لماذا الخوف من التغيير ؟ وهل نحن في حاجة إلى تغيير الثقافة أم ثقافة التغيير ؟ كيف تتحقق دولة الحق والقانون في واقعنا ؟ مخاوف عالقة في أذهان الفاعل السياسي والقوى المحافظة وذوي المصالح والامتيازات في بناء الدولة المدنية . في تاريخنا هناك سياسة الرفض للإبداع والتجديد من كل فكر دخيل إلا في حدود الممكن وما يتناسق أو يتوافق والبيئة الثقافية والاجتماعية والأغراض المادية . ثنائية الانبهار والنفور قوية في العلاقة بالآخر . ترسبات الماضي البعيد والقريب لا زالت تفعل فعلها في اللاوعي الجمعي وتوجه السلوك والمواقف نحو المعايير المقبولة والأفكار المناسبة .تاريخنا حافل بالصراعات بين البداوة والحضارة. التسلط والعدل . النزاعات الطائفية والمذهبية والحزبية وحالة التحضر . تقابل بين الحديث والأصيل . تناقضات وتقابلات جمة في واقع منقسم وذهنيات متباينة التكوين والتربية. بنية العقل السياسي العربي حسب محمد عابد الجابري في محدداته ومنها : العقيدة والعشيرة والغنيمة. وفي بنية العقل العربي عموما هناك سلطة ومرجعية البيان والعرفان والبرهان . موجهات للعقل والفعل ومحددات للعمل والسلوك . هيمنة العرفان وليد الثقافة الدخيلة من الجار القريب "بلاد فارس" وسيادة البيان بحكم هيمنة المنطق السائد في الثقافة والبرهان وليد الفلسفة والعلم الطبيعي والمنطق . وفي محددات العقيدة لا تجتمع الأمة إلا بفضل الدين والتدين والقوة التوحيدية في إقناع الناس لاستبدال الدول وإقامة عصبيات جديدة . وفي الفكر الخلدوني معالم واضحة للصراع والغلبة وطبائع البشر ونوازعهم نحو التسلط والتوحش أو التمدن والسكون وخراب العمران البشري في سيطرة البداوة على الحضارة وتدرج البدو في التقويض دون البناء . يمكن استخلاص الفكرة التالية وهي غياب الثورات في الفكر والسياسة والمجتمع على غرار الثورات في المجتمعات الغربية .غياب سلطة العقل الموجه للفعل وغالبا يكون معطلا ويعلوه الصدأ عندما يقصف وعي الفرد والجماعة ولا تنجلي الحرية في كل أبعادها . ففي عمق الأمل يعود المفكر نحو عالمه الذاتي أو يشتغل بالمفاهيم المناسبة ويحاول أن يكيفها في وضع غير سليم للعبور نحو مرحلة البناء والحسم في الاختيارات العقلانية . صراعات ايديولوجية محددة بالمنفعة وما يرمي إليه الفاعل السياسي والقوى المهيمنة على القرار في عالمنا . لا باس أن يكون في عالمنا نزوع نحو الفعل الديمقراطي والدولة المدنية الحديثة. لا يخسر الناس من النماذج المعقولة في السياسة شيئا سوى التنازل عن النزعة الأنانية في الاستفراد بالقرار ومن ثمة التصويب الأمثل للسلطة نحو الشعب .أن تكون السلطة مأمولة النتائج ومنظمة للعلاقة بين الحاكم والشعب .وفي الربط المتين بين المسؤولية والمحاسبة .يعني استنبات أفكار في الجسد الاجتماعي مفيدة في إعادة تشكيل الوعي الجمعي ونقل الجماهير من شراسة الطبع والاندفاع إلى التحضر والتمدن وبناء الإنسان فكريا ووجدانيا وسلوكيا في كل الميادين .فالمشكلة هنا بنيوية ومركبة . يتقدم التحليل ويهفو الأمل في ميلاد مجتمع بالقوانين والقيم الأخلاقية وثقافة الانضباط والواجب .مخاض وعسر ولادة الدولة الحديثة يأتي بالنتائج الحسنة في عبور الإنسان العربي نحو المستقبل وقطف الأجيال القادمة نتائج التحولات السياسية والاجتماعية . فالتوجس من التغيير والخوف المستبطن في أعماق النفوس من ولادة مجتمع ديمقراطي يجعلنا نرتد إلى الوراء في عقود من الاستبداد وغياب السلطة المشتركة .عودة لاستمرار نزوات الحاكم ورغباته الذاتية في الحكم دون ان تكون نابعة من المؤسسات ومن سلطة الأغلبية . فعندما نقرأ في حيثيات العقد الاجتماعي وولادة الدولة الحديثة في القرن السابع عشر بالغرب لا نشكك في رغبة المفكرين ورجال القانون وذوي الميولات السياسية في إقامة الدولة المدنية بالمؤسسات والقانون والقائمة على الحق والمواطنة والانتماء .دولة ملزمة في قوانينها المشروعة والتي وجدت طريقها نحو التعيين والتحقق .عقلانية في قواعدها . ثمرة النضال والصراع في ثورات سياسية ومطالب شعبية في العبور نحو سيادة منطق الحق المدني وحق الناس في اختيار المناسب في السلطة والحكم . والشكل الجديد للدولة تقاومه قوى محافظة في الحفاظ على الامتيازات ومنها دفاع المفكرين عن الحق الإلهي للحاكم المستمد من أصول دينية في رؤى توماس هوبس وروبرت فيلمر وادموند بورك ... ففي عالمنا لازال الفاعل السياسي يقيم المتاريس والحواجز في عدم العبور نحو الحكم الرشيد . وسلطة الأغلبية والتنازل عن حكم التفرد والتسلط كفيلة بناء النموذج المقبول للدولة .دول عديدة بقيت أسيرة الحكم العسكري والموجه بسلطة مركزية حبيسة سياسة تقليدية توارت عن الممارسة في عدة بلدان عرفت ما يسمى بالانتقال الديمقراطي وتطبيق فلسفة العدالة الانتقالية والفصل مع الاستعمار القديم. حاكم يتلذذ بحلاوة السلطة ويأبى التنازل لأطر وطاقات أخرى بدعوى الحربة والخبرة أو بدافع الأمن والخوف على البلاد من الانزلاق نحو الحروب الأهلية والخارجية . فمن عالمنا يخرج الناس للتعبير عن حقهم في أوطان تقودها كوادر من صناديق الاقتراع ومن خيرة الأطر في الأحزاب السياسية وفي المجتمع المدني بصفة عامة . دول من إفريقيا تكابد الصعوبات في إرساء فلسفة جديدة في التناول السلمي للسلطة . من غرب إفريقيا وشرقها محاولة في دعم الأنظمة الديمقراطية ومحاولة استنبات المواطنة والتصالح مع الذات . ومن أمريكا اللاتينية والسيادة على الخيرات وتفعيل شراكة حقيقية بين دولها والغرب . ومن أوروبا الشرقية رغبة اغلب البلدان في الانضمام للاتحاد الأوربي وتعديل إصلاحات جوهرية . في تاريخنا البعيد حروب لا تهدأ في الغزو والغنائم بدافع الدين والتدين أو بدوافع سياسية واجتماعية في تصريف الأزمات الداخلية للخارج وخلق متنفس للحاكم من الصراعات والقلاقل . وفي ميلاد الدول بالعصبية والحمية القبلية والتغلب وتجميع القبائل من فكرة معينة في الجهاد والرباط وتحصين الثغور وخلق العدو الدائم دون أن تكون هناك عناية في خلق بنيات ذهنية وتحرير العقل من هيمنة مرجعية ما أو سلطة ثابتة وتحرير النفوس من البداوة وثقافة الاندفاع وبالتالي بقي الفكر يراوح ذاته في التعليل والتمجيد للماضي البعيد أو في ظل الرفض والمنع لكل ما هو دخيل ومفيد في بناء الأمة على عقلانية منفتحة أو قواعد معقولة في إدارة الأوطان . وفي التاريخ القريب خرج الاستعمار وبقيت ثقافته. مخاض ميلاد الدولة الحديثة يستمر في أعقاب الحراك الاجتماعي والسياسي وتلك المطالب التي تعالت لإرساء الدولة الديمقراطية المدنية وإعادة النظر في الأدبيات السائدة في العبور نحو السلطة المشتركة وتفعيل قوانين المراقبة والمعاقبة وتحييد الجيش من السياسة . وفي أغلب البلدان ظلت المخاوف من التيار المضاد الذي خطف نتائج الحراك في الصعود للسلطة وتحويل مسارات الحراك الاجتماعي في تطبيق أجندات معينة بعيدا عن مرامي الدولة المدنية الديمقراطية . تجربة العدالة والتنمية في المغرب وتجربة الإخوان المسلمين في مصر .والتجربة التونسية في حزب النهضة . وخروج الشعب الجزائري في تحييد الرئيس وإلغاء العهدة الخامسة للرئيس والدعوة لانتخابات وحق الشعب في انتخاب الشخص المناسب للحكم والسلطة. وفي التجربة اليمنية خروج الشعب انتهى إلى هيمنة حركة الحوثي ودخول اليمن في حروب بالوكالة وتدخلات مباشرة . وفي العراق ميلاد الدولة يقابله صراعات حزبية وتغلغل المذهبية والطائفية في السياسة بشكل مباشر أو غير مباشر . هكذا يعيد التاريخ نفسه في عالمنا . وعندما تفرض المفاهيم من سياق الفكر الغربي تعترض التيارات المحافظة على جوهر الفكرة بدعوى أن المفاهيم من تربة مغايرة عن سياق الثقافة المحلية . وان جوهر المشكلة لا يعالج بإسقاط المفاهيم العلمانية التي تعتبر وليدة تطور الغرب الأوربي . ويبقى مخاض ولادة الدولة الحديثة تشوبه عراقيل وعوائق ذاتية في وعي الأفراد . وتمثلهم للمفاهيم والفكر البناء . وفي صحوة الناس بالحاجة إلى ميثاق جديد يضمن التناول السلمي للسلطة والعبور نحو إقامة الدولة بالقوانين والمؤسسات المدنية وتفعيل بنود الدساتير المنظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم . فهناك بالفعل عوائق موضوعية منها التاريخية والاجتماعية والثقافية .واستنبات الديمقراطية في عالمنا يستدعي التربية على الحرية والاختيار من قناعات في التصويت ومحاسبة الفاعل في تطبيق البرامج وتحقيق الأهداف. في بناء الديمقراطية فكرا وممارسة . تتبلور المبادئ من قلب الأسرة والمدرسة والشارع . ومن قيمة الفضاء العمومي في تربية الناس على حرية التعبير والنقاش وإبداء الآراء في قضايا جوهرية دون اللعب على أوتار العامل الديني والخصوصية الثقافية . الدولة الحديثة رهان في تكامل المشروع الفردي والمجتمعي وفي وحدة السياسة والمجتمع . وانسجام رؤية الحاكم بالشعب . تاريخنا مفعم بالإخفاقات وتصلب الرؤى والنزوع نحو القوة . طبائع الناس في استنبات المفاهيم والمبادئ العامة في السياسة من خلال قواعد في الحكم والسلطة. ولادة عسيرة وصعبة في صلابة المواقف وانقسام الوجدان بين الأصالة والتجديد . بين منطق التجديد والخصوصية الثقافية والدينية . والتعارض بين المادي والروحي . الدولة الحديثة التي تبلورت في الغرب القرن السابع عشر كانت ثمرة النضال والاتفاق وفق الشكل المناسب للدولة . نتاج القيم العقلانية وفلسفة الحرية والتنوير بالممكن في عالم السياسة والحكم . والممكن في العبور نحو التقدم .
في مرامي الدولة المدنية الحديثة مكانة الفرد مصانة باعتباره المؤسس الحقيقي للدولة . في اصدق تعبير للفيلسوف باروخ اسبينوزا أن جوهر الدولة الحرية . وليس تخويف الناس أو ترهيبهم والسيطرة عليهم بالقوة والعنف . وفي عالمنا العربي يبقى الصراع قائما في الولادة الشاقة والعسيرة لإزالة الفساد والشطط . والقضاء على كل أشكال التسلط . نماذج في الحكم والممارسة السياسية لا تنطوي على نماذج عقلانية وديمقراطية حقيقية . طموح البلدان في دولة الحق والمؤسسات مبني وفق مرامي التنظيم والتدبير للشأن السياسي والسيطرة على الجماهير الواسعة بإعادة توزيع الأدوار الخاصة بين الدولة والمجتمع المدني . والاحتكام للقانون والمؤسسات والالتزام بالتوصيات والمواثيق الدولية في الحريات وحقوق الإنسان . وبعيدا عن السياسة لا بد أن تكون الدولة الحديثة وليدة الاختيار الحر النابع من قناعة وتربية الشعوب على الحرية والمسؤولية . واختيار الذوات الفاعلة من خلال البرامج والشعارات الهادفة في الحملات الانتخابية . تاريخنا لا يحتوي على نماذج عقلانية في السياسة . فالتأمل في تأصيل المفاهيم وفق بيئتنا محاولات ليس إلا في غياب التوافق والاتفاق بطواعية على مرامي الانتقال نحو بناء دولة ديمقراطية أي هناك صراع القوى والإرادات في ميلاد المجتمع الديمقراطي بقواعد موضوعية .لا بد أن يدرك الفاعل وأصحاب القرار المسؤولية التاريخية في الانتقال نحو مجتمع أفضل بمبادئ تحفظ الكرامة للكل وتصون حق الإنسان في العيش المشترك . ومن يرغب في أهداف بديلة سيعاني حصارا ثقافيا ونقدا في المحافل الدولية عن جدوى المؤشرات الدولية في فعالية السياسة والتصنيفات الممكنة في مقياس التقدم .