من فرط حبنا للوطن واعتزازنا به، طالما تمنينا صادقين أن يعمه الرخاء ويسود مؤسساته القانون. ويأتي علينا يوم تتولى فيه مسؤولية تدبير شؤوننا حكومة قوية ومنسجمة، يقودها شخص يلتزم بصلاحياته الدستورية، وتقوم وزارة الداخلية شأنها شأن باقي الوزارات بمهامها وتخصصاتها المحددة سلفا، والمنحصرة فقط في كل ما له ارتباط وثيق بالأمن والاستقرار، من خلال المحافظة على النظام العام وحماية الأرواح والأعراض والممتلكات العامة والخاصة والحريات ومحاربة الجريمة. وإشراف رئيسها بكل مسؤولية على مختلف أنشطتها وشؤونها، توجيه المصالح والإدارات التابعة لها، وتنفيذ السياسة العامة للحكومة وفق ما تنص عليه القوانين والقرارات... بيد أنه رغم جسامة المسؤولية وتعدد المهام المنوطة بوزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، والتي تتطلب منه حضورا قويا وجهودا مضاعفة، للنهوض بواجباته والإسهام في استتباب الأمن وتوفير ظروف السكينة والطمأنينة للمواطنين في جميع ربوع الوطن من طنجة إلى لكويرة. فقد أبى رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية سعد الدين العثماني، إلا أن يثقل كاهله ويضيف إلى قائمة تخصصاته الواسعة مسؤولية أخرى لا يقل حجمها ثقلا عن مهامه القانونية. وهي مسؤولية إنقاذ ماء وجهه بتدبير ما استعصى عليه من ملفات ملتهبة وتهدئة الأجواء المكهربة.
وبهذا الإجراء غير المبرر يكشف العثماني عن حنينه الدفين إلى الوزارة التي كانت تلقب في سنوات الجمر والرصاص ب"أم الوزارات"، تحت إمرة رجل النظام القوي، وزير الداخلية الراحل ادريس البصري، لما كانت تتميز به من سطوة وتدخل في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الرياضية، وتلعبه من أدوار في الترهيب والقمع وتكميم الأفواه، التحكم في صناعة الأحزاب السياسية والخرائط الانتخابية وتشكيل الحكومات على المقاس. فلم هذا الإصرار على العودة بها إلى ما قبل إقرار دستور 2011، الذي قلص نفوذها ومنح رئاسة الحكومة صلاحيات واسعة؟
نعم هناك عدد من المهتمين بالشأن السياسي يؤكدون على أن وزارة الداخلية مازالت تبسط هيمنتها، وستظل كذلك ما لم تتغير العقليات ويتم استكمال الانتقال الديموقراطي، حيث أنها تشكل حلقة أساسية في سيرورة النظام العام على المستوى الأمني وغيره. والعثماني وصحبه يزكون ذلك ويريدونها أن تواصل دعمهم، معتبرينها ظل "الدولة" الذي بدونه تشتعل الحرائق وتعم الفوضى والهلع ويضيع "مجدهم" أيضا. ولنا أفضل مثال على ذلك في صيحة "عيطو للدولة" التي أطلقها كبيرهم السابق وذو أكبر معاش استثنائي عبد الإله ابن كيران، عندما وجد نفسه محاصرا في مدينة وجدة خلال شهر مارس 2016 من قبل الأساتذة المتدربين، الذين كانوا يطالبون بإسقاط المرسومين المشؤومين. كما يحفظ له التاريخ قبل هذا الحدث الساخر مراسلته المثيرة لوزير الداخلية ادريس البصري في مارس 1986، التي يلتمس منه عبرها الترخيص لإخوانه بتأسيس حزب سياسي بالقول: "إننا نأمل أن تتداركنا عناية الله على أيديكم"، وكان أن تأسس الحزب فعلا داخل منزل "البصري"، ليخوض غمار أول انتخابات تشريعية خلال عام 1997.
فلا غرو أن نجد اليوم خلفه العثماني يستنجد بوزير الداخلية الحالي في أكثر من "حصلة"، لإيمانه الراسخ بما لأم الوزارات من "قوة" في تسوية الحالات المستعصية، بعد فشله في أداء مهامه الدستورية، وعجزه الواضح عن تدبير الخلافات ومعالجة عديد الملفات، ومن بينها ملف الحوار الاجتماعي الذي ظل يراوح مكانه منذ اتفاق 26 أبريل 2011 بسبب تعنت سلفه ابن كيران، الذي لولا تدخل عبد الوفي لفتيت
عندما كان ما يزال واليا على جهة الرباطسلاالقنيطرة، ما كان لملف الأساتذة المتدربين أن يجد طريقه إلى الحل.
هكذا تتضح جليا ثقة البيجيديين العمياء ب"دار المخزن"، إذ أنه في ظل أجواء التوجس وانعدام الانسجام بين أحزاب التحالف الحكومي، وعدم القدرة على ابتكار الحلول الناجعة للإشكاليات الكبرى، وما يترتب عنها من توتر وتصاعد موجة الاحتجاجات. ارتأى العثماني كما سلف الذكر أن يجعل من وزير الداخلية إطفائيا لنزع فتيل الاحتقان وإخماد النيران، لاسيما بعد أن بلغ الحوار الاجتماعي إلى الباب المسدود. وهو ما اعتبره البعض تراجعا عن أهم اختصاصاته الأساسية، فيما هناك من يرى أن من حقه تفويض أي وزير في تدبير ملف ما، اعتمادا على الفصل 93 من الدستور الذي ينص على مسؤولية الوزراء في تنفيذ السياسة الحكومية، كل في القطاع المشرف عليه وفي إطار التضامن الحكومي.
قد يقول قائل بأن نجاح وزير الداخلية في الدفع بالحكومة إلى توقيع اتفاق مع المركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب يمتد لثلاث سنوات، إنهاء أزمة الأساتذة "المتعاقدين" وإنقاذ الموسم الدراسي من "سنة بيضاء"، هو نجاح للحكومة ورئيسها وللبلاد والعباد. لكن دعونا نتساءل قليلا: ألا يسيء مثل هذا "التفويض" إلى الوثيقة الدستورية وصورة مؤسسة رئاسة الحكومة؟ ثم إذا كان لا بد من ذلك التفويض لقوة قاهرة، لم لا يعهد به إلى لجنة بين وزارية متوازية أو بوزير التشغيل محمد يتيم، باعتباره الأقرب إلى ملفات الشغيلة المغربية؟
إن إخراج بلادنا مما باتت تتخبط فيه من أوضاع كارثية، لا يحتاج إلى معجزة حقيقية بقدرما يحتاج فقط إلى مراجعة المعايير المعتمدة في انتقاء الوزراء المقتدرين، وحكومات قوية ومنسجمة، تقودها شخصيات في مستوى تحمل المسؤولية من حيث التحلي بالحكمة وامتلاك القدرة على الحوار والتواصل وتدبير الخلاف والأزمات واستشراف آفاق المستقبل والكفاءة المهنية والخبرة الواسعة، بما يؤهلها لأداء صلاحياتها في ظروف جيدة وتحقيق آمال وأحلام المواطنين.