو أنه يبلغ الأربعين، كما تم تسقيف المدة لفترتين متتاليتين، كل منهما خمس سنوات.
ولكن من الناحية الاعتبارية يجسد الرئيس الألماني "رمز وحدة الدولة"، ولا يحق له أن يكون مرتبطا بأي حزب، بأي ولاية ألمانية، كما لا يحق له أن يمارس أي نشاط تجاري، لأن عدم التحيز سيبعده عن التكتلات، الصراعات الحزبية والمناورات الهوياتية، فدوره الأساسي هو لم الشمل، توحيد الصف، حث الأحزاب على العمل الجاد والشعب على التضامن المتواصل، لذا جل رؤساء ألمانيا علقوا نشاطاتهم الحزبية حالما تقلدوا هذا المنصب الرفيع في هرم الدولة.
لو لم يكن لشتاينماير الحس، حسن الفهم وسرعة، روح البديهية للأمور المهمة والهادفة كاستعادة الروح في الديمقراطية الألمانية لما قوبل ترشيحه بهذا الاجماع الكبير، وكم من مرة انتقد الرئيس الأمريكي والشعبوية اليمينية بدون أن يذكر أسمه، كما آزر العائلات المسلمة واستقبلها في قصر الرئاسة لما نفذ العنصري "طوبياس راتيين" في 19 فيبراير 2020 في مدينة "هاناو"، المتشبع بأفكار الحقد، الكراهية والتطرف اليميني هجمات إرهابية فارق الحياة جرائها 9 أشخاص من أصول مسلمة مختلفة، خاصيات شتاينماير هي العمل الجاد، المتواصل والدؤوب، بدون هالة ولا غرور، كما اتصل هاتفيا وشخصيا بطفل لا يلغ عمره 12 سنة لكي يحقق له أمنيته، كان فحواها توجيه رسالة ود لأستاذه الخلوق والطيب كهدية لعيد ميلاده، فامتثل رئيس دولة ألمانيا لهذا الطلب بأريحية وامتنان، كما فتح العاهل المغربي المجال الجوي في وجه الجالية المغربية في عطلة الصيف الأخيرة لما ذوبت دموع طفل من أصول مغربية في المهجر قسوة العزلة والإغلاق، وفي الأوقات العصيبة والحرجة التي يعيشها العالم اليوم يعتبر التضامن والتعاون أغلى من الكنوز والأموال.
وبعجالة سنسلط الضوء على مسار الدكتور فرانك فالتار شتاينماير بعض الشيء، فهو "منتوج" خالص للحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني الضارب في القدم، أقدم حزب ألماني، مرت أكثر من 150 سنة منذ تأسيسه، ولد شتاينماير في 1956 من أب امتهن النجارة وأم اشتغلت كعاملة مصنع، نال درجة الدكتورة في 1991 في القانون التي رافقها بعض الشبهات كما جاء في ملف دقيق للمجلة الأسبوعية المرموقة وذائعة الصيت "فوكوس"، تفوق المبيعات أكثر من 3 ملايين نسخة في الأسبوع، كما ذكرت أن أكثر من 500 مقطع بمثل بالفعل "مشكلا"، وليس شتاينماير هو الوحيد الذي اتهم بهذه الافعال، ولكن حتى وزيرة التعليم السابقة "أنيتو شفان" و وزير الدفاع الأسبق "كارل تييودور فون كوتن بيرك" الذي اضطر أن يقدم استقالته، كما هو الحال لوزيرة العائلة في الحكومة السابقة "فرانسيسكا كيفاي" التي اضطرت أن تستقل وتتخلى عن درجة الدكتورة، فهذا لم يمنعها أن تفوز بعمدة برلين نظرا لدعمها من قبل الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني.
بدئت مسيرته المهنية السياسية سنة 1993، لما عينه رئيس ولاية "نيدار زاكسن" "كيرهارت شرودر" رئيس ديوانه، 1998 تقلد منصب كاتب الدولة في ديوان الرئاسة المستشارية الاتحادية، كما خلف من بعد "بودو هومباخ" في منصب وزير في ديوان الرئاسة المستشارية الاتحادية، ولما خسر الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني رهان الانتخابات لسنة 2009 وحصل على %23 فقط من الأصوات، يعني تقهقر واضح وتلف أكثر من %11 من أصوات المتعاطفين والناخبين، ما دفع شتاينماير إلى ذوق مرارة العذاب والغزلة، 2013 عين من طرف "آنكيلا ميركيل" بطريقة مفاجئة وغير منتظرة كوزير خارجية ألمانيا، منصب جر على نفسه سيل من انتقادات لاذعة وسخط حقوقيين ألمان وأحزاب المعارضة لما رفض دخول التراب الوطني للألماني "مورات كورناتس" الذي اعتقل من يناير 2002 حتى غشت 2006 في سجن "كوانتانامو"، رغم قناعة لا الأجهزة الإستخباراتية الألمانية ولا الأمريكية أن "كورناتس" كان بريئا.
2016 اقترحه صديقه في الحزب "زيكمار كابرييل" كمرشح بغية شغل منصب رئيس الدولة الألمانية، وفي 2017 انتخب بالفعل كرئيس، وفي 2021 أعلن من جديد عن رغبته لولاية ثانية، جميع الأحزاب الديمقراطية الممثلة في البرلمان الألماني نوهت بهذه المبادرة وتجاوبت إيجابيا في وقت وجيز مع هذا المبتغى، نظرا للسمعة الطيبة واللباقة التي يتحلى بها، والطريقة الإنسانية التي يتعامل بها حتى مع المقربين منه، فعلى سبيل المثال، لما أصيبت زوجته بمرض خطير تبرع فورا بكلية سنة 2010 لإنقاذها من موت محقق، ولعل بنته التي درست الحضارة، الثقافة واللغة العربية في جامعة "لايبتسيك" لساعدته على فتح عيونه للحقيقة ومراعاة الإختلافات الحضارية، بغض النظر عن جميع الاعتبارات، الشراكة، المصالح والصداقة التي تجمع البلدين، وأحسن مؤشر هي دعوة صاحب الجلالة الملك محمد السادس لزيارة برلين من طرف الدكتور "فرانك فالتار شتاينماير"، لأن الصلح خير وهو الخيار الأفضل والرغبة الجامحة لكل لبيب.