لقد عرفت اليابان ظاهرة تسمى "الكاروشي" وهي ظاهرة يرجع تاريخها إلى ما بعد نهضة ميجي (1868) وما تلا ذلك من ثورة صناعية كان شعارها الاستمرار في العمل لساعات طوال من أجل زيادة الثروة والإنتاج الصناعي بهدف التخلص من التبعية الغربية، وهي خلفية ثقافية واجتماعية لا زالت تسيطر على الفكر العمالي باليابانحيث بدأت سلبيات هذه الظاهرة تظهر منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي فقد تحولت إلى مرض يتسبب في موت العديد من العمال (حوالي ألف عامل كل سنة) وذلك بسبب ضغوط العمل وساعات العمل الطويلة التي تدخل بالعمال في حالة اكتئاب حاد تتطور حدته إلى درجة انتحار العامل معتقدا أنه سيتخلص من هذه الوضعية التي وصل إليها، ورغم أن السلطات العموميةوالشركات قد اتخذت مجموعة من الإجراءات (إقرار قانون تشجيع التدابير الوقائية لمنع حدوث الكاروشيسنة 2014) كالتقليص من ساعات الشغل أو قطع التيار الكهربائي على العمال أو تخصيص يوم الجمعة من كل شهر للترفيه على الموظفين والعمال، إلا أن ثقافة حب العمل والتفاني في أدائه لم تسعف في تجاوز هذه الوضعية، وبقي الحال على ما هو عليه مع تطوير في الوسائل والآليات لمواجهة سلبيات هذه الظاهرة. إن الوضعية التي يعاني منها العمال اليابانيون بسبب أدائهم لشغلهم وثقافتهم العمالية لا نجد لها مثيلا في الدول العربية وعلى الخصوص المغرب الذي له ثقافة عمالية تتسم بطابع مميز طابع النفور من العمل والبحث عن أشغال مريحة هي ثقافة التكاسل والركون إلى الراحة والبحث عن ريع التعويضات والسفريات وغيرها من الامتيازات هي سمة تغلب على القطاع العام (الإدارة العمومية) وهو ما لخصه الملك محمد السادس في خطابه بتاريخ 29 يوليوز 2017 بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لتربعه على العرش إذ جاء في مقتطف من هذا الخطاب:
"... أما الموظفون العموميون، فالعديد منهم لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم ، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية.
بل إن منهم من يقضون سوى أوقات معدودة، داخل مقر العمل، ويفضلون الاكتفاء براتب شهري مضمون، على قلته، بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي..."
من جهة أخرى نجد القطاع الخاص ورغم اتسامه بطابع النشاط والحيوية والقدرة التنافسية والكفاءة، إلا أن هناك فئة من العمال غالبا ما تكون ضحية الاستغلال نظرا
للنظرة الاقتصادية لدى المقاولةفي تدبير مواردها البشرية والبحث عن تقليص تكاليف الإنتاجوالبحث الدائم عن تحقيق أرباح مضاعفة ولو على حساب الوضعية القانونية لفئة العمالواستقرارهم في الشغل (التحايل على القانون من خلال تشغيل عمال القطاع السياحي بموجب عقود شغل محددة المدة متكررة بعد فترةانقطاع) وظروف الاشتغال الصعبة واستعمال مواد خطيرة (عمال القطاع الفلاحي، والقطاع المنجمي وقطاع الفوسفاط) وساعات عمل طويلة (اشتغال فئة حراس الليل ل 12 ساعة متوالية) وعدم توفير تأمين عن حوادث العمل أو تعويضات عن الأعمال الشاقة والملوثة أو الساعات الإضافية (مياومي وأعوان الجماعات الترابية) وعدم توفير وسائل نقل ملائمة للعمال (موت عاملات نتيجة حوادث السير)، زد على ذلك استغلال الوضعية الهشة لفئة العمال المهاجرين المنحدرين من جنوب إفريقيا (تشغيلهم في بعض الأنشطة الفلاحية ذات الطابع الموسمي وفي الأشغال العمومية والبناء)
لقد وضع تشريع الشغل المغربي مجموعة من القواعد والآليات التي يمكن من خلالها تجاوز هذه الوضعيات كتحديده لساعات الشغل العادية وتقييده هامش حرية المقاولة فيالزيادة في ساعات الشغل أو تقليصها وتنظيمه ساعات الشغل الإضافية، كما حدد الأعمال التي لا يجوز على بعض الفئات أن تباشرها نظرا لوضعيتهم الصحية والفيزيولوجية بل عمد المشرع مؤخرا إلى تنظيم مجال اشتغال فئة العمال المنزليين إلى غيرها من المقتضيات لا يتسع المجال لعدها، غير أن الهوة الشاسعة بين النص والواقع وتخاذل السلطات العمومية في ملائمة تشريع الشغل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد بعد مرور حوالي ستة عشرة سنة على إقرار مدونة الشغل، وعدم توفير الوسائل والإمكانيات اللازمة من أجل مباشرة مفتشية الشغل لاختصاصها الرئيس المتمثل في مراقبة تطبيق تشريع الشغل، وتهاون الهيئات النقابية في الترافع عن حقوق فئة العمال والضغط من أجل تحسين ظروف الاشتغال وإقرار قوانين تنسجم والوضعية الراهنة وإخراج قانون الإضراب الذي طالت مدة احتضانه، كلها مسائل ساهمت بشكل أو بآخر في أن تشهد بلادنا كاروشي مغربي دو طابع خاص هو لا يؤدي إلى الموت المريح للعامل نتيجة اشتغاله لمدةعمل أطول وإنما يؤدي به إلى الموت البطئ المملوالممنهج، موت الكفاءة موت العزيمة والنشاط موت القدرة على الفكر والاجتهاد الخلاق موت للإبداع البشري الذي أودعه الله ببني البشر، ففي اليابان موت للذات البشرية المولدة للعزيمة والكفاءة(روح بلا جسد)، وفي المغرب موت للكفاءة وبقاء للذات (جسد بلا روح).