أصبحت الحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة ببلادنا متفاقمة، ومتكاثرة، ومنتشرة في قطاعات اقتصادية واجتماعية متعددة، الأمر الذي يؤشر على ارتباكات في تدبير القطاعات الاقتصادية، وتسيير المؤسسات العمومية وغيرها، كما يدل على هوة صارخة بين طبقات مجتمعية تطالب بحقوق اقتصادية واجتماعية محددة، وبين مؤسسات عمومية، وشركات، ومقاولات، تتغاضى عن القيام بواجباتها ضمن إطار الحوار الاجتماعي، ليكون النضال بديلا موضوعيا، وسلوكيا، تعبر به هذه الطبقات المجتمعية عن مطالبها المختلفة . إن الأصل في النضال التضحية لاستعادة كرامة مفقودة، وحقوق مهضومة، وحرية مسلوبة، لا الخبز يعلو على حرية الفرد في مجمل اختياراته، ولا الحلوى تسمو على كرامته وشرفه، وهو أصل نفتقد جزءا كبيرا منه في ساحة النضال المحلية، حيث المصالح تتعالى على منطق المتطلبات وتتجاوز مجمل القيم التي من المفترض أن تشكل القاعدة الأساسية للنضال، والانتهازية تشكل في مجمل السياقات محركا لمجموعة ممن يدعون النضال، فلا المفهوم حافظ على دلالته المقدسة، ولا المناضل اتصف بها في مواقف تقتضي الشرف والشجاعة والتحرر والانتصار للقضايا الإنسانية والمجتمعية .
تتحدد دلالة المفهوم (النضال) وتتفاوت تراتبيا حسب مجمل المعاجم العربية في مسابقة رمي السهام أولا، والمبارزة في الشعر وغيره من الفنون ثانيا، والدفاع عن شيء ما ثالثا، حيث يشكل المعنى الثالث التحقق الواقعي المفترض للمفهوم، والأقرب إلى المعنى الاصطلاحي، وهو الدفاع عن قضية مجتمعية مشتركة تتصل بوجدان العامة، وترتبط بمنطقهم الحقوقي، وتشكل بالنسبة لهم حاجة طبعية تستدعيها ظروفهم المتغيرة، وهي حاجة متجددة، متطورة، لا شعب على وجه الأرض مستثنى منها ، حيث تتفرع عنها حاجات جزئية تشكل المطالب الحقوقية التي يفترض في المناضل الدفاع عنها، والتضحية لأجل تحقيقها، والمكافحة لتحويلها من مطالب مكتوبة، منطوقة، متضمنة في الشعارات واللافتات، إلى تحقق واقعي، وسلوك مجتمعي، وعادة ثقافية تسهم في تسهيل عيش الشعوب .
أصبح مفهوم النضال مركبا، معقدا، تكتنفه العديد من الحيثيات الأخلاقية والقانونية، وهو أمر مستحدث، متجدد، أسهمت في انبثاقه العديد من العوامل الثقافية والقانونية والسياسية، حيث أصبحت المطالب الأخلاقية في مقامات متعددة تخضع للمساومة المادية، وتتجزأ إلى قضايا هامشية قلما تدخلها المؤسسات في مطالبها الرسمية، حيث انتزع النضال من سياقه الأصلي، وجرد من معناه المركزي، وأصبح يخضع لمقاسات الاستفادة والمصلحة والمزاجية والمساومة، وهي مقاسات أسهمت في تولدها الأنانية، الطمع، الانتهازية، فضلا عن ماسسة فاشلة للفعل النضالي .
إن التأمل في الأشكال الاحتجاجية التي تعرفها البلاد كفيل بأن يبين لنا حجم الهوة بين المطالب الاجتماعية وبين تحققها على مستوى الواقع، أو بالأحرى تفاعل المؤسسات الرسمية مع ما تتضمنه من حقوق،
فمجمل القطاعات تعرف نزوعا نحو الاحتجاج، حيث تتخذ هذه الاحتجاجا اشكالا متعددة تحددها الظروف، وهو أمر يقودنا إلى استنتاج أولي مفاده :
أصبح النضال في جزء كبير منه خبزيا، مجزأ، يخضع لإكراهات تتفاوت بين الفرد والجماعة، بين المواطن والمؤسسة، مقلصا في مطالب محدودة، مقتضبة، تعبر عنها عينة اجتماعية محددة، لا تخرج عن إطار الجماعة، ولا تلامس الحقوق المشتركة، ترتبط في أغلب الأحيان بمنافع هامشية، ثانوية، لا تشكل أساسا للنضال الحقيقي، حيث يشوب الفعل النضالي ضمن هذا السياق الكثير من الغموض، وتعوقه التباسات تتجلى في الأيديولوجيات التي تحكم نمط النضال .
إن هذا الاستنتاج المبدئي لا يمنعنا من استحضار إكراهات أخرى تختلف عما ذكرناه آنفا، وهي إكراهات تجمل في ثقافة النضال التي تكاد تكون منعدمة عند طبقات متعددة نراها مرابطة وسط ساحات الاحتجاج، تردد الشعارات وتهتف بالأناشيد، ليكون الانفعال هو المحرك الأساسي لتمردهم، وتكون المصلحة حافزا مضمرا يجعلهم يتصنعون مبادئ لا وجود لها في خلفيتهم الفكرية والمعرفية، فالنضال المهيمن على الساحة لا يعدو أن يكون ردود أفعال تنبثق عن الغضب، الانفعال، التوتر، الانتقام، لتكون النتيجة تباكيا وتدمرا علنيا لا دلالة له، وارتكاسات ممسرحة لا معنى لها، حيث تعتبر هذه الدوافع بعيدة عن التفكير، والتخطيط، والعقلنة، لتعج ساحات النضال بمن يدافع عن الجسد العاري للمرأة، ومن يطالب بحرية الجنس، وهي حريات فردية لا نقاش فيها، شريطة أن تقترن بحقوق أكثر أهمية .
تقتضي ثقافة النضال وعيا مسبقا يعتبر باعثا على التحضر في الحركات الاحتجاجية، ودافعا للإبداع في أشكالها، وحافزا لتجديد تحققاتها، وهو أمر لا يتأتى لأي كان، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا من خلال تدريب الذات المناضلة على القراءة، النقد، التشكيك في اليقينيات، خلخلة الحقائق الجمعية، تبني قيم حقيقية بعيدة عن الجشع المادي، فالنضال قبل أن يكون تحققا سلوكيا راقيا كان فكرة محورية زرعت في الذات المناضلة حافزا قيميا للنضال، للمقاومة، للكفاح، للتمرد على الظلم، والاضطهاد، والاستغلال، غير أن هذه الثقافة تظل منعدمة في مجموعة من الأشكال الاحتجاجية، أو قليلة حتى لا نقع في فخ التعميم، وهو أمر لا يرتبط بالفاعلين المناضلين فقط، بل يتعلق بشريحة واسعة من المجتمع، حيث من المفترض أن تحمل على عاتقها تلقف الرسالات التي تتضمنها مجمل الأشكال النضالية، واستنباط القيم منها، وتحويلها إلى سلوك مقاوم ينم عن وعي نضالي مكتسب .
إن غياب الوعي النضالي يقابله تحقق موضوعي يتمثل في التخوين، حيث تعتبر شريحة واسعة من أفراد المجتمع المناضل متمردا على القيم، مخالفا للقوانين، جاحدا لنعمة الوطن، مهددا للاستقرار، مزعزعا للثوابت، وهو أمر نابع عن ثقافة محدودة، مقلصة في التمثلات العامة، والأحكام القاصرة، والأفكار النمطية التي توارثتها هذه الشريحة المجتمعية لسنوات، حيث يشكل الخطاب الديني المضلل مصدرا لها، والثقافة المجتمعية المحدودة محركا لها، حيث ينتج عن هذا الغياب اصطدام بين فئتين، فئة مناضلة، متمردة، تحمل على عاتقها الدفاع عن حقوق الشعب، وفئة أخرى تكذب، تخون، تسخر، وتنتقص من كل فرد تحفزه غيرته على التمرد، تؤطره بأحكام نابعة عن الخوف من الحركة والتغيير .
إن مناقشة مفهوم النضال وتفكيك تحققاته وارتباطاته بباقي التجليات الثقافية والمادية تقتضي استحضار مجمل المتدخلين في هذا الفعل، المناضلين، المؤسسات ....، حيث الكل يلعب دورا رئيسيا في بلورة الفعل النضالي أو تقويضه، لتكون النتيجة تجاذب، وتصادم، وصراع أبدي يحكمه منطق الحق .