حينما أعادت ألمانيا بناء هيكل برلمانها المهدم ببرلين أو ما يسمى بالمجلس التشريعي الاتحادي ( البوندستاغ الذي عوض الرايخستاغ بموجب دستور 1949 ) عقب توحيد الألمانيتين سنة 1990 ، اشترطت الولاياتالمتحدة الأمريكية عليها صناعة قبته الضخمة و البارزة من الزجاج حتى تستطيع الطائرات الأمريكية مراقبة ما يدور بين أعضائه من نقاشات ، هي إذا و إن كانت حكاية تلوكها الألسن على سبيل التندر و الطرافة فإنها تبقى مع ذلك كناية حول مدى تحكم أمريكا في دواليب القرار بألمانيا ومنها كل أوربا عبر حضورها القوي في تفاصيل حياتها السياسية و الاقتصادية منذ انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بعد هزيمة ألمانيا النازية وما أعقبه من انقسام أوروبا إلى معسكرين شرقي و غربي و تقديم دعم اقتصادي ومالي عبر مخطط مارشال بغرض إعادة البناء ، واكبه في نفس الآن بنا ء تحالف عسكري كبير سمي بالحلف الأطلسي لمواجهة التهديدات المباشرة للاتحاد السوفيتي آنذاك عبر حلف فارسو ، لتبقى أوربا وفية منذئذ للرؤية الأمريكية في تدبير علاقاتها الدولية ومجسدة لدور التابع الأبدي لسياستها و توجهها الدبلوماسي بعيدا عن أية استقلالية أو رؤية مستقبلية خاصة بها ، غير انه في خضم الأحداث العالمية المتلاحقة في السنين الأخيرة وقع نوع من التململ و الحلحلة في اتجاهات هذه السياسة ترجمت في ظهور خلافات حول مجموعة من القضايا الدولية المستجدة كانت كفيلة بخلق صدع يتسع يوما بعد يوم في اتجاه تباعد نسبي بين الحليفين التقليديين ، فماهي مسارات التقارب و التباعد إذن بين الجانبين ؟ و هل لتطور الأحداث و المقاربات التي يتخذها كل طرف على حدة تأثير على التوجه المستقبلي لكليهما ؟ عقب سقوط الثنائية القطبية بسقوط جدار برلين تركزت الأنظار على الإتحاد الأوروبي ليملأ الفراغ الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفياتي في منظومة العلاقات الدولية ،خصوصا مع انضمام أوروبا الشرقية إليه ضمن إطار السوق الأوربية المشتركة وما تمثله من عمق استراتيجي و ثقل اقتصادي وبشري و خزان طبيعي للموارد الزراعية و المعدنية التي تحتوي عليها، والذي ترجم عمليا في المزيد من الترسيخ للوحدة الأوروبية عبر تشريعات فاصلة جعلت حقيقة الإتحاد أمرا قائما ، كان على رأسها اتفاقية معاهدة ماستريخت الموقعة سنة 1992 التي جعلت هياكل هذا الإتحاد تظهر للوجود من مثل تأسيس مجلس الإتحاد الأوروبي و البرلمان الأوروبي بستراسبورغ و العمل بالعملة الموحدة (اليورو ) وسن فضاء شينغن لتنقل الأشخاص وتأسيس المفوضيات الأوروبية لمباشرة الشؤون التنفيذية لأوربا و لتدبير علاقاتها الخارجية عبر إبرام المعاهدات ، و هي هياكل جعلت أوروبا تتمتع بحصانة كبيرة في تنظيم علاقاتها الداخلية وجعل اقتصادها يرقى الى الصف الثاني عالميا بعد اقتصاد الولاياتالمتحدة الأمريكية ، غير أن المحصلة النهائية و في تقييم موضوعي وبالرغم من التقدم النسبي الذي أحرزته على الصعيد الدولي خصوصا في ظل
انكفاء الصين على نفسها و تفكك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات عدة ، فإن الواقع يقول أن دور أوروبا عالميا لم يساير قوتها الديموغرافية و الاقتصادية و السياسية في تثبيت مكانتها دوليا كطرف مستقل و قادر على فرض إرادتها و الوقوف في وجه مشاريع الهيمنة الأمريكية ، و الذي سيظهر جليا في مواقفها المتدبدبة من أزمات عالمية مس بعضها جزء من رقعتها الجغرافية كالأزمات القومية و الانفصالية التي شهدتها شبه جزيرة البلقان ( صربيا ،البوسنة والهرسك ،كرواتيا ، كوسوفو ..و أخرها ازمة البانيا ) حيث كانت للولايات المتحدة اليد الطولى في فرض رؤيتها للنزاع و هو الشيء الحاصل نفسه عبر التماهي التام لقراراتها مع الرؤية الأمريكية في تدبير النزاعات العالمية (العراق ، أفغانستان ، ايران ، كوريا الشمالية ..) .
لكن القراءة الموضوعية لمجريات الأحداث الحاصلة اليوم لا تقول بأن الخط المستقيم لهذه العلاقات سيبقى على حاله ، ففي ظل المتغيرات الجديدة التي تعرفها الساحة الدولية عقب بروز الصين كقوة اقتصادية عالمية ، و انبعاث روسيا من جديد كقوة عسكرية وازنة استطاعت ان تستعيد هيبتها ومجدها العسكري و الاقتصادي في ظل قيادة ذكية تستطيع اللعب على المتناقضات ،وظهور قوى صاعدة اقتصاديا استطاعت أن تجد لها مكانا في خارطة الدول المؤثرة في صناعة القرار الدولي من مثل البرازيل ، الهند ، تركيا ، جنوب افريقيا ...، ومع التوجه البراغماتي و الشوفيني للقيادة جديدة للولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب من خلال رفع شعار " امريكا أولا " ، إضافة للمخاض الذي تعرفه العلاقات الدولية عقب تفشي جائحة كورنا ، كل هذا أدى الى تخلخل في التبعية التاريخية لأوربا تجاه حليفها الأمريكي ترجمه تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل في الشهر الماضي الذي قالت فيه " أن أمريكا لم تعد قائدة العالم " ودعوة فرنسا إلى إيجاد مساحة وهامش من الاستقلالية تجاه الحليف الأمريكي و هو الأمر الذي كرسته مجموعة من العوامل التي تصب كلها في اتجاه تغير جوهري في نمط العلاقة بين الجانبين نرصد بعضا من جوانبها :
*تصاعد الخلاف حول مساهمة الدول الأعضاء في ميزانية الحلف الأطلسي ، حيث تضغط الولاياتالمتحدة التي تعتبر المساهم الأكبر في ميزانيته ب 3،4 % من ناتجها القومي في اتجاه زيادة إنفاق الدول الأوروبية الأعضاء إلى ما نسبته 2 % من ناتجها الداخلي بحلول سنة 1924 الأمر الذي ترفضه كبرى دول الإتحاد ، وهو ما انعكس أخيرا في قرار إدارة الرئيس الأمريكي بسحب 9500 من القوات الأمريكية المتمركزة في ألمانيا.
* أزمة كورونا وانكفاء الدول على نفسها في مواجهة هذه الجائحة ، خصوصا مع سياسة إغلاق الحدود التي انتهجتها الولاياتالمتحدة و عدم تقديم أي دعم للدول الأكثر تضررا لمواجهة هذه الجائحة ، مقابل مبادرة الصين و روسيا إلى توجيه المساعدات الطبية لبعض هذه الدول مثل ايطاليافرنسا اسبانيا ، فاقم من حدة هذا التباعد كذلك تفجر فضيحة المختبر الألماني من خلال رفض شركة كيروفاك التي تضم المختبر المختص في تطوير لقاح ضد كوفيد – 19 لمبالغ مالية كبيرة مقدمة من السلطات الأمريكية بغية نقل
جناح الأبحاث إلى الولاياتالمتحدة في سبيل إيجاد لقاح ضد كورونا يوجه فقط للمواطنين الأمريكيين .
* رفع الجانب الأمريكي للتعريفات الجمركية على بعض المنتجات الأوروبية و هو الأمر الذي دفع القادة الأوربيين إلى المطالبة بالرد بالمثل ، كان أخرها رفض مفوضية الاتحاد دخول المواطنين الأمريكيين إلى التراب الأوروبي مع تزايد حدة تفشي وباء كورونا بين ساكنة هذا البلد .
* إجماع القادة الأوروبيين الكبار (الترويكا الأوروبية التي تضم بريطانيافرنسا ألمانيا ) على رفض سياسة قاطني البيت الأبيض الأمريكي القاضية بالانسحاب من مجموع الاتفاقيات و المنظمات الدولية (اتفاقية باريس للمناخ ، الانسحاب و وقف أداء المساهمة المالية تجاه منظمة الصحة العالمية ، معاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة مع روسيا ، الانسحاب من منظمة التربية والعلوم و الثقافة "اليونسكو "بدعوى انحيازها للفلسطينيين ضد إسرائيل ، اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ ، الاتفاق النووي مع إيران والذي ابرم بينها و بين المجموعة 5 زائد واحد ، اتفاقية الأجواء المفتوحة ..) جعلت الاتحاد الأوروبي يأخذ مسافة كبيرة تجاه حليفه التاريخي في ظل التنديد الدولي الذي يطال هذا الأخير خصوصا مع سياسة العقوبات الاقتصادية الأحادية التي يلجأ إليها من دون غطاء شرعي دولي .
* التوجه الأوروبي شرقا في اتجاه تنويع شركائه و الاستفادة من العروض الاقتصادية التي تعطيه مناعة كبيرة في تثبيت استقلاليته خصوصا مع بروز بعض الدول بقوة على الساحة الدولية من مثل الشراكة مع الصين عبر طريق الحرير الذي يربط وسط آسيا بأوروبا الغربية ، ومشروع نقل الغاز الروسي إلى ألمانيا تحت اسم "نورد ستريم 02" و الذي يمر عبر بولندا و أوكرانيا و الذي ترى فيه الإدارة الأمريكية تقوية للنفوذ الروسي في أوروبا ، ويمنعها بالتالي من بيع منتجاتها البترولية بالقارة العجوز .
* خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما اصطلح عليه باتفاق "بريكست "، سيجعل أوروبا تتحرر بعض الشيء من ضغوطات شريك تقليدي عرف بتبعيته المطلقة للجانب الأمريكي و وقف أمام أية مشاريع تروم البحث عن استقلالية الجانب الأوروبي تجاه قضايا العلاقات الدولية بعيدا عن أية ضغوط تكرس تبعيته .
هي بعض من أبرز المحاور التي تدفع أوروبا باتجاه اتخاذ خطوات جديدة تستقرئ من خلالها التغيرات الجيوبوليتيكة التي تطرأ على العالم وتستشرف مسارات العلاقات الدولية المستقبلية والتي و لا شك أنها تعتمد في تقييمها لهذه المتغيرات على مركز أبحاثها المتخصصة ، في محاولة منها هذه المرة للحد النسبي من التبعية التاريخية التي ظلت تربطهم بالحليف الأمريكي إيديولوجيا و عقائديا و اقتصاديا و عسكريا ، مع بعض الاستثناءات التاريخية التي ارتبطت ببروز بعض الشخصيات الكاريزمية من مثل ديغول الذي دافع عن استقلالية أوروبا برفضه انضمام فرنسا للحلف الأطلسي وانتقاده للتدخل الأمريكي في الفيتنام ، وكذلك رفض الأوروبيين باستثناء الحليف البريطاني تحت قيادة طوني بلير المشاركة في حرب العراق الثانية سنة 2003 و بالتالي عدم إعطاء الشرعية
الدولية للغزو الأمريكي لهدا البلد و كلنا يتذكر بهذا الخصوص خطاب وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان أمام مجلس الأمن ، لكنها مواقف مع ذلك تبقى في المجمل محتشمة و لا ترقى إلى مكانة أوروبا التاريخية و الاقتصادية و الحضارية في تثبيت دورها دوليا بانتقالها و على عكس رؤية منظر السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر من دور الشريك و الحليف إلى دور المنافس و الفاعل ، فهل تساهم الإدارة الأمريكية الحالية في الإسراع بتوسيع الهوة بين الطرفين ؟ سؤال يبدو صعبا في ظل تشابك المصالح الاقتصادية و السياسية ، لكن في السياسة ليس هناك صديق دائم و لا عدو دائم وإنما هناك مصالح متبادلة .