قد يعتقد عدد من الناس أن المناصب السياسية هي بطبيعتها تمثيلية للمواطن السياسي الذي يتمتع بإرادة موجودة والذي تحول بفعل فاعل إلى كائن انتخابي يعتبر الانتخابات فقط أساسا للتعبير عن كيان موجود بإرادة مغيبة. وتترجم الإرادة المعبر عنها للمواطن السياسي في الغالب ببرامج انتخابية قابلة للتنزيل تعبر عن الغالبية وتتسم بالتنوع وحضور كافة الأصوات والآراء.
وفي المقابل يواصل هذا المواطن تتبع الشأن السياسي طيلة المرحلة إلى نهاية الحقبة المحددة لتكون الانتخابات المقبلة هي أساس فعلي للتقييم والاختيار من جديد للأصلح إما التجديد أو اختيار الجديد.
لكن معيار المحاسبة في هذه المحطة ليس لها أية قيمة أو مدلول كما قد يراه البعض أو يسوق له، وهذا الذي يميز المواطن السياسي عن الكائن الانتخابي الذي يكتفي فقط بالتعبير عن صوته، بينما يناضل المواطن السياسي ويعبر عن مختلف آرائه حول عدد من قضايا الشأن المحلي والسياسات العمومية في مجالات متعددة.
ومن جهة أخرى، فإن المناصب السياسية في بلدنا يعتريها اللبس والكثير من التحفظ خاصة في جانب التدبير والحق في الحصول على المعلومة، لننتظر نهاية المرحلة ليعريها خصومها المستقبليون بحقائق حول أبرز الإخفاقات أو الديون أو الاختلاسات والتجاوزات في المرحلة السابقة، وليظل المواطن الطرف الأضعف خاصة في ظل شأن محلي ملغوم ومحتكر وليس لصوت المواطن فيه أي تأثير فعلي خاصة الميزانية التي تتطلب تأشير الولاة حتى تمر برامج ومشاريع المنتخبين في التدبير.
ويتعدى الأمر ذلك إلى أن تصبح المناصب السياسية وسيلة من وسائل الاغتناء أو الحصول على دخل قار ولو بصفة مؤقتة من طرف منتسبين للأحزاب السياسية، وفي جانب آخر قد يتم استغلال نظافة اليد للبعض منها في الاستفادة من طلبات للعروض أو برامج للدعم أو مبادرات أو فرص فئوية وربما قد يكون هذا أخطر بكثير من الاختلاسات من تحت الطاولة.
كما أن للظواهر الصوتية نصيب من الاستقطاب السياسي فكذلك ظواهر الإقطاعيين الجدد أو قد نسميهم أيضا ب"الشناقة" الذين في كل محطة انتخابية يقومون بدورين أساسيين الأول يتمثل في تحريك سوق انتقالات ما يطلق عليه بالترحال السياسي أو ما قد نسميه ب"ميركاتو الترحال السياسي" الذي يستهدف بدرجة أولى الأعيان الذي لهم قدرة الحشد عن طريق شراء الأصوات الانتخابية أو في مناطق أخرى ذات بعد قبلي وعرقي وهذا ما يبدو أنه ستتسع رقعته بشكل أكبر مع المحطة الانتخابية المقبلة.
أما الدور الثاني لهؤلاء الإقطاعيين الجدد فيتمثل في تقسيم الخريطة الانتخابية وتحديد فرص النجاح خاصة في المناطق النائية والقرى والأحياء المهمشة والمناطق القائمة على أساس قبلي أو طائفي.
دعونا نتوقف قليلا عند المنصب السياسي الذي يرتكز على برنامج سياسي ومواقف سياسية وهوية سياسية، هذه المقومات الثلاثة أضحت تضمحل مع مرور الزمن الانتخابي وأصبحت السياسة بدون
قواعد بل بدون مقدمات وفي عدد من المواقف السياسية الكثيرة التي ليس مطلوبا من الأحزاب تحمل مسؤوليتها السياسية فيها نجد تسابقا نحو من يكون الطرف الأول السباق في تحملها، حيث أن ولم يعد الوازع الذي صوت عليه المواطن السياسي أول يوم على هذه الأحزاب في نهاية أي مرحلة أي أثر أو أي قيمة تذكر بل أصبحت الاصطفافات والولاءات هي معيار النجاح السياسي، ليصطدم المواطن في النهاية بفكرة مفادها أنه قد صوت على "فوكونط" "Faux compte" سياسي أي حساب سياسي مزيف وليس حزب سياسي وطني.
وفي النهاية لا بد أن يصرخ المواطن من دواخله في وجه الكائنات السياسية أن "أعيدوا لنا أحزابنا !" كي تعود الممارسة السياسية إلى الوجود من جديد بمصداقيتها المعتادة بعيدا عن الصيد في المياه العكرة، وهي صرخة في الحقيقة تستشعر وجود تيهان في التدبير السياسي اليومي المكبل بالسياقات الدولية والإقليمية في غياب روح السياسة ومواقفها المسؤولة والمعبرة عن هوية سياسية وطنية ناطقة باسم الضمير الجمعي المواطن.