يحتفي الشعب المغربي قاطبة، وفي مقدمته أسرة المقاومة وأعضاء جيش التحرير (18 يونيو 2019) بالذكرى 65 لليوم الوطني للمقاومة، الذي يقترن بذكرى استشهاد المقاوم البطل "محمد الزرقطوني" بتاريخ 18 يونيو 1954، وبالذكرى 63 للوقفة التاريخية لجلالة المغفور له "محمد الخامس" على قبر الشهيد، وهي مناسبة وطنية، لا يمكن البتة، اختزال معالمها في ما تعرفه فضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير عبر التراب الوطني، من أنشطة ثقافية وتربوية متعددة المستويات (لقاءات ثقافية، موائد مستديرة، ورشات معرفية وتربوية، عروض ومحاضرات، لقاءات علمية، مهرجانات خطابية، مسابقات ثقافية...)، ولا يمكن حصرها في مجرد استحضار أرواح شهداء وأحرار الوطن والإشادة بما صنعوه من تضحيات نضالية، وما حققوه من بطولات خالدة، دفاعا عن الوطن ومقدساته .. هي مناسبة وطنية سنوية لابد أن تتجاوز حدود الاحتفال الروتيني، لنجعل منها فرصة سانحة، تسمح بالتموقع في زمن الحماية، ليس من باب الحنين أو النوستالجيا التاريخية، ولكن من أجل تلمس ما تخللها من قيم وطنية وإدراك ما ميزها من بطولات نضالية، ومن دروس ورسائل واضحة المضامين في الوطنية الحقة .. "تموقع" يسمح لنا بالسفر المجاني بين محطات واقع استعماري حكم على الشعب المغربي بكل أطيافه أن يعيش بين مطرقة الاستغلال القاتل والعنف الهمجي لمدة ناهزت 44 سنة، وهي مساحة زمنية ليست بالهينة، أحرجت سلطات الاستعمار في الكثير من المحطات وأربكت حساباتها وبعثرت أوراقها وفضحت مؤامراتها ومخططاتها الجبانة، بفضل مواطنين شرفاء أحرار، حركتهم مشاعر الوطنية الصادقة ودفعتهم أحساسيس الانتماء إلى الوطن، وتصدوا للمستعمر بكل الوسائل النضالية الممكنة دفاعا عن الأرض وإخلاصا ووفاء للثوابت الوطنية، سواء في مرحلة المقاومة العسكرية التي قادها زعماء كبار لازال التاريخ يحفظ ذكراهم من أمثال "موحى أوحمو الزياني" و"أحمد الهيبة" و"مربيه ربه" و"عسو أوبسلام" و"محمد بن عبدالكريم الخطابي"، أو في مرحلة المقاومة السياسية التي قادتها الحركة الوطنية في المدن ابتداء من مطلع الثلاثينيات بزعامة نخبة من المثقفين الذين جعلوا من النضال السياسي السلمي، "استراتيجية" لمواجهة السياسات الاستعمارية الظالمة، والكشف عن سوءة نواياها ومخططاتها .. ويكفي تأمل الملاحم البطولية التي رسمت معالمها المقاومة العسكرية بالبوادي، والتي واجهت المستعمر بجرأة وشجاعة وبسالة منقطعة النظير، رغم ضعف ومحدودية الوسائل والمعدات، وحققت انتصارات في الكثير من المواقع (الهري، أنوال، بوكافر ...)، ويكفي استحضار ما عاناه قادة الحركة الوطنية من مضايقات واعتقالات، لم تمنع من إدانة الممارسات الاستعمارية ورفع المطالب الإصلاحية (برنامج الإصلاحات) في مرحلة أولى، والمطالبة بالاستقلال في مرحلة ثانية، دون إغفال ما عاناه المجتمع المغربي في البوادي كما في المدن، من ظلم وتجويع وتشريد وعنف وتقتيل، صور وأخرى لا يسع المجال لرصدها يمكن اختزال معالمها، في حدثين بارزين، أولهما: محاولة السلطات الاستعمارية تنزيل ما يعرف بالظهير البريري(16 ماي 1930) تطبيقا لمبدأ "فرق تسد"، مما أجج غضب المغاربة الذين خرجوا في احتجاجات واسعة النطاق، تنديدا بالظهير المذكور، الذي تحكم فيه هاجس التفرقة بين مكونات المجتمع المغربي، وثانيهما: ثورة الملك والشعب" (20 غشت 1953) التي اندلعت شراراتها بعد مؤامرة نفي السلطان "بن يوسف"والأسرة الملكية، وتنصيب سلطان بديل له، مشكلة "عروة وثقى لا انفصام لها" بين "ملك" مجاهد، و"شعب" وفي مناضل، تقاسما معا هم الوطن وتوحدا في الدفاع عنه بكل السبل والإمكانيات المتاحة .. وإذا كان "اليوم الوطني للمقاومة" يقترن بذكرى استشهاد المقاوم البطل "محمد الزرقطوني" بتاريخ 18 يونيو 1954، فما هو إلا مرآة عاكسة لمقاوم، أدى الأمانة بوفاء وإخلاص فداء للوطن، شأنه في ذلك شأن مرافقيه في الكفاح والنضال، قبل أن يلقى ربه شهيدا يوم 18 يونيو 1954 على خلفية اعتقاله من قبل السلطات الأمنية الاستعمارية، مفضلا الشهادة، بدل إفشاء أسرار المقاومة، مقدما بذلك، درسا في الوطنية الخالصة والتضحية والوفاء والإخلاص للوطن، دون انتظار مكسب أو عطاء، وبفضل "الزرقطوني" ومن رافقه من المقاومين الشرفاء والأخيار والأحرار، وبفضل بطولات "مقاومين" بسطاء لم ينصفهم التاريخ، وصل إلينا الوطن حرا سليما معافا .. وبين الأمس واليوم، مساحات زمنية شاسعة، رسمت وترسم ملامح "وطن"يرمى كل يوم، بنيران صديقة من قبل رجالات وأبناء، يختزلون المواطنة في المكاسب والكراسي والريع وتسلق الدرجات، والركض وراء الخيرات والعبث، وإشاعة مفردات التفاهة والانحطاط والسخافة، ويكفي النظر إلى ما يعرفه المشهد السياسي من ارتباك وعبثية وحروب خفية ومعلنة بين الخصوم والمنافسين السياسيين، ليس من أجل الوطن ولا من أجل الإسهام الجماعي في رقيه وازدهاره، ولكن من أجل الانتصار للمصالح السياسوية الضيقة، التي تتحكم فيها المرجعيات والولاءات، والرغبة الجامحة في تسلق الدرجات، مما أفسد ويفسد السياسة، التي أصبحت مطية لكل مهووس بالجشع ومسكون بالطمع، وأيضا ما نتلمس في المشهد الإعلامي، من ممارسات غير مسؤولة، أفرغت المهنة من محتواها ومن قيمتها كسلطة رابعة، يعول عليها من أجل إشاعة ثقافة التميز والرقي والإبداع والجمال .. صور من ضمن أخرى، كرست وتكرس واقعا، تراجعت فيه المواطنة إلى مستوياتها الدنيا، في ظل انحطاط القيم وتراجع منظومة التربية والتكوين، وفشل أو تراجع أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية (أسرة، مدرسة، أحزاب سياسية، مجتمع مدني ...) في القيام بما تقتضيه واجبات المواطنة، من تأطير للناشئة وتسليحها بالقيم الوطنية وروح الانتماء إلى الوطن، وما أحوج الوطن اليوم، إلى رجال أحرار أوفياء شرفاء، يضعون "الوطن" في صلب اهتماماتهم وقضاياهم، من أمثال رجالات المقاومة والحركة الوطنية وأعضاء جيش التحرير، الذين قدموا دروسا واضحة المعالم في التضحية والوفاء والإخلاص للوطن وللمؤسسات والثوابت الوطنية .. لكن، وفي ظل ما يتهدد الوطن من عبث وتهور وفساد متعدد الزوايا، لايمكن البتة، البكاء على أطلال الماضي، أو الاكتفاء بالنوستالجيا التاريخية، من مسؤوليتنا جميعا، الحرص على حماية الوطن من السواعد الفاسدة ومن العيون المتربصة بالكراسي والمناصب والدرجات، عبر الحرص على تعقب العابثين والفاسدين والمنحطين، من واجباتنا أن نترصد لكل من يخون الأمانة وينتهك الحرمة ويعبث بالشأن والهمة، من أجل "وطن" يعد "أمانة" في أعناقنا، لامناص من صونها والمحافظة عليها، وهذا لن يتأتى إلا بتطبيق القانون بشكل عادل ومنصف ومحاربة الفساد والريع وربط المسؤوليات بالمحاسبة، لقطع الطريق أمام صناع التهور والعبث والانحطاط .. وإذا كان رهان التحرر والاستقلال، قد تحقق على أرض الواقع، بفضل التلاحم المتين بين "الشعب" و"العرش"، فلا يمكن كسب الرهانات ومواجهة التحديات، إلا بتعزيز "العروة الوثقى" بين"الشعب" و"الملك" في بلد التنوع والاختلاف، والالتفاف حول العرش، هو التفاف حول الوحدة والأمن والاستقرار، وهي مرتكزات، أسست للدولة المغربية وضمنت استمراريتها لقرون خلت، عسى أن تشرق شمس رجالات، يساهمون في بناء صرح الوطن، بتضحية وصدق وإخلاص وتضحية ومحبة وصفاء، دون انتظار كرسي أو مكسب أو ريع أو عطاء، وفي ظل هذا الوضع المقلق، فعزاؤنا، هو تواجد مواطنين صادقين، لا يتهاونون و لا يتقاعسون من أجل الوطن، ولايترددون في خدمته والدفاع عن قضاياه العادلة، في الداخل كما في الخارج، وهي فرصة سانحة للترحم على أرواح وشرفاء وأخيار وأحرار الوطن ، ولتحية كل"وطني" يؤدي الأمانة بمحبة وإخلاص في الأمن والجيش والتعليم والإدارة وغيرها من القطاعات ..
ومن أجل الوطن كتبنا، ومن أجله سنكتب، ليس في جعبتنا سوى "قلم حر"، لا تتحكم فيه مرجعيات ولا هواجس ولا ولاءات، إلا مرجعيات وهواجس و ولاءات الوطن، الذي نتمناه وطنا، حرا، سليما، معافا، يمشي قدما نحو الرخاء والازدهار ، وإذا كان نضال الأمس، قد مكن من كسب رهان التحرر والانعتاق من قبضة الاستعمار، فإن نضال اليوم، لابد أن يتركز حول، محاربة الفساد والريع والعبث، وإصلاح منظومة التربية والتكوين، التي تعد حضنا دافئا للمواطنة والقيم الإنسانية المشتركة، ولكل مهووس بالجشع ومسكون بالريع وتسلق الدرجات، نقول بكلمات بارزة : اتق الله في وطن ضحى من أجل الأجداد، وحاول قدر الإمكان أن تتٍرك "بصمة" إيجابية في سجل الوطن، لأن "الرحيل" قدر حثمي، وطوبى لمن رحل، وأخلص للوطن في السر والعلن .. لك الله يا وطن ..