الإنسان كائن ثقافي بامتياز، حيث إنه يتميز عن بقية الكائنات الأخرى بالثقافة. فالإنسان حتى و هو يلبي حاجاته الأساسية يضعها في إطار ثقافي معين. فمثلا إذا كانت الحيوانات تلبي حاجاتها من الأكل و الجنس و غيرها بطريقة طبيعية و دون تفكير، فإن الإنسان بحكم تميزه بالعقل و القدرة على الإبداع، فهو يحاول أن يأكل و يمارس الجنس في إطار ثقافي معين. و تختلف الإطارات الثقافية المنظمة للحاجات الإنسانية من مجتمع لآخر. فكلما تطور الإنسان معرفيا إلا و ارتقى بثقافته و إبداعه و حاول أن ينظم حياته بطريقة تميزه عن بقية الكائنات. فالبحث عن التميز عن الحيوانات غير العاقلة صفة لازمة للإنسان، إذ إنه منذ أن خلقه الله و هو يبحث و يطور معرفته بنفسه و بالعالم المحيط به. و لاشك بأن الإنسان بحكم قدرته على التفكر و استخدام الوعي قد لاحظ منذ وجوده أن هناك كائنات تتقاسم معه الوسط الطبيعي، بل تنافسه أحيانا في الحصول على الموارد، أو تشكل تهديدا لوجوده. مما جعلها تعتبر ندا حقيقيا. هذا الوعي بالحيوان الآخر غير العاقل جعل الإنسان يجتهد ليتميز و يبدع و يسيطر على الطبيعة و كل ما فيها. لكن في سعيه للسيطرة و التميز الثقافي قد ينزع الإنسان نحو التطرف الثقافي. و التطرف الثقافي أعرفه بكونه ذلك السلوك الإنساني الموغل في استخدام العقل، و الذي يُغَيِّب حقيقة الإنسان الحيوانية و الطبيعية، مما يؤدي بالإنسان إلى الإضرار بنفسه أولا ككائن له حاجات طبيعية، و كذا الإضرار بالبيئة الطبيعية التي يعتبر الحفاظ عليها شرطا أساسيا لاستمرار الإنسان و بقية الكائنات الحية فوق الأرض. فالإنسان الذي يرفض مبدئيا الزواج و إنجاب الأبناء متطرف ثقافيا، و الإنسان الذي يغير من الخصائص الطبيعية للخضر و الفواكه و يضيف إليها مواد كيماوية متطرف ثقافيا، و الإنسان الذي يصنع الأسلحة المدمرة متطرف ثقافيا...الخ
و أمام هذا التطرف الثقافي الذي نزع من الإنسان إنسانيته بدأت تتعالى أصوات كثيرة تدعو إلى العودة إلى الحياة البدائية و التخلي عن البناءات الاجتماعية و التصورات الثقافية. هذه الأصوات التي تدعي الانسجام مع الطبيعة سقطت هي الأخرى في تطرف من نوع آخر، و هو التطرف الحيواني. فالتطرف الحيواني هو ذلك السلوك الإنساني الذي يُغَيِّبُ العقل و يميل إلى الإغراق في الحيوانية، مما يؤدي بالإنسان إلى التحول إلى مجرد حيوان كبقية الحيوانات التي تعيش فوق الأرض. فمثلا، "العراة" Les nudistes الذين يدعون إلى العيش في الفضاء العام دون ملابس متطرفون حيوانيا، و دعاة العيش في الغابات و العودة إلى الحياة البدائية متطرفون حيوانيا...الخ