" نعيش اليوم قطيعة مع التاريخ باستثناء بعض من يشتغلون بالتدريس، فليس للمجتمع المغربي حس تاريخي... ترسيخ شعور الانتماء إلى أمة يكون بإشاعة التاريخ" القولة أعلاه للمفكر المغربي اللامع حسن أوريد، وجدتها بعد أن أنهيت كتابة المقال، فأنزلتها في بدايته، فكأن المقال في جانب كبيرمنه اشتغال في تبيان مرادها. ما يعترف به معظمنا، أن التاريخ لا يمكننا أن ننفصل عنه، سواء بسلوك واعي أو غير واعي، فحينما تكون معرفتنا بالتاريخ الوطني مثلا معرفة واعية ووطنية، يمكننا أن نتحكم في ما الذي يفيدنا ويصلح لنا من هذا التاريخ، ويمكننا أن نوجه موروثنا التاريخي، وذاكرتنا التي لا يمكننا الانفصال عنها، بالشكل الذي ينسجم مع طموحاتنا وأرضيتنا المعرفية، وندمجها ونوظفها في روح العصر، بإمكاناته وتحدياته و أيضا في استشراف المستقبل. فما الفائدة المجتمعية المتحصلة من شيوع الوعي والحس التاريخي بين المواطنين؟ وما سبل وقنوات تنمية هذا الحس والوعي التاريخي بالنسبة للمجتمع المغربي؟
في الحقيقة هناك غايات وفوائد مجتمعية عديدة تتحصل من تحقق الحس التاريخي لدى المواطن المغربي، أستخلص لكم منها أربعة فوائد أساسية ولها ارتباط بواقعنا المعيش. في مواجهة جائحة كورونا: الحس، ومنه الوعي التاريخي، يمكننا من التصرف بحكمة وصرامة مع جائحة كورونا، لأن التاريخ يقدم لنا معرفة عن الجوائح والطواعين التي عرفتها البشرية سابقا، وكذلك وطننا، وكيف تغلبنا عليها، وهكذا نفهم أن الجوائح من السنن الكونية التي تحدث بشكل دوري عبر التاريخ وليست عقابا من الله كما يسوقه العقل السطحي، وما قد يترتب عن هذا التفكير من سلوكات غير مرغوبة، فالجائحة من السنن الكونية الممكن حدوثها، والبشرية تتوفر الآن على إمكانية توقعها والتنبؤ بها.و" جائحة كورونا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بكل تأكيد، فعلى مر التاريخ شهدت البشرية جمعاء آفات وأوبئة تعاطت معها الشعوب بدرجات مختلفة من الوعي والحذر، وتأثرت بها فٍئات دون غيرها" ( د. نبيل الطويهري. باحث في التاريخ المعاصر). - تنمية الوعي الاستراتيجي. يمكن الحس التاريخي المواطن المغربي من أن يعي بعفوية التحولات الحاصلة، وموقعه ومكانة مجتمعه منها ضمن حركة التاريخ، وذلك من خلال إدراكه لمفهوم بالزمن، وما هي المحطة بالضبط التي نقف عندها، وما متطلباتها وشروطها ومحاذيرها، فيكون ذلك محفزا للتفكير في تحسين شروط حياته، ولأن التاريخ منفتح على مجالات علمية أخرى مثل الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا والاقتصاد والجغرافيا واللسانيات وبالتالي يتناول قضايا عديدة داخل المجتمع، فإن الوعي التاريخ سيرقى بالمواطن من مجرد فاعل اجتماعي عادي، يتصرف بلا دلالة علمية مع القضايا والمسائل، إلى فاعل اجتماعي دينامي بمعنى مراقب، مواكب، متوجس، يقض، أي فاعل مسلح بآليات ومعطيات علمية، يوظفها في إطار تدافع حر، أساسه الانتماء للوطن والغيرة عليه، لا التعصبات والصراعات التي ضيعت الفرص أمامنا في الماضي ولا تزال تداعياتها بيننا.
وأنا شخصيا ألتقط من الأحداث التي تمر أمامي حاليا مجموعة من الرسائل، فلقد وجدنا مسؤولي البلد يتخذون إجراءات حكيمة جدا في مواجهة جائحة كورونا، وفضلوا منذ البداية الإنسان على الاقتصاد... ورأينا أيضا، لولا الصرامة المتبعة لذهبت الأمور لا قدر الله إلى ما لا يحمد عقباه، بسبب خرجات البعض للتسفيه بإجراء إغلاق المساجد، أو التهوين وتشكيك الناس من خطورة الجائحة وحقيقتها، وخرجت التافهات والتافهون على القنوات ومواقع التواصل يقومون بسلوكات غير مسؤولة، وهو ما يترجم طبيعة العقل المفصول عن التاريخ. كما تابعنا كيف أن مسؤولي البلد يخصصون ميزانيات لدعم الأسر والأشخاص... وكيف تم التلاعب بالمساعدات من طرف عديمي الضمير الذين لا تقدير لهم للوضع، ويظهر درس الوعي التاريخي بوضوح مع تجربة الراحل الزعيم الوطني الأممي عبد الرحمن اليوسفي رحمة الله عليه، وأكثرنا ليس لديه معرفة كاملة عن الدولة، ورجالاتها، وفلسفتها، وطقوسها، وتقاليدها، وآلياتها، ودهاليزها وأسرارها، ووعي تاريخي بمؤسسة المخزن وطبيعة نظام الحكم في شمال إفريقيا عامة عبر التاريخ مثلما توفرت للفقيد، وهناك منا من لم يخض نضالا واحدا ولو بحثا عن لقمة العيش، ومع ذلك يصدر الأحكام المجانية سخطا على الدولة...عبد الرحمن اليوسفي تغمده الله بواسع الرحمة، رغم معارضته للنظام سابقا، فإنه بقي وفيا لوطنه ومؤسساته، واستجاب من منفاه الاختياري لنداء الوطن مع بزوغ ملامح العهد الجديد، إيمانا منه بأهمية الاستقرار
وضرورة تقوية المؤسسات...وما كان ليتخذ هذا السبيل لولى وعيه بالتاريخ.
وأيضا الحس التاريخي ومنه الوعي الاستراتيجي، يضبط انفعالات الكثير منا، التي تبرز كلما اتخذ المغرب مبادرات في سبيل مزيد من الانفتاح على البلدان الإفريقية، مثل العناية بالرعايا الأفارقة بالمغرب...فمن خلال التاريخ يفهم أن قوة المغرب تاريخيا كانت حينما تتحسن وتتقوى علاقته مع عمقه الإفريقي. كما أنه سيحترم التنوع العرقي والديني واللغوي داخل بلده لأنه يدرك بالتاريخ أن المغرب بلد التنوع والتعدد والاختلاف، وأن جلالة الملك هو ملك لكل المغاربة وأمير لكل المؤمنين.
الوعي التاريخي والوعي الديني :
الوعي التاريخي يمنح المواطن صورة واضحة عن نموذج التدين المغربي التي أسس أركانه العلماء المغاربة الأجلاء عبر التاريخ، فنحن على مذهب مالك والعقيدة الأشعرية والتصوف السني الجنيدي، في إطار من الاعتدال والوسطية والتجديد والانفتاح دون تعصب، ومنه يتمكن الفرد من إدراك نماذج التدين الوافدة والغريبة، ويحمي نفسه بإرث وطنه من الجماعات المتطرفة والأفكار الأصولية. فالحس التاريخي يجعل المواطن يتجاوب بإيجابية وحس وطني مع مختلف دعاوى التجديد، والمبادرات الإصلاحية التي يقوم بها بلده، في مجال حقوق المرأة والمساواة، وفي مجال الحريات والتثقيف الجنسي وغيرها ...بدون أن يحس أن التجديد يهدد دينه ومعتقداته، لأن الحس التاريخي يمكنه من وضع الإصلاح في سياقه التاريخي وحركة المجتمع وطنيا وإقليميا ودوليا...
إننا في حاجة إلى شباب مدرك لما يحاك ضده من الجماعات المتطرفة، والخطابات المسمومة والرجعية، والقنوات التافهة، وأن لا يرى أي حرج في الافتخار بوطنه، والوفاء لمؤسساته وثوابته، على رأسها إمارة المؤمنين.
تنمية الحس الوطني: نحن في حاجة إلى مواطن يشارك طوعيا في بناء وطنه وصناعة نجاحه، ولن يتم ذلك إلا عبرة انخراطه بفعالية وثقة وإمكانات ذاتية في العمل السياسي والمدني الصحفي والحقوقي، ولكن ذلك مشروط بأن يكون هذا الانتماء مبني عن قناعة ووعي حقيقيين، وليس مواطن مهزوز وضعيف وغير قادر على تمييز الخطابات السائدة، فتتشكل لنا جماعات وأحزاب بقواعد جماهيرية مغشوشة، تقدم صورة ضبابية وغير حقيقية عن مشاكل الناس ومطالبهم وأولوياتهم واحتياجاتهم.
وفي تصوري، أرى أن المرحلة القريبة القادمة سواء على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتدين وغيرها... سنحتاج فيها مواطنا واعيا بالمرحلة الجديدة هاته، وواقعيا وواثقا، وفاهما للمصطلحات الجديدة التي سيكثر تداولها في الحقل السياسي، ومقدرا لفكرة الإصلاح المتدرج، وبانيا اختياراته السياسية على أساس مواطنة صادقة وواعية، وأن لا يكون ضعيفا مهزوز الثقة في مواجهة خطابات أعداء الوطن اليائسين...بل يرتاح تماما حينما يكون مدركا للخصوصية المغربية، خصوصية بلده الذي يتطور وفق سياق تاريخي معين، ووفق إطار حضاري خاص، بتعدد روافده العربية والأمازيغية، والأندلسية واليهودية والإفريقية، وفي إطار أصول معروفة وثابتة من التدافع السياسي الذي يستند للمشروعية النضالية التاريخية، وفروض الواقع، وتجدد الحاجات والمتطلبات وأولويات الإصلاح، في انسجام مع تغير الأرضية المعرفية، وفي حضن التوافقات بين الفرقاء والأطراف الفاعلين... وتحت سقف من المنطقية والواقعية والتوازن تضبط حدود الخطابات والشعارات في جو من الديموقراطية واحترام القانون والمؤسسات.
سأنتقل الآن لمعالجة السؤال الثاني الذي تركناه مفتوحا خلال الجزء الأول من المقال، من خلال طرح وجهة نظري حول بعض قنوات وسبل تفعيل ورش تنمية الحس والوعي التاريخي بالنسبة للمجتمع المغربي، ففي حقل البحث التاريخي، معروف لدى أهله، مجموعة من المحاذير التي ينتبه لها المؤرخ كمتخصص أثناء تعامله مع الوثيقة، منها يقظته الشديدة حتى لا تكتب الوثيقة به التاريخ... وأن المؤرخ اليوم أثناء عملية التأليف، لا يكتفي فقط أثناء تعامله مع الوثيقة عن ماذا تخبرنا به من أحوال الماضي، ولكن أيضا ما الذي لا تخبرنا به، وما الذي لا تريد أن تخبرنا به، أي عن ماذا تتكتم الوثيقة، وما التاريخ الذي تستدرجنا هذه الوثيقة لصناعته...وغيرالمؤرخ وجهته نحو مجالات ومناطق أخرى لم تكن ضمن الاهتمام سابقا...إنه المؤرخ المحترف ومعاناته أثناء تأليف التاريخ من خلال الشواهد، علما أن مرحلة الاستكشاف الوثائقي أخطر مرحلة يمر منها المؤرخ... هذا ومع جبال من الأسف، الإنسان العادي يتقبل كل القصص والخرافات، ويبني عليها تدينه ويقينه ومنهج حياته ويوجه سلوكه، فتكون الحياة والسلوك بناء عليه، مجرد ممارسات خادعة ومغشوشة وغير قويمة ولا واعية. والحق أننا في أمس الحاجة إلى الشك الذي
مارسه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في الحديث المنسوب إليه" نحن أحق بالشك من إبراهيم"، حيث تعامل منذ نشأته صلى الله عليه مع النموذج الاجتماعي والأخلاقي بنوع من الشك من حيث الصلاح، حيث عرف على عكس ما كان سائدا، بالوفاء والثقة والصدق والأمانة...ثم شك فتحرر من النموذج الديني السائد، واختار التوجه إلى غار حراء للتأمل في فكرة الله الواحد، التي تنسجم مع الفطرة والعقل والمنطق والواقع، وكان ذلك قبل نزول الوحي عليه.
ولهذا فإنه هنا لابد من التنبيه للمسؤولية الذاتية للمواطن، الذي يجب أن يبادر إلى تكوين حسه التاريخي ذاتيا، فإذا كنا نرجوا ونأمل الإصلاح والتجديد، وتحسين الأوضاع على يد أولياء أمورنا في هذا البلد، فيجب أولا أن نصلح ونجدد تصوراتنا، حتى تتكون فينا قابلية تقبل المشاريع الإصلاحية والتجاوب الإيجابي معها. والصراحة أن المواطن يحمل أمانة نفسه بيده، فهو من عليه الرقي بوعيه أولا كي يتأهل للمساهمة بإيجابية وفعالية في بناء وطنه... وحاليا هناك الكثير من الباحثين والأساتذة الجامعيين المختصين في التاريخ، لهم حسابات على مواقع التواصل منفتحون ويتفاعلون مع الجميع وبسرعة، وينشرون كتاباتهم ومساهماتهم في الندوات المباشرة عن بعد، وهذا من نعم الله علينا في هذا الزمان وفي هذا الوطن، والمعرفة أصبحت متاحة للجميع، ما علينا كأفراد سوى اتخاذ مبادرة الوعي التاريخي الذاتي.
وهكذا يتكون لنا المواطن الإيجابي، المواطن الصادق الفاعل، المواطن المتابع المواكب القادر على ممارسة نقد بناء لكل أنواع الخطابات الموجهة إليه( سياسية ودينية وأدبية)، سواء من خلال مؤسسات المجتمع المدني أو الدينية أو القنوات والإنترنت... ومحصن من جميع أنواع الاستقطابات التي توظف المواطنين في صراعاتها حول السلطة، سواء مع النظام أو بين باقي القوى الأخرى، فتضيع فرص التنمية ونفشل في إنجاح كل النماذج التنمية. أما على المستوى المؤسساتي، فإننا نحتاج إلى ردم الهوة بين التاريخ الجديد/المؤرخ الجديد والمجتمع بشكل عام، ولتحقيق هذا المسعى هناك قنوات عديدة جدا، وقد بدأ العديد من الباحثين والمؤرخين المغاربة يتخذون مبادرات الانفتاح عبر الإنترنت كما أشرت سابقا، وأيضا لا بد من انفتاح التاريخ على أهل الفن والشعراء وكتاب السيناريو السينيمائي، ومنتجي الأفلام الكرطونية التاريخية والرسوم المتحركة، ولا أخجل من القول بلا بأس من استضافة فناني " الحلقة " مثل " حلايقية" جامع الفنا بمراكش وحكواتييها، وتأطيرهم في هذا السياق من طرف جمعيات البحث التاريخي وتطوير التراث وغيرهم ....و تعدد القنوات التي يمكنها القيام بهذا الواجب الحضاري.
ويبدوا أن معركة التاريخ ستكون شرسة خلال السنوات القليلة المقبلة من خلال ما نلتقطه هنا وهناك من إشارات وتلميحات من كبار المتخصصين في السياسة والفكر والتاريخ، من أمثال الأستاذ ذائع الصيت عبد الله العروي، وسيشهد حقل االتاريخ إقبالا كبيرا وتدافعا قويا، ولهذا مطلوب منا الاشتغال على الوعي التاريخي، من خلال الانفتاح على كتابات ثلة من المؤرخين المغاربة الوطنيين المجددين، أمثال عبد الله العروي، محمد حبيدة، أحمد التوفيق، محمد القبلي، ، حليمة فرحات، عبد المجيد قدوري، وغيرهم كثر من المؤرخين المغاربة الذين ينتمون لمدرسة التاريخ الجديد.
نحن محتاجون أيضا إلى تكثيف اللقاءات والندوات والتعريف بهذه الإنتاجات، وتحفيز الناس على متابعتها، مع تبسيط الخطاب التاريخي، عبر إعداد وسطاء بين إنتاجات المؤرخ المحترف وعامة الشعب، وما المانع أن تكون لدينا كراسي للتاريخ، لأننا الآن أكثر حاجة إلى مؤرخ يفهمنا تاريخنا، وليس لمن يجتر الكلام اجترارا لما لا نهاية وبلا غاية. وأنا أسجل بإعجاب انخراط المركب الجهوي الثقافي بمدينة الداخلة في هذا المشروع من خلال العديد من اللقاءات والندوات التي يستضيف فيها ثلة من الباحثين المرموقين في التاريخ، وتساهم هذه المؤسسة في هذا الورش المهم، وبكل تأكيد أن هناك مؤسسات عدة وطنيا تنخرط في مشروع نشر الوعي التاريخي.
كل هذا وتبقى القناة الأساسية هي المدرسة بالإجماع، لكن السؤال الحاضر بقوة، هو ما فائدة أن يدرس المتعلم التاريخ ولا يساهم في تنمية الحس النقدي لديه؟ ولماذا تلامذتنا بعيدين كل البعد عن استيعاب منهج المؤرخ وتوظيفه في حياتهم الاجتماعية والسياسية والعملية والفكرية؟ ولماذا المدرسة نتائجها محدودة على مستوى نشر الوعي التاريخي لدى التلاميذ ومنهم إلى المجتمع؟ طبعا الجواب عن هذه الأسئلة فوق طاقة هذا المقال المتواضع، لكن ما يستطيعه هو الدعوة إلى ضرورة اضطلاع المدرسة بأدوارها الكاملة في نشر وعي تاريخي ممؤسس للتلاميذ، وإيجاد السبل لتخليص تدريس التاريخ من ثقل الامتحان ومتطلباته، وتحريره من رتابة العرض الجاف للمعرفة التاريخية كحقائق لا تقبل النقاش، بل أن يشارك المتعلم في بنائها من أجل اكتسابه لآليات اشتغال المؤرخ، فيتعلم النسبية والاستقلال الذاتي، وتصبح نظرته للأشياء واعية يحكمها العقل والواقعية وتقدير الظروف والسياقات، ويتعلم عدم التسرع في بناء الأحكام، ( الطامة الكبرى التي تسلطت على نقاشاتنا)...علما أن المنهاج
المدرسي للتاريخ متقدم بشكل معتبر، ومازال مطلوب منا بذل مجهودات مضاعفة لتنزيله خاصة على المستوى المنهجي والبيداغوجي والديداكتيكي، وأيضا تجديده.
ومن الواجب تقدير المجهودات الجبارة المبذولة من طرف مدرسي التاريخ، لأن المهام الحقيقية لمدرس التاريخ المدرسي، لا تقل صعوبة عن مهام المؤرخ، هذا إذا لم تكن أصعب منها، فبالإضافة إلى كونه يمكنه ممارسة وظيفة المؤرخ كمساهم في التجديد الإبستيمولوجي والمنهجي والمعرفي للتاريخ، فإن أمامه مسؤولية الوساطة الأمينة بين التاريخ كمنتوج للبحث العلمي والتاريخ لأغراض مدرسية ومجتمعية، وأمام هشاشة فضاء الوساطة والعوائق، أو المحدودية على مستوى البرامج والتوجيهات التربوية للتاريخ، فإن جودة العمل البيداغوجي والديداكتيكي تصبح محدودة للغاية.
والمطلوب، مزيدا من تطوير جسور التواصل بين مدرس التاريخ المدرسي والباحثين الأكاديميين في ميدان التاريخ، سواء على مستوى المعرفة أو المنهج أو الإبستمولوجيا،( التقارب مثلا بين كلية علوم التربية والجامعة - مراكز التكوين والجامعات...) لأنه مادامت المدرسة تطور إمكاناتها البيداغوجية والديداكتيكية من أجل إنجاح عملية النقل المدرسي للتاريخ كمجال للبحث العلمي بكل ملابساتها( إخفاقاتها ونجاحاتها)، فإنها مطالبة بالتقرب أكثر وبشكل مستمر من عمل المؤرخ...لأن الأستاذ دوره الأساسي هو تدريس التاريخ للتلاميذ، وهو وسيط بين المؤرخ والمجتمع من خلال جمهور التلاميذ، وهو ما يدعونا للحديث عن الأمانة والمسؤولية في هذه الوساطة.
وفي هذا السياق أنقل لكم حكاية قصيرة وبها أختم مقالي هذا، فذات مرة كنت داخل مجموعة فيسبوكية لمدرسي مادة الاجتماعيات أتجسس على المجال كما هي عادة أهل الجغرافيا ههههه، وإذا بي أجد تدوينة غالبا من طرف أستاذ يطلب من باقي زملائه، مده بعناوين لكتب جيدة حول تاريخ المغرب، بشرط أن تقدم تاريخا شاملا للمغرب. طبعا وجدت في التعليقات أسفل التدوينة أساتذة وأستاذات وغيرهم يمدونه بعناوين لكتب مختلفة، منها ما تنتمي لمدرسة التاريخ السردي، ومنها كتب تناولت قضايا جديدة تصنف ضمن مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد، وكلها لمؤرخين مغاربة...لكنني غردت خارج السرب و قدمت له مقترحا آخر، فأنا نصحته كما أنصح نفسي وإياكم، أن تتجنبوا في البداية على الأقل، قراءة كتب في التاريخ، أو مشاهدة الأفلام التاريخية، أو متابعة فيديوهات لبعض الشخصيات التي تحكي القصص والتاريخ... وأفضل انتظروا حتى تضطلعوا على كتب منهج المؤرخ، و المدارس التاريخية، وتطور الفكر التاريخي، وتنفتحوا على رواد الحوليات والتاريخ الجديد والوضعية، ولما لا الانفتاح على منهج الجرح والتعديل عند أهل الحديث، وأن تتعرفوا على الإنتاجات المنهجية والإبستيمولوجية حول التاريخ لمؤرخين من أمثال بول فاين، وهينري مونيو، ومارك بلوخ، وفيرناند بروديل، ولوسيان فيفر، جاك لوغوف، وفرانسوا موس، وعبد الله العروي ،بل وحتى كارل بوبر في نقده للتاريخانية، وغيرهم من عمالقة ومناضلي ومجددي وثوار الفكر التاريخي، فمن خلال هذه البداية الموفقة، ستتمكنون من القبض على مفاتيح الدهاليز وأسرار الكتابة التاريخية وتياراتها ومنحاها، وفلسفتها ونظمها، فترتدون نظارات جديدة تكشف أمامكم عالم آخر من الحقائق التاريخية لم تكونوا تتصورونها، وهي ليست بالضرورة موجودة في الوثائق أو فيما يحكى إليك، فممكن أن توجد متوارية خلف الوثيقة وخلف ما يحكى إلينا، وخلف ما تصورها الأفلام إلينا، وهكذا نتفطن ونبدأ التفريق الجدي بين التاريخ والتأريخ.
وأختم بأبيات للشاعر أحمد الأسمر:
هداك الله يا تاريخ......................يا شيخ الأضاليل
فما أقدر كفيك .......................... على نسج الأباطيل
تحابي الحي أو تظلم..................... يا تاريخ أحيانا
فما مثلك مؤمون ......................... على أخبار موتانا