من أهم الأسئلة التي يطرحها المواطن المغربي من أجل تقييم موضوعي للأحزاب المغربية هو؛ ما الذي قدمته هذه الأحزاب للمغرب وللمغاربة خلال أزيد من نصف قرن؟ وما الذي حصلته الأحزاب السياسية على المستوى الديمقراطي غير تعميق جذور الاستبداد وجعله ينبني على مشروعية دستورية عميقة؟ وما مدى تعبير الأحزاب بالمغرب عن تطلعات الشارع المغربي في ضرورة ترسيخ دعائم نظام ملكية برلمانية، وفي إقرار الصلاحيات الكاملة للبرلمان، وفي استقلالية الحكومة، وإصلاح للقضاء، والتعبير عن هموم الشعب المغربي... وغيره من القضايا الحيوية والأساسية؟ أحزاب باعت القضية ولم يبقى لها إلا بضع تاريخ تتاجر به، وأحزاب إدارة، وتعددية رقمية فارغة، فوضى مدمرة للفعل الإيجابي وللعقلانية و للبناء الجاد للديمقراطية والحداثة والفكر والوطن... وهي في الجملة "خردة سياسية" لا تسمن ولا تغني من جوع. فاقد الشيء لا يعطيه..! كيف نطلب الديمقراطية من فاقديها؛ لقد أصبح الحزب بالمغرب ورشة للمنتفعين والوصوليين وأصحاب الشكارة أي قناة أخرى من قنوات الفساد في البلاد. وإلى شردمة من النفعيين والقابضين على مفاتيح الأجهزة الحزبية، والتي يستثمرونها لأغراضهم الشخصية ولفائدة العائلة. هذا الوضع البئيس يدفعنا حتما إلى التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء هذه الحالة الكارثية التي تسيء للمشهد الحزبي المغربي برمته. والتي تدفع مكونات هذه الأمة إلى أخذ مسافة بينهم وبين تجار المآسي المسؤولين عن هذا الحال السياسي المهين. فرغم قيامهم بعمليات تجميلية صحفية لإخفاء معالم جرائمهم السياسية، إلا أن رائحة الفساد تفوح من جنبات وجذران الدكاكين السياسية التي أصبحت متعفنة وتدفع للغثيان. فعلى مستوى الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب، فإنك تجد من الشباب من يبدع وينتج أفكارا ومقترحات مشاريع وتصورات من أجل تحسين الأداء، لكن للأسف جلها يتم إعدامه في المهد. ليس من طرف الخصوم، وليس من طرف المخزن، العدو التاريخي، ولكن من الداخل، وهذا أمر محزن مخجل يستحق التنديد.هذه الازدواجية تجعلك تشعر بالإحباط، واليأس، ويمكن أن تسافر بك الى عوالم العزوف والعدمية. يقع ذلك أيضا عندما يتحول المسؤول الحزبي إقليميا أو جهويا أو وطنيا إلى مجرد قاتل لمبادرات شبابه. ويحدث هذا عندما يصبح المناضلون في "التوش"، وتتحول المؤتمرات وحوارات المجالس الوطنية والجموع العامة إلى مجرد آليات للتنفيس والى اكتشاف العناصر المشاغبة والتي تختار المشي خارج القطيع. ويحدث هذا حين يسود منطق "السخرة الحزبية" كأبشع تجليات الممارسة الحزبية الرديئة. بل تصل النذالة إلى حد محاربتهم في لقمة عيشهم ومحاولة تجويعهم لتطويعهم. فيتحول الحزب بذلك إلى لوبيات أو إلى نظام "مافيوزي" محكم يديره رب المؤسسة بمساعدة أعوان ومقربين وأفراد من العائلة. والحصيلة أنه عندما ينحرف النقاش عن قضايا المجتمع إلى صراع حزبوي ضيق، هذا معناه ان الصراع انتقل من نقاش حول تصورات ومشاريع ومواقف، إلى نقاش حول تزكيات انتخابية ومناصب حزبية ومصالح شخصية. ناهيك عن أن المشهد الحزبي في المغرب والإطار الذي تشتغل فيه هذه الأحزاب وأولئك الحزبيون هو إطار بشع ممزق وهش؛ لأن التعددية في المغرب تعددية رقمية بلقانية. وعلى مستوى البرامج فهي مستنسخة في زمن "الفوطوكوبي السياسي"، إذ لا تتجاوز أن تكون مجرد مسودات مستنسخة عامة ومرسلة لا تواكب زمنها ومتطلبات عصرها ورهانات جماهيرها. فكيف هي انتظاراتنا من هذه ال"ديموقراطية الحزبية"! والطرق إلى الديمقراطية وخدمة الوطن تمر عبر الرشوة والزبونية والمحسوبية ومحاباة الداخلية والحمد باسم الخطب الملكية والبسملة باسم قال الملك... أما الشعب فهو دائما يقتاد كالأغنام لصناديق الاقتراع لإكمال تمثيلية ومسرحية الانتخابات. بالشكل الذي تكون معه الانتخابات مجرد "ديكور" يلعب فيه الشعب دور "الكومبارس". أقول كل هذا وأنا أتأمل المشهد الحزبي المغربي، وأستحضر في نفس الوقت كيف تحولت بعض الأحزاب إلى أحزاب عائلية، تورث المناصب والمهام، وكيف تمنح التزكيات في الانتخابات؛ وكيف أصبح الكائن الانتخابي المربح – بغض النظر عن آرائه وأخلاقه وأقدميته- مفضلا على المناضل الحزبي القاعدي. مهام الحزب الجهنمية؟ لقد تحول الحزب ومنذ زمن طويل من صوت ومعبر عن حاجيات الناس والجماهير، الى مهدئ وكابح للتطور الطبيعي للشعب والمجتمع. لقد أصبح شبيها ل "كاتم الصوت" الذي يجعل الجريمة تقع دون أي ضجيج يمكن أن يفضحها. فأصبح من بوق يفضح السلطة ويعري النظام ويصرخ في وجهه، إلى خانق للحريات منوم لإرادة الشعب والجماهير العريضة. يظهر ذلك جليا من خلال الدور الذي أصبحت تلعبه الأحزاب في كل استحقاق؛ فتجدها تتنافس في تقديم الخدمات، التي تؤكد تحولها التام عن هموم الوطن إلى مصالح مسيريها الضيقة والتي ترتبط مصالحهم بالحاكمين. "خدمات" يقصد أصحابها إلى تلقي "مقابل" رسمي من الجهة التي تخدم تلك المواقف مصلحتها. إن نضال هذه الأحزاب ومنذ زمن لم يكن لمغرب الغد وللوطن بقدر ما كان نضالا لأجل مصالح حزبية ضيقة ومن أجل كراسي يسيل عليها اللعاب من أجل المشاركة في لعبة الحكم وبالتالي نيل قسط من الكعكة. إن الطبيعة الفكرية والإيديولوجية المحافظة والمدجنة سياسيا والمهادنة نضاليا لهذه الأحزاب جعلتها تعبر عن ارتياحها لكل المستجدات المطروحة على هذا الوطن مزكية طروحات الدولة بشكل آلي. أحزاب أصبحت تبارك دون أدنى تحفظ أو نقاش وهو الأمر الذي أصبحت تعبر عنه كل الأحزاب تقريبا وليس الأحزاب الإدارية فقط كما كان في السابق. ويفضح "خطاب 9 مارس" هذه الأحزاب، والتي أظهر الواقع بشكل لا غبار عليه أنها أحزاب براغماتية لا تهمها الديمقراطية بأي شكل من الأشكال بل على العكس الديمقراطية تهديد لمصالحها. ومساهمتها حتى في النقاش السياسي لم ترقى إلى المستوى المطلوب داخل هيئاتها الحزبية. كيف ذلك وشيوخ هذه الأحزاب ومن خلال رشوة جيدة من النظام تحولت من طرف مناقش وساهر على مصالح الشعب إلى مزكي وداعم وإلى بوق للدولة تصرف من خلالها الدستور الجديد. إذن فليس المواطن الفقير الأمي الجاهل هو من يبيع الوطن من خلال رشاوى بل الأحزاب نفسها تفعل ذلك. فتصبح المعادلة النظام يرشي الأحزاب، والأحزاب ترشي الشعب وتضمن صمته وعدميته وابتعاده عن الحق والممارسة السياسية. فما أجمل هذا المغرب الذي يدعي عقلائه أنه في مصاف الدول الديمقراطية..! نعم..! لقد "قالت الأحزاب آمنا" بالدستور قبل أن يرى النور، إن هذه القيادات لم تستوعب اللحظة التاريخية التي اختصرت الكثير من الطريق نحو تحقيق المطالب الإستراتيجية. لم تستوعب درس الربيع العربي، مثلها في ذلك مثل كثير من المسؤولين لازالو ينعمون بثقة زائدة في كونهم يسيطرون على زمام الأمور بينما هو في الحقيقة "زمن ضائع" يحسب عليهم كلما زاد في الهدر والضياع. وقت إضافي كان بالإمكان أن يستهلك في البحث عن الخلاص ومن الآن قبل الوقوع في "نقطة اللارجعة"... لقد تحول المغرب ب"انضمام الأحزاب إلى النظام" وترك الشعب أعزل وحيدا. إلى استبداد مقنع تشكل الأحزاب السياسة مجموعات تحميه وتدافع عنه. ثم كيف لنا أن نناقش دور الأحزاب على ضوء الحراك الاجتماعي الأخير لسنة 2011، والاستحقاق الدستوري، في ظل الوضعية البئيسة لهاته الأحزاب؟ وكيف لها في ضل ضعفها وبلقنتها وتشرذمها وعيشها في مستنقع المصالح الخاصة ولاديمقراطيتها الداخلية وعملها الواضح تحت إمرة الأجندات النظامية المخزنية أن تكون إلى جانب الرهانات الديمقراطية الكبرى للبلاد والأمة؟ بالطبع لا..! فأول خاسر من تنفيذ ذلك هي الأحزاب في شكلها ووضعها الحالي. فكيف تقبل هذه الأخيرة بحل البرلمان وهي التي تشكله؟ وكيف تقبل بتجديد النخب والذي معناه إزاحة الوجوه الحالية والمعروفة بعشقها للكراسي وللسلطة وبروز وجوه ونخب جديدة؟ وكيف تقبل بالمحاسبة والذي معناه القطع مع الانتهازية والفساد والترحال السياسي والرشاوى ونهب المال العام والتلاعب بالقوانين والشطط في استعمال السلطة... لقد أصبحت مجرد أحزاب تسبح بحمد الكلمات والجمل والخطابات الملكية؛ ألم نصوت على برامج حزبية، انتهى الأمر بزعمائها، بعد أن فازوا، إلى القول بأنهم يطبقون برنامج صاحب الجلالة. أمر عجيب؛ تأخذ أصواتنا لتنفد خطابات الملك.. ما أعجبها من مفارقة؟ مع الأسف لقد أصبح الفساد يحارب الفساد؛ فالحزب المغربي كمنتج لثقافة العزوف واليأس والعدمية واللاديمقراطية الداخلية... ويكون أول المشتكين من غياب الديمقراطية..! ك"إطار جامعي" مثلا ولج الوظيفة العمومية عن طريق الولاء والانتماء الحزبي والمحسوبية والزبونية وتجده يحارب المحسوبية والزبونية داخل الندوات وعلى صفحات الفايسبوك...؟! موت وحياة...موت لمنطق وولادة منطق... عهد جديد معناه احزاب جديدة ووجوه جديدة. ومفهوم جديد للسلطة معناه القطع مع الماضي من "تعددية رقمية" و"جهوية بلقانية" وكلاهما على المقاس المخزني البصروي كما يعلم الجميع بهدف السياسة الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد" التي ورثها عهد الاستقلال ورجالاته. الذين لايهمهم من الوطن سوى السيطرة والمصالح الشخصية. إذن الخطوة الملحة الأولى والأساسية والتي ستظل انتظار وأمرا مؤجلا وهي المطالبة بوقف الانتشار المرضي للأحزاب كالفطر وكالطفيليات التي تشوش وتزعج العمل السياسي الحقيقي والجاد... إذ ليس هناك ديمقراطية ولا عمل سياسي حقيقي في المغرب قبل خفض عدد الأحزاب إلى تحت خط العشرة في أفق الاحتفاظ بالأجود منها في حدود الخمسة مثلا. وليكن بعد الحصول على هذا العدد الحقيقي ببرامجه ومجهوداته وأعماله الواضحة للعيان، إمكانية بروز أحزاب أخرى والتي عليها النضال وتقديم رؤيتها المعاصرة والأصيلة ولتفرض نفسها بعد مخاض وقتال وإقناع هامش عريض من مسطح المجتمع المغربي وبعد الاعتراف لها من طرف الصحافة والمجتمع المدني و كل الأطياف السياسية بنضج وأحقية مشاركتها في الخريطة السياسية المغربية...آنذاك وآنذاك فقط مرحبا بها داخل المشهد السياسي. وليس الأمر كما هو عليه اليوم صراع بين صديقين في حزب واحد يجعل الثاني يحمل حقائبه لصنع حزب جديد في أقل من الوقت الذي يستغرقه إنجاز بطاقة وطنية..! هل هذه هي التعددية؟ هل في كثرة الأحزاب و تضخم المشهد السياسي المغربي؟ من الناحية السوسيولوجية تحتاج أزمة الثقة في الأحزاب إلى تدقيق وإلى دراسة علمية. فعدم ثقة المواطن في أدائها وضعف مصداقيتها لديه باعتبارها أصبحت مجرد أداة للوصولية والتملق والتزلف والحصول على مقاعد ومناصب عليا، وليست وسيلة للدفاع عن قضاياه وهمومه وشجونه وإيصال مطالبه وتتبعها وبالتالي المساهمة في التخفيف من مشاكله ومساعدته. هذه الثقة المفقودة ستحتاج إلى الكثير الكثير من الوقت مستقبلا لاسترجاعها فيما بين هذه الأحزاب ومسؤوليها وبين المواطنين. وإن بقاء هذا المشهد الحزبي بالمغرب على هذا الحال إلى مابعد الحراك الإجتماعي والدستور الجديد؛ ما هو إلا بمثابة تمديد آجال غذاء منتهي الصلاحية وتركه معروضا للبيع، والذي نتيجته الحتمية هي السقوط في تسمم خطير لا تحمد عقباه ويصعب علاجه.... لابد من نهاية للحزب بالطريقة التي هو عليها وولادة حزب وأحزاب حقيقية تجيب عن أسئلة عصرها وتتفاعل مع مطالب جماهيرها وحاجات مواطنيها وفي مستوى الوطن. مع بلورة رؤى حزبية؛ بمنهجية جديدة تقنع بأن الدستور الجديد بدأ فعله في السلوك الحزبي العتيق؛ الذي دفع بالشباب إلى أن يركبوا مركب اليأس، يسوسونه كما اتفق. لذلك سيظل انتظارنا مؤجلا إلى أن تعود الأحزاب للساحة الوطنية لتلعب دورا طلائعيا طال انتظاره. لكننا ونحن في خضم رغبتنا هذه، لا نريد لها الموت الإكلينيكي والنهائي بل نريد تقويتها وتجديدها في إطار الاحتفاظ بالأجود منها، وهو قتل وحياة في نفس الآن... سيكون فيه الكل منتصرا ورابحا. إن الإقرار بالتغيرات الحاصلة معناه الإقرار بضرورة حل البرلمان والحكومة وبالتالي نهاية زمن الأحزاب القديمة وطمس وجوهها الفاسدة التي لم تقدم للمغرب شيئا منذ نصف قرن غير تراكم المشاكل والديون والمآسي... ومن رحم رمادها وعصارتها نستخرج الأجود والأصلح والأقوى، واضحة الإيديولوجيا و البرنامج و البصمة. وأظن بل أعتقد جازما أن أزيد من نصف قرن كتمرين على العمل الحزبي وعلى الديمقراطية لابد وأن تسمح لنا بإفراز مشهد حزبي منسجم حقيقي وفاعل بدل استمرار البلقنة والتشتت واللافعالية في هدر لا مبرر للزمن المغربي، ونحن نقتحم ألفية ثالثة مليئة بالانتظارات والإكراهات... *باحث في الفكر الإصلاحي