في إحدى المقابلات الإعلامية أكد رئيس الحكومة المغربية السابق السيد عبد الإله بن كيران أنه هو من قام بخطة إصلاح التقاعد القائمة على الاقتطاع من أجور الموظفين ورفع سن التقاعد، وأنه هو من قام بإصلاح صندوق المَقاصة، عبر رفع الدعم عن مجموعة من المواد الأساسية على رأسها الغاز و البنزين، ليرتفع سعر المحروقات، ومعه كل المواد الغذائية، وأنه هو من قام برفع فاتورة الماء والكهرباء، و قام بكل تلك الإصلاحات التي تبعتها ضجة كبيرة، بما فيها إقرار نظام التعاقد في التعليم، و أردف السيد ابن كيران قائلا : إن كل هذه الإصلاحات فعلتُها لصالح المغاربة، وأنا فخور بذلك !! بالرجوع إلى الثمانينيات من القرن الماضي عرف المغرب أزمة اقتصادية خانقة، أدت به إلى نهج سياسة التقشّف، وفرض نظام إعادة التقويم الهيكلي، التي أدخلت المغرب في فترة ركود طويلة، كان المتضرر الكبير منها بشكل مباشر قطاعي التعليم والصحة، فقد تم إهمالهُما بشكل كبير ومُستهدف لدرجة أصبح معه إهمالهما أمرا طبيعيا وموروثا في تعامل الوزارات والحكومات المتعاقبة، وحتى حينما توجه المغرب إلى صندوق النقد الدولي والمؤسسات المانحة، كانت سياسة التدابير ذات الأولوية غائبة تماما في إصلاح منظومة التربية والتعليم و هيكلة قطاع الصحة، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع، وتكرار عمليات الاستدانة ، التي بدورها كان يصحبها مضاعفة شروط و إرشادات صندوق النقد الدولي، الذي بدأ يتدخل بشكل مباشر في الشأن الداخلي للدولة، بداية من الدعوة إلى خصخصة مجموعة من القطاعات الحيوية، كان أبرزها محطة التكرير والتصفية – لاسامير- وصولا إلى التدخل في صياغة مشروع تربوي وطني – كالميثاق الوطني للتربية والتكوين- و الذي جاء مستندا لشروط صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بتنويع العرض المدرسي وضرب مجانية التعليم، وتنويع طرق التوظيف إلى صياغة التوظيف بالتعاقد، واستمر هذا الضغط، وهذه الشروط ليتواصل طرحه في المخطط الاستعجالي، و الرؤية الاستراتيجية 2015 لإصلاح التعليم -2030 كل ذلك لتأمين قروضه، عبر حمل الحكومة المغربية على إجراءات تقترن بإرشادات و شروط في اتجاه التحرر الاقتصادي، كتحرير صرف الدرهم مثلا، والذي لا يعتبر المغرب مستعدا له لولا الضغط المستمر" لدومينيك ستراوس" المدير السابق للصندوق و"مدام لاكارد" من بعده، فالصندوق ليس مهتما بالتنمية و لا بانتشال الدول الفقيرة، بل بمصالح المؤسسات المالية (عالم الاقتصاد جوزيف شتيغليتزر) الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد.
ولنا في ما جرى باليونان خير دليل، حيث ثم رغم جُهودات الاتحاد الأوروبي للخروج باليونان من الأزمة، الضغط على حكومتها لخوصصة مجموعة من القطاعات، و بيع عدد كبير من جزرها الخلابة لصالح مؤسسات وشركات سياحية خاصة ومشاهير بالوساطة، فالصندوق لا علاقة له بالإحسان والعمل الخيري، بل هو مؤسسة مؤثرة في السياسة والاقتصاد. وبالمُجمل فإن ما ادعى رئيس الحكومة السابق أنه كان إصلاحات شخصية من لدُنه، واجتهادا لصالح الشعب المغربي، لم يكن أبدا كذلك، بقدر ما كان إملاءات من الصندوق، وشروطا للاستفادة من القروض، فشروط الصندوق أقدم بكثير من السيد ابن كيران و أقدم من حكومته وحزبه أيضا، و أنا أعتقد وأخشى أن يكون صندوق النقد الدولي قد تدخل بشكل من الأشكال في صياغة دستور2011، وفي المقال سنتعرض لمجموعة من الدول التي أغرقها الصندوق بشروطه وإملاءاته، في محاولة لإعطاء صورة مماثلة لما يقع وقد يقع بالمغرب في حال لم يستفد من تجربة هذه الدول، فشروط الصندوق لها تأثير كبير في القرار السياسي ما يعجل بحصول كوارث اقتصادية واجتماعية و إنسانية، مثاله ما وقع "بغانا" حيث أصر الصندوق على فرض رسوم على الالتحاق بالمدارس ( ضرب مجانية التعليم ) فكانت النتيجة كارثية، حيث انخفض عدد التلاميذ بمقدار الثلثين، أما "زامبيا" فقد اشترط الصندوق، الحد من الإنفاق على الصحة، ليتضاعف معدل وفيات الأطفال مرتين، كما تم فرض رسوم على زيارة الطبيب في "كينيا" ما أدى لانخفاض زيارات المصابات بأمراض جنسية بنسبة 65%، وما حدث في هذه الدول من دعوة لخصخصة قطاعي التعليم والصحة، و نتائجه الكارثية، يذكرنا بالقولة المشهورة لرئيس الحكومة المغربي السابق السيد عبد الإله بن كيران حينما قال داخل مجلس المستشارين سنة 2014 لقد حان الوقت لترفع الدولة يدها عن قطاعي التعليم والصحة وهذا تعبير لم يكن خاصاً بالسيد ابن كيران، بقدر ما كان تعبيرا خاصا بصندوق النقد الدولي على لسان ابن كيران فقط. وفي المقابل فإنني استغرب، اتجاه الحكومة المغربية نحو عدم تعلم الدروس من دول نجت من إملاءات الصندوق المجحفة، إلى النهوض باقتصادها واستغلال مواردها البشرية وثرواتها الطبيعية، ومصالحتها وطنيا مع جميع الأطراف من أجل تنمية استراتيجية متكاملة، لاسيما و أن المغرب ذو ثروات وموقع ومكاسب جيواستراتيجية تاريخية، وثابتة، ويمكنه عبر استغلالها أن يؤسس لنهضة حقيقية، ولنأخذ العبرة والمثال من دول نجحت في تخطي صندوق النقد الدولي وإملاءاته :
1- النموذج الأول "ماليزيا" : في أواخر التسعينيات وبالضبط سنة 1997 ، انهار اقتصاد جنوب شرق آسيا – لتتجه أغلب دوله الأعضاء مثل : تايلاند و إندونيسيا و كوريا الجنوبية إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، إلا ماليزيا، فرغم انهيار عملتها "الرينجيت" و تحطم سوق الأسهم، والاحتياطي النقدي، رفضت اللجوء إلى الصندوق، واختارت أن تشق طريقها نحو العافية بنفسها، بقيادة الرئيس "مهاتير محمد" الذي قام بإجراءات فورية اعتمدت على : فرض ضوابط العملة على حساب رأس المال . إلغاء التداول على "الرينجيت" خارج البلاد . تجميد تخارج الأجانب من محافظهم المالية لمدة عام. إحداث برنامج وطني للتنمية. كما قامت ماليزيا بخفض نسبة الفائدة، خلافا للدول المستفيدة من الصندوق والتي رفعت نسبة الفائدة كشرط لصندوق النقد الدولي، لتأتي النتيجة مبهرة. فبعد انكماش نسبته %7.5 جاء نمو نسبته 5,4% في عام واحد، لتحتل ماليزيا اليوم المركز الرابع في اتحاد جنوب شرق آسيا، والمركز 35 عالميا.
النموذج الثاني : البرازيل : في ثمانينيات القرن الماضي غرقت البرازيل في ديون صندوق النقد الدولي، واضطرت لتنفيذ الشروط والإملاءات الضيقة، بعد جهود طويلة للخروج من الأزمة، وانهيار سوق العملة، وارتفاع التضخم، فاستجابت البرازيل مقلصة القطاع العام، عبر خصخصتها، أو تفويتها، أو إحالتها على مؤسسات أخرى، و سرحت الملايين من الموظفين والعمال، و وصل الأمر إلى أن تدخل الصندوق في صياغة دستور البلاد، ما أشعل احتجاجات واسعة. و في منتصف التسعينيات كان %1 يستحوذون على 50% من الدخل القومي، و %20 يستحوذون على %80 من الثروة، ما أجّج فتيل الاحتجاجات بالبلاد ليصل إلى السلطة في خضمّ هذا الوضع رئيس جديد انتخبه أغلبية الفقراء سنة 2002،هو: لويس لولا دا سيلفا، هذا الرجل لم يأتي بمعجزة، لكنه جاء بفكرة حققت معجزة في أقل من عشر سنوات، حيث انتهج سياسة تقوم على دعم الزراعة والصناعة المحلية، وتوفير دعم للأسر الفقيرة شريطة أن يقوموا بتعليم أبنائهم، كما أدار عجلة التكوين وبناء المؤسسات التعليمية، وتعميمها، والحرص على تكوين الموارد البشرية في القطاعات ذات الخصاص، لتنهض الدولة تدريجيا وبشكل متسارع، وتفاجئ البرازيل صندوق النقد سنة 2005، بسداد 15.5 مليار من ديونها، قبل الموعد المحدد بعامين، موفرة بذلك 900 مليون دولار كفوائد، كما ارتفعت الأرقام و المؤشرات في غضون 4 سنوات فقط، و ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من %1.1 إلى 6.7% ، و انخفض التضخم من %14.7 إلى 3.6 ، وتراجعت البطالة من %13.7 إلى %10.9، لتتوج البرازيل نجاحاتها في العشر أعوام التالية، بخروجها من صندوق النقد الدولي، ويحتلَّ اقتصادها المرتبة 9 عالميا.
النموذج الثالث : مالاوي : لم تكن "مالاوي" الدولة الأفريقية أحسنا حالا، ففي التسعينيات تعرضت "مالاوي" لمشاكل اقتصادية حادة بعد انتشار وباء الإيدز ما اضطرها لطلب قروض من الصندوق الذي اشترط : خصخصة القطاع العام بالكامل تقليص الإنفاق على المواطنين . رفع الدعم عن الأسمدة ( في دولة تعتمد أساسا على الزراعة) و في 2001 أجبرها على بيع احتياطي الحبوب المخصص للطوارئ، لتسديد فوائد القروض، وفي العام التالي مباشرة تعرضت الدولة لواحد من أسوأ المجاعات في تاريخها بعد التخلي عن احتياطي الحبوب، وفي ذروة المجاعة أوقف الصندوق قرضا بقيمة 47 مليون دولار، بعد تباطؤ الحكومة في "الإصلاحات". لكن الدولة الإفريقية الصغيرة لم تستسلم، و في غضون عامين حولت "مالاوي" معاناتها إلى حافز إنتاجي، و مجاعتها إلى عافية اقتصادية، وبدأت مالاوي في استغلال ثرواتها الزراعية وتصديرها، إلى أن استطاعت أن تقف على قدميها وتبدأ في تسديد قروض الصندوق.
إن استعراض هذه النماذج ليس للعبرة فقط، أو إظهار حقيقة صندوق يُعلن هو عن وجهه الإمبريالي الرأسمالي المتوحش، بل هي نماذج يُحتذى بمجهودها لإيجاد طرق للخروج من الأزمة، وحتى إذا كان المغرب يدّعي أنه سيأخذ احتياطاته خلافا لهذه الدول، و سيكون في مأمن من المأزق، عبر خطط يعتبرها موازية واستراتيجية، فإن عليه أن يعرف أن خططه الاستراتيجية لم ولن تكون استراتيجية، إلا حينما ينفرد في اتخاذ قراره بنفسه، مستقلا عن أي إملاء أو شرط، فالمغرب مثلا يستعد لتحقيق شرط فرض رسوم مادية في السلك الثانوي التاهيلي، والجامعة، استعدادا لتسليم الجامعات إلى الأكاديميات الجهوية، في ظل ما يعتبره خيارا جهويا استراتيجيا، وهو يعرف أن هذا سيسبب احتقانا كبيرا، لكنه يراهن، على تبديد هذا الاحتقان، في توجيه تلاميذ السنوات الإعدادية نحو خيار التكوين المهني، الذي أصبح مغريا في إطار الخصاص المهول في الأطر التقنية في مجالات كثيرة، فمجال التكوين المهني أصبح مغريا للكثيرين، أمام هزالة التكوين الجامعي و نتائجه الكارثية التي تسارع بالمتخرجين منه نحو أكوام البطالة، وهذه سياسة رطبة وناعمة، لتقليل عدد الوافدين نحو الجامعات، ومنه التحكم وتحديد عدد المتخرجين منها مستقبلا، لكن هذه الخطط والإجراءات في مجال التعليم لن تفيد مستقبلا في إقناع شعب يؤمن بمسلمات ما قبل الاستقلال، ومكتسبات ما بعده، كما أن اعتماد مبدأ الجهوية في قطاعات حساسة كالتعليم، تنفيذا لمخطط الخوصصة المتدرجة للقطاعات العمومية، عبر تسليمها زمام أمرها، و إعطائها استقلالا ماديا واستثماريا، تصبح معه مواردها المادية والبشرية، عرضة للبيع والاقتناء، وهذا مرفوض بتاتا في قطاعين أساسيين كالتعليم والصحة، فالتعاقد أو التوظيف الهش، أو المحدود، أو المشروط بشروط غير متكافئة، في قطاعي التعليم والصحة يكرس لمبدأ انعدام الثقة في مؤسسات الدولة، ما سيؤدي حتما لصدام مُحتدم بين الدولة وبين المواطنين، وبين مكونات المجتمع التي يعاني أغلبه من البطالة، و يعاني آخرون فيه من هشاشة التوظيف، فيطمع هذا في مأساة ذاك، و يلعن الآخر ما هو فيه، وهذا طبعا يُكرس لتفشي الانتهازية، وعدم احترام القانون، وشروطِ القانون، وهذا ما نَلحظه بشكل واضح في الشارع المغربي اليوم، حيث يتم القفز على قوانين و خرق شروط يفرضها القانون، فقط لأنها صيغت بشكل مُتعنت ومُنفرد، ومستعجَل، ولم يُعتمد فيها على حوار وطني، ومشاورات بين مختلف هيئات المجتمع المدني والتربوي، و هذا إشكال حقيقي، وتناقض كبير مع دعوى الحوارات الوطنية الاجتماعية، إننا بحاجة إلى بعد النظر، وإلى تغليب المصلحة العامة، وتوفير السبل الكفيلة بتجاوز الأزمات، بدل تعميقها، أو تركها تتفاقم على حساب مبررات أكثر ما يمكن القول عنها أنها مبررات لا وطنية، ولا تمت للمسؤولية الحقيقية بصلة، فماذا سيحدث لو عصى المغرب إملاءات صندوق النقد الدولي ؟؟ وماذا سيحدث إن خالفها وانحاز إلى جانب شعبه، واختار طريق النهضة الذاتية بكل إصرار، بدل أن تلقي كل حكومة ووزارة شماعة فشلها على سابقاتها، أو نستورد مستعمرين جدد في ثياب النصح مثل الفرنسي "بلانشي" ممثل بعث صندوق النقد الدولي لدى المغرب، الذي يؤكد لنا ضرورة التعاقد في القطاعات العمومية من أجل الإصلاح، في ظل فشل بلاده في اعتمادها نفس هذا النوع من التوظيف!! فهل ينصحنا أم يورطنا لصالح تضاعف شرط القروض التي تجاوزت سقف 1043 مليار درهم، و أطماع الشركات الفرنسية الخاصة التي تلتهم اليوم نصف المؤسسات المغربية المعروضة للخصخصة.