في الوقت الذي يقترب فيه عدد الإصابات بفيروس كورونا عبر العالم من نصف مليون، وتستمر الإصابات بالارتفاع في إيطالياوالولاياتالمتحدة وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، يبحث خبراء الصحة في العالم عن النماذج الناجحة في تطويق الفيروس. وتبقى أقوى النماذج تلك التي طبقتها دول آسيوية غرب المحيط الهادي، وأبرزها الصينوكوريا الجنوبيةوتايوان ونتيجة لهذا النجاح، تُطرح أسئلة حول إمكانية الاقتداء بهذه التجارب. ويُخص بالذكر منها تجربة الصين كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان والتي سُجلت فيها أول حالة إصابة. وهناك التجربة التايوانية التي تمكنت من منع انتشار الفيروس على أراضيها رغم الحدود المشتركة مع الصين. مؤشرات مشجعة" على تباطؤ تفشي كورونا في أوروبا رغم خطورة الوضع الحالي ما هي أسرار نجاح البلدين؟ وهل يمكن تطبيق الإجراءات التي اتخذاها في بلدان المعمورة خاصة أن إجراءات العزل الصحي المعلنة في أوروبا لم تحقق نتائج كبيرة حتى الآن؟ وما هو النموذج الأقرب لبلدان عربية لا تتوفر على تجهيزات طبية لمواجهة الخطر؟ أرقام تعكس النجاح سجلت الصين حتى يوم الخميس (26 مارس/آذار 2020) حوالي 81 ألف إصابة، لكن الرقم المهم أنها لم تسجل في آخر 24 ساعة سوى 67 حالة، فيما شفي حوالي 74 ألفا من المرض. الانخفاض ذاته حصل أيضا في كوريا الجنوبية التي كانت في المراتب الثلاث الأولى سابقا، لكنها أضحت اليوم في المرتبة العاشرة، ولم تسجل سوى 104 حالات إصابة جديدة. لكن النجاح الأكبر في المنطقة كان لتايوان التي لم تسجل فيها سوى 252 حالة في المجموع، بينها 17 حالة إصابة جديدة. عند مقارنة هذه الأرقام بإيطاليا، البؤرة الأولى للفيروس في العالم حالياً، يتبيّن أن الإجراءات التي أعلنت عنها روما لم تنجح في كبح جماح انتشار كورونا، فقد سجلت أمس الأربعاء 5210 حالة جديدة بينها 683 حالة وفاة. وإن كانت أحوال دول أوروبية أخرى أفضل نسبياً، إلّا أنها تعاني كذلك من الفيروس، في وقت تصعد فيه الإصابات بسرعة هائلة في الولاياتالمتحدة، وهناك تخوف أن تصبح بؤرة جديدة للمرض. سر نجاح إجراءات تايوان تتعدّد الطرق التي تدخلت بها الحكومة التايوانية لاحتواء الفيروس، لكن أولها، حسب جيسون وانغ، خبير في سياسة الصحة العامة بجامعة ستنافورد بالولاياتالمتحدة، في حديث مع DW، التدخل المبكر منذ إعلان انتشار كورونا في الصين، ثانيها الاستفادة من تجربتها الخاصة مع وباء سارس عامي 2002 و2003، عندما أنشأت تايوان مركزا للقيادة الصحية لمواجهة أي وباء قادم. ثالثها دمج بيانات التأمين الصحي مع بيانات الهجرة لأجل التعرف على المرضى المحتملين، واستخدام التكنولوجيا لأجل تشجيع المسافرين على الإبلاغ عن سفرهم. (تفاصيل أكثرمن الخبيرفي مقال: هكذاخاضت تايوان معركتها الناجحة ضد كورونا!). ويعطي تقرير نشرته "فورين بوليسي" تفاصيل أكثر عن التجربة التايوانية، فقد استنجدت هذه الدولة، المتقدمة تكنولوجيا، بالبيانات الضخمة لأجل تطوير منصات للتواصل مع السكان حول أماكن وجود الأقنعة الطبية، ومكّنت مقدمي الخدمات الصحية من العودة إلى تاريخ سفر الراغبين في العلاج لأسبوعين على الأقل. وهناك عامل أساسي آخر، هو قوة النظام الصحي في تايوان، إذ يعد الأفضل في العالم حسب تصنيف موقع نمبيو numbeo، ويقدم خدمات صحية قوية للجميع، فضلاً عن كونه نظاماً رقمياً يتيح للأطباء التعرّف على بيانات المرضى. ومن العوامل الأخرى التي ساقها تقرير فورين بوليسي، نجاح الشعب في الحجر الصحي الاختياري، ووجود قيادة حقيقية لتدبير الأوضاع الصحية على المستوى المركزي. بماذا تختلف الصين؟ أكبر اختلاف بين البلدين هو مؤشر الديمقراطية، فتايوان التي تتمتع باستقلال ذاتي، تعدّ من الديمقراطيات القوية في غرب آسيا، ولذلك لم تلجأ إلى أساليب "غير مشروعة" لوقف انتشار الفيروس، عكس الصين الشعبية، المعروفة بممارسات غير ديمقراطية، ما جعلها دوما عرضة لانتقادات منظمات حقوقية، إذ تعد الصين أكبر دولة تمارس الرقابة في العالم، ما جعل عدة تقارير تشكك في حقيقة تغلبها على الفيروس. ومنذ إعلان الوباء، ضاعفت الصين من عمليات مراقبة السكان والتجسس عليهم وحتى الاعتقال، بل إن أول طبيب جاهر بخطورة الوباء، اعتقل بتهمة نشر أخبار كاذبة قبل أن يتوفى بسبب المرض. وينقل تقرير ل"الغارديان"، عن بروس أيلوارد، من منظمة الصحة العالمية، أن دول العالم لن تملك القدرة على تطبيق إجراءات الصين. وتستخدم بكين التكنولوجيا بشكل مغاير، إذ تلزم السكان بتدوين تنقلاتهم إلكترونياً، كما تتعقب شركات الاتصال تحرّكات السكان، ويتم التعرف عن طريق الوجه على بعض الأعراض الأولية للمرض. بينما لجأت مدن في الصين إلى تشجيع الناس بجوائز للإبلاغ عن جيرانهم المرضى، وأجرت الدولة عزلاً صحياً واسعاً وأغلقت عدة مدن. وينقل خبراء ل"الغارديان" أن السلطات قامت بجمع ضخم لبيانات المواطنين، وهناك تخوف من استغلالها لمزيد من التضييق على الحياة في البلد. كما أن الصين استغلت تراجع الفيروس لديها للقيام بعمليات دعائية ضخمة لأجل محاولة تجميل النظام في البلد، وهو ما تؤكده ماري اريبنيكوفا، خبيرة أكاديمية في الشأن الصيني لDW، بقولها إن الحزب الحاكم في الصين استخدم مواجهة الفيروس لأجل ترويج أن البلد كقوة حقيقة في وجه الكوارث، وأنه قادر على مساعدة دول أخرى في التصدي لها. أي نموذج يُتّبع؟ بالتأكيد، لا أحد سيشجع في الغرب على خلق تكريس سلطوية كالنظام الصيني لأجل مواجهة جائحة كورونا، لكن الدعاية الصينية جعلت كثيرين يرون أنه حان الوقت لتدخل مركزي صارم، يجعل الدول قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة وإلزام الجميع بها. كما أن ضعف التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة الفيروس (رغم أن برلين تتحدث عن إرسال أطنان من معدات طبية إلى إيطاليا مؤخرا)، روّج لفكرة مركزية الدولة، مقابل عدم نجاعة التكتلات الإقليمية الجماعية، بل هناك حديث عن أن حرية التنقل في الاتحاد الأوروبي دون تسجيل حركة العبور، كانت عاملاً مهماً في انتشار الفيروس. ويطرح الاقتداء بالنموذج التايواني إشكالات أخرى، من أهمها قوة الاعتماد على البيانات الرقمية في حكومات العالم، وهو تحدي موجود بقوة لدى الدول السائرة في طريق النمو، فهي لا تتوفر على نظام رقمي لجمع البيانات الصحية، بل إن نسبة كبيرة من سكانها غير مسجلة في أنظمة التأمينات الاجتماعية، ومثال ذلك من المغرب الذي لم يجد حتى الآن طريقة ناجعة لإيصال الدعم المادي المباشر للفئات المتضررة من حالة الطوارئ الصحية. وإن كانت جلّ دول العالم قد أضاعت خطوة المواجهة الاستباقية كما فعلت تايوان التي أوفدت فريقا طبياً متخصصاً إلى ووهان الصينية عند انتشار الفيروس بها للتعرف عليه، فإن هناك دروسا أخرى من هذا البلد يمكن الاقتداء بها حسب تقرير ل NBCNews، منها ضمان استمرار إنتاج المعدات الطبية، إذ تدخل الجيش التايواني لهذا الغرض، والتواصل المستمر مع السكان عبر وسائل الإعلام الجماهيري، وتشجيع الناس على الاهتمام بصحتهم سواء في العمل أو في المنزل، فضلاً عن تعميم التأمين الصحي الإجباري على جميع السكان. وإذا ما استطاعت دول العالم الحد من انتشار الوباء، فسيكون عليها أن تتعلم من الدرس، تماما فعلت تايوان مع وباء سارس. وقد سبق للطبيب الأمريكي نيكولاس مارك، المتخصص في الرعابة الحرجة، أن صرح لDW أن الحكومات مدعوة لاستخدام التكنولوجيات الحديثة في الرعاية الصحية، كالتطبيب عن بعد ومراقبة الصحة المنزلية. وهناك درس آخر مستخلص من تجربة كوريا الجنوبية، ألا وهو هو تقوية القدرة على التحاليل المخبرية السريعة، إذ أجرى هذا البلد حوالي 358 ألف تحليل حسب أرقام ستاتيستا، وهو أعلى رقم في العالم، رغم أن مجموع الحالات المؤكدة بالفيروس في البلد لم يتجاوز تسعة آلاف حالة. اسماعيل عزام