حكمت جائحة كورونا التي تجتاح العالم منذ يناير2020 بالحجر الصحي على نصف سكان الكرة الأرضية ، إذ بالرغم من قوة الاقتصاد و من التطور التكنولوجي ومن التقدم العلمي في مجالات الطب وصناعة الأدوية فقد تسبب الوباء في ركود وشلل اقتصادي عالمي غير مسبوق . ولأول مرة تتوقف الحياة في العالم كله تقريبا لأسباب صحية بالأساس .ودون الدخول في الجدل الحاصل حول منشأ فيروس كورونا هل هو حقيقة أم خيال ؟ هل هو طبيعي او سلاح بيولوجي خرج من تحت سيطرة العملاقين الصين والولايات المتحدةالأمريكية ؟ هل الفيروس مجرد تداعيات لإطلاق الجيل الخامس من الانترنت G5؟ هل هي مؤامرة ضد شعوب الأرض للتخلص من المرضى والمسنين ؟ هل هي مؤامرة بين المنظمة العالمية للصحة ومافيا شركات الدواء العالمية ؟ وهل...وهل ..؟ و في انتظار أن تنجلي حقيقة هذا الفيروس يوما ما، وان كنت لا أعتقد ذلك، لا بد أن ننوه بالإجراءات الفورية والحازمة التي اتخذتها الدولة المغربية مستفيدة من أخطاء الآخرين الذين إما أنهم أخفوا حقيقة خطورة الفيروس كالصين مثلا ، وإما أنهم استهانوا بالفيروس وفضلوا استمرار دوران عجلة الاقتصاد على حساب صحة وسلامة بل و أرواح المواطنين كايطاليا وفرنسا والولايات المتحدةالأمريكية ولاحقا روسيا ودول أمريكا اللاتينية وفي مقدمتها البرازيل .
المغرب بصرامته في تطبيق الحجر الصحي وفي توالي الإجراءات القانونية الزجرية وتجند أعوان الدولة و وعي المواطنين بخطورة الموقف جنبنا كارثة لا تقل عواقبها عما تعيشه اليوم بعض الدول "المتقدمة" ونحن على ما نحن فيه ، من فقر وحاجة ونقص، وترتيب غير مشرف في سلم التنمية البشرية بالرغم من بعض المبادرات التنموية التي وان كانت قد حققت بعض النتائج في المجال الاجتماعي فانها لم تستطع القضاء على أسباب الهشاشة و التفاوتات بين الأفراد والمناطق ، فلا زال البون شاسعا بين الأغنياء والفقراء مع انحدار الطبقة الوسطى بسبب الغلاء وتجميد الأجور والتنمية غير المتوازنة بين الجهات وبين الأقاليم ، و الفساد وانعدام الشفافية في إدارة الموارد الوطنية كالفوسفاط والصيد في أعالي البحار و مقالع الرخام والرمال ... ، والتهرب الضريبي وتغول القطاع الخاص ، وهضم حقوق العمال ،وانعدام فرص الشغل ...إلى غيرها من المعيقات التي تحول بيننا وبين التنمية المنشودة والتي نتمنى مخلصين أن يتجاوزها النموذج التنموي الجديد، وأن يتم استثمار الزخم التضامني الذي أبان عنه الشعب المغربي بجميع مكوناته بمناسبة هذه الجائحة ، في تنمية حقيقية تقطع مع الوعود المعسولة ، و مع البهرجة والفولكلورية التي لا طائل من ورائها والتي صاحبت نماذج سابقة.
أملنا أن يستخلص الشعب المغربي بقمته وقاعدته الدروس من هذه المحنة ، وأن يتدارك النقائص المعروفة إن على مستوى البنيات التحتية كالمستشفيات والمختبرات على سبيل المثال وإن على مستوى فرض احترام القانون ومحاربة الفساد والفقر... وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم ،و رب ضارة نافعة ومن لم يستفد من أخطائه ويتعلم من تجاربه فلن يكتب له النجاح.. وعلى هذا الاساس فإنني أرى أنه على الدولة ان هي ارادت فعلا وضع المغرب على السكة الصحيحة نحو التقدم والازدهار والرفاهية أن تعمل على:
ü استثمار التعامل الإيجابي للشعب المغربي مع قرارات الدولة ومع حزمها وجديتها غير المعهودة وتسخيرها جميع الإمكانيات المادية والبشرية والمالية والتنسيق المدني والعسكري لدرء الجائحة، وذلك لإعادة مد جسور الثقة المفقودة بينها وبين المواطنين ووضع حد للاستياء الشعبي العارم من السياسات اللاشعبية المنتهجة وهذا يتطلب :
ü إصلاح دستوري يعزز الفصل بين السلطات و يعزز المسؤولية الحكومية ويسمح بإشراك المواطنين إشراكا فعليا في مسار وضع السياسات العمومية الناجعة الداعمة للتنمية المستديمة والمندمجة .
ü تأسيس هيئة عليا مستقلة للإشراف على ضمان انتخابات ديمقراطية وحرة ونزيهة وشفافة ،تفرز مجالس منتخبة ذات مصداقية تمثل الشعب بمختلف مكوناته وتوجهاته وتكون مسؤولة أمامه .
ü وضع حد للريع بجميع أنواعه من رخص ومأذونيات وإكراميات ورواتب سخية وتعويضات خيالية وسيارات الدولة الفارهة وغيرها من الكماليات التي يمكن تذهب مواردها الى مشاريع يستفيد منها الشعب .
ü وضع حد لسياسة عفا الله عما سلف وذلك بفتح جميع ملفات الفساد وتقديم المتورطين أمام القضاء ليقول كلمته فيهم واسترجاع الأموال المنهوبة .
ü بناء اقتصاد شامل للجميع يحمي الفقراء ويحقق الرفاه والإنصاف الاجتماعي، ويحترم أحكام قانون الشغل ويضمن حقوق العمّال في ساعات العمل والعطل ، والأجر القانوني والتصريح بهم لدى صندوق الضمان الاجتماعي ، خصوصا في القطاعات غير المهيكلة و في القطاعات الهشّة، مثل النسيج والفلاحة والبناء، وفي المؤسسات الانتاجية الكبرى، التي يمتكلها نافذون من الوزراء والبرلمانيين الذين يعتبرون أنفسهم فوق أية مساءلة أو متابعة .
ü فرض ضريبة على الثروة غير المنتجة، من قبيل الأراضي غير المبنية والممتلكات العقارية غير المأهولة، والسلع الفاخرة التي تعد من مظاهر الثراء، مثل اليخوت والطائرات الخاصة والسيارات الفاخرة وخيول السبا، والطهب والمجوهرات الثمينة ...
ü الرفع من ميزانية الإنفاق على الخدمات الإجتماعية، وذلك في مجالات الصحة والتعليم والسكن وغيرها من الخدمات العامة التي تشكل الدعائم الأساسية للتنمية البشرية المتوازنة والمستدامة.
ü وضع حد لتغول القطاع الخاص الصحي والتعليمي الذي يبتز المغاربة ولا يحترم قيمتهم الإنسانية ، وحقهم في العلاج والرعاية الاجتماعية والتعليم ، ولا يرى فيهم سوى مصدرا لمراكمة الثروة .والعمل على ان يستعيد هذا القطاع دوره كمحرك للنمو وكمصدر لفرص العمل .
ü تأطير وضبط عمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية و تطبيق القوانين محاسبة ومعاقبة بعض الجمعيات وبعض الأشخاص الذين شوهوا الوجه المضيء للتضامن والتكافل المغربي ، الذين استغلوا ضعف رقابة السلطة اما بسبب انشغالها بفرض احترام الحجر أو تواطئها للاستمرار في جمع التبرعات المالية والعينية .
ü إخراج المجلس الأعلى للصحة للوجود لتحصين وترشيد السياسيات العامة الصحية للبلاد .
ü إعادة النظر في السياسة العلمية المتبعة حتى الآن وذلك بتوفير الشروط المادية والبشرية والمالية واللوجستيكية لاقلاع بحث علمي بالمعايير الدولية إذ لا مكان في عالم اليوم لدولة لا تمتلك سلطة العلم والمعرفة ففي الوقت الذي تخصص فيه الدول المتقدمة أزيد من 3 في المائة من ناتجها الداخلي للبحث العلمي، و الدول الصاعدة أزيد من 1 في المائة من ناتجها الداخلي الخام للبحث العلمي. فان ميزانية البحث العلمي في المغرب لا تتجاوز منذ عقود نسبة 0.8 في المائة.
ü وضع تشريع يجرم ويوقع أقصى العقوبات على مستغلي الأزمات والكوارث التي يمر منها الوطن كالتجار والصيادلة الذين يحتكرون المواد او يزيدون في أسعارها وبعض رجال السلطة والأمن وأعوانهم الذين يستغلون الأوضاع لممارسة العنف اللفظي والجسدي ضد المواطنين .
ü معاقبة المتطفلين على الميدان الطبي والمشعوذين الذين يبيعون او يُعدون المواطنين إلى استعمال مواد لا تعرف خطورتها على صحة الانسان .وتنظيم حملات تحسيسية للتحذير من مخاطر استعمال أدوية أو أعشاب أو أية مواد أخرى بعيدا عن مراقبة ذوي الاختصاص .ووضع حد لأية تجارة ( العشابة واصحاب الرقية الشرعية) التي لا تخضع للضوابط العلمية حفاظا على صحة المواطنين .
ü إعادة النظر في معايير وآليات تسليم بطاقة "راميد" بعد أن تبين أن عددا كبيرا من الميسورين يتوفرون عليها و يزاحمون بها المحتاجين في الدعم الذي المخصص لهم .وعلى الدولة فتح تحقيق و متابعة ومعاقبة كل المتواطئين في منح هؤلاء بطاقة سهلت لهم الاستفادة من التطبيب والفحوصات والأدوية و العمليات الجراحية و من أموال الدعم المخصصة في الأصل للمعوزين.
ü على الدولة المغربية أن تكون حازمة في نقطة المراقبة والمطارات، بإجراء فحوصات طبية على كل سائح قادم للمغرب لإثبات خلوه من أي مرض كان ، لتفادي انتشار أي مرض قادم من أي دولة في المستقبل .
وختاما فإن جائحة كورونا عرت عن واقع بئيس حاول البعض إخفاءه ببعض الروتوشات ولكن كورونا نبهت الدولة بأن هناك مغاربة لا يملكون ما يسدون به رمقهم ، وأبانت للشعب أن هناك وزارات تشكل عبئا على ميزانية الدولة ، و أن بعض المسؤولين لا يستحقون أن تسند إليهم مسؤولية وأن الدولة يمكن أن تدار بأقل عدد منهم ، و أن المنتخبين صغارا وكبارا لا يمثلون فعلا الشعب ، كما اكتشفنا بفضل كورونا أنه لا زال بيننا بعض رجال السلطة والشرطة الذين يحنون إلى العهود البائدة .
لقد رأينا جميعا اثناء هذه الجائحة أن بعض المغاربة نساء رجالا يفعلون الخير لوجه الله ، وتأكد لنا جميعا أن المجتمع محتاج الى جميع أبنائه من أطباء وأساتذة وجنود وشرطة ... والى كل مواطن فيه ، عرفنا أخيرا قيمة البحث العلمي وقيمة الاستثمار في الراسمال البشري . عرفنا بعد أن كاد يفوت الأوان ان المغرب يضم طاقات شابة قادرة على الخلق والإبداع في كل المجالات يكفي ان تمنح لهم الفرصة بدل البحث عنها في الدول الأخرى . كما تأكد لنا أننا يمكن أن نأكل ونلبس ونركب مما تنتجه سواعدنا .
وعلى مستوى علاقاتنا ببعضنا البعض فقد علمتنا كورونا اننا يمكن نعبر عن محبتنا وامتنانا للآخرين بالاشارة و بالابتسامة والكلمة الطيبة بدل المغالاة في المصافحة والتقبيل والعناق ، كما علمتنا أننا يمكن أن نستغني عن حفلات الأعراس والعزاء الباذخة ونكتفي باحتفال بسيط ، علمتنا كورونا انه يجب نقضي اكثر الأوقات بين أحضان أسرنا ونهتم بشؤون أبنائنا وبناتنا بعد ان عرفنا أخيرا قيمة مدارسنا ، وذكرتنا كورونا أن نهتم بنظافة أنفسنا ودورنا وشوارعنا وأزقتنا وحدائقنا وملاعبنا وأماكن عملنا وعبادتنا وأن ننظم صفوفنا و نحترم مسافة الأمان بيننا.
فهل سنستفيد - دولة ومواطنين - من هذه الدروس لنرقى أم سنعود لشقائنا المعهود في انتظار كارثة أو جائحة أخرى ؟