خلال شهر أكتوبر الماضي، شدت أنظار الرأي العام الوطني إلى "بوقنادل" التي شهدت واحدة من أخطر الحوادث في تاريخ النقل السككي بالمغرب وأكثرها مأساوية، كان بطلها القطار رقم "9" الذي زاغ أو انحرف عن السكة، لما كان في رحلة"مكوكية" اعتيادية انتهت على وقع المأساة، مخلفة ضحايا "قتلى" كانوا على موعد مع آخر سفر في الحياة، و "جرحى" و "معطوبين" كتبت لهم حياة جديدة لكن بطعم الألم والقسوة والشكوى والمعاناة، وبعد مضي حوالي الشهر من هذا الحادث الأليم، سرق "النقل السككي" الأضواء من جديد، إثر إعطاء الانطلاقة الرسمية للقطار فائق السرعة الرابط بين طنجة والدار البيضاء (البراق)، وبين "الصورة الأولى" و"الصورة الثانية" بون شاسع ومساحات رحبة، تسمح بتشكيل وصياغة "ملامح مشهد مغربي" تتجاذبه مفردات "الاختلال" و"التأخر" و"الانحطاط" و"الاحتقان" من جهة، وتعابير"التنمية" و"النهوض" و"التجديد" و"الازدهار" و"الإشعاع" الدولي من جهة ثانية ... خلفية "المشهد" يعكسها حادث "قطار بوقنادل" وحدث "انطلاقة البراق"، "قطار" لازال يعيش على وقع "الاختلال" و"التأخر" ومحدودية شروط "الأمن والسلامة" وضعف الخدمات، و"قطار" مرادف للسرعة يختزل المسافات بين "طنجة والدار البيضاء"، مشكلا مرآة عاكسة لنقل سككي بنفس جديد يمشي قدما نحو الحداثة والازدهار والإشعاع الدولي، وبين الوجهين تتشكل صورة مغرب بنفسين وسرعتين، مغرب تتوقف قطاراته عند محطة "مراكشالمدينة" (جنوبا) ويستسلم "براقه" عند حدود محطة "الدارالبيضاء-المسافرين"، مما يجعل مساحات شاسعة من المجال المغربي محرومة من خدمات النقل السككي و"ترامواي"، أما "البراق" فيبقى حلما صعب المنال والإدراك بالسبة لملايين من المغاربة على الأقل في المدى القريب ، ومغرب ثان، تعكسه سرعة ورشاقة وعنفوان "قطار البراق" الذي لن تنعم بمستوى خدماته إلا ساكنة المحور السككي "طنجة-الدارالبيضاء" وتحديدا ساكنة "طنجة" و"القنيطرة'' و"الرباط" و"الدارالبيضاء"، مما يحرم مدنا عديدة من الحق في "نقل سككي" عصري بمفردات "السرعة" و"الجودة" و"الإشعاع" و"الجاذبية" ...
ألوان المشهد، تختزل جوانب مختلفة تصل حد التضارب والتباين، كما تتضارب وتتباين "خدمات"و"سرعة" القطار العادي وقطار البراق، مغرب يكاد لا يبارح مكانه أو "يحبو كما يحبو "الطفل الرضيع، يتربع في المدن المنسية والجبال والدواوير والمداشر، أناسه مغاربة بسطاء يعيشون خارج "التغطية الإعلامية" و"الاقتصادية" و"السياسية"، لا يشغلهم "اللغط"السياسي ولا يعنيهم الحوار الاجتماعي الذي تحول إلى عبث سياسي، وغير مهتمين بالقوانين والقرارات الحكومية المثيرة للجدل، و لا مكثرتين بالانتخابات ولا بالبرلمان ولا بالممارسة الديمقراطية ولا بالسياسة، أناس بسطاء ساقهم قدرهم ليتشبثوا بالأرض كما تشبث بها الأجداد، ويتعايشوا مع الطبيعية رغم قساوتها، لا تسلط عليهم عدسات الكاميرا، إلا في لحظات المحن والمآسي والأزمات (شهيد "جبل بويبلان" نموذجا)، سقف آمالهم وأحلامهم لا يتجاوز حدود "لقمة عيش" و" أغطية" تقي قسوة الشتاء و"مركز صحي" و"مدرسة" و"شق طريق" تخفف من جبروت العزلة والإهمال القاتل، ومغرب آخر ينهض ويخطو خطوات موزونة ورصينة في درب التجديد والرقي والازدهار، مغرب المنشآت المينائية التجارية والترفيهية والمطارات الدولية والمراكز الاستشفائية الجامعية والطرق السيارة والسكك الحديدية و القطار الفائق السرعة والمركبات الرياضية والثقافية والوحدات السياحية الفخمة والمسارح والجامعات والمشاريع الاقتصادية وغيرها، بشكل يكرس نوعين من الساكنة، واحدة محرومة بدرجات متفاوتة من الخيرات، وثانية تستفيد من ثمار التنمية المتساقطة بسخاء على المغرب النافع ....
آخر "لمسات" المشهد، لن تخرج بدورها عن ألوان "الدمعة" و"البسمة" ،"الحبو" و"النهوض"،و"التفاهة" و"التميز"، تبدو اليوم كمرايا عاكسة لمفردات انحطاط القيم وتردي الأخلاق وضعف منسوب المواطنة لدى فئات عريضة من المجتمع، ومن صور ذلك ما حدث - غضون السنة وشيكة الرحيل - في "فاجعة بوقنادل" من إقدام بعض المنحرفين على تعريض الضحايا لفعل السرقة ورفع سائقي سيارات الأجرة من الأثمنة، سعيا لتحقيق الأرباح والمصالح الضيقة، على حساب مأساة الآخرين، و"إهانة العلم الوطني" من طرف بعض المحتجين أمام البرلمان في سياق "الحركة التلاميذية" ضد الساعة المثيرة للجدل، و تهديد البعض بإسقاط الجنسية والبوح الجماعي بالحق في الهجرة السرية لما اشتدت أزمة "القارب الشبح" (الفونتوم)، مرورا بالعنف الممارس في الوسط المدرسي وأزمة التعاقد وتنامي موجات الاحتقان الاجتماعي في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وفقدان الثقة في الحكومة والممارسة السياسية والانتخابات، واتساع رقعة الإحباط واليأس وانسداد الأفق وسط فئات عريضة من الشباب وانتشار رقعة الانحراف وامتداد الجريمة وتعمق الإحساس بانعدام الأمن ...
مقابل ذلك، يحضر "البراق" الذي عزز النقل السككي الوطني، ودعم قطاع النقل واللوجيستيك من مطارات وموانئ تجارية وترفيهية وطرق سيارة، وقدم المغرب كبلد يمشي قدما نحو الحداثة والازدهار، وكوجهة جذابة محفزة على الاستثمار والسياحة، راسما بذلك صورة مفعمة بالأمل والحياة والمستقبل، لمغرب بالقدر ما تنحني فيه "القيم" وتسمو فيه ثقافة "التفاهة" و"الرداءة"، بالقدر ما يفرز طاقات ومواهب تبني الوطن مهما اشتدت زوبعة الإحباط والاحتقان، ونذكر هنا - على سبيل المثال لا الحصر- تميز التلميذة المغربية "مريم أمجون" التي كسبت رهان "تحدي القراءة العربي" (نسخة 2018)، محدثة بإنجازها ارتدادا على مستوى "المناهج" و"طرق التدريس"، مقدمة الدليل أن "القراءة" و"ممارسة القراءة" وحدها القادرة على "ترميم"ما عجزت عن تحقيقه المدرسة وما فشلت في تنزيله "المناهج و"البرامج" المعتمدة، التي تكرس الضعف والهوان والفقر المعرفي والمنهجي والتواصلي، تميز أعقبه تألق آخر، كان من توقيع تلاميذ حققوا إنجازا ملفتا في مسابقة عالمية للحساب الذهني، دون إغفال جملة من الصور المشرقة التي رسمها ويرسمها الكثير من مغاربة المهجر في بلدان الإقامة في جميع المجالات والتخصصات، ومن هناك يخدمون الوطن ويتفاعلون مع قضاياه، مما يجعلهم"سفراء" لبلدهم، في زمن حولته جرافات "التكنولوجيا" و"كماشات" العولمة إلى "قرية صغيرة" تنصهر فيها القيود وتذوب الحدود.
توقيع "الصورة" .. كلمات مفعمة بالأمل، تتوق إلى "المغرب الممكن" .. مغرب يسمو فيه القانون والقضاء، و تحضر فيه مفردات "محاربة الفساد" و"تعقب المفسدين" و"التوزيع العادل للثروة" و"الأحزاب المواطنة" و"التعليم الناجع والعادل والفعال" و"حقوق الإنسان والحريات" .. "مغرب ممكن" تقاس فيه المواطنة بشروط "المسؤولية "و"النزاهة" و"الاستقامة" و"التضحية" و"التفاني" في خدمة الصالح العام، يتم القطع فيه مع بعض التصرفات "الضالة" التي تلهث وراء "الكرسي" و"المسؤولية" و"المنصب" ويسيل لعابها اقتناصا لأية فرصة تفتح باب "الارتقاء" في السلم السياسي والاجتماعي، "مغرب ممكن" بشعب "واع" و"مسؤول" مفعم بقيم المواطنة وحب الانتماء للوطن، يعطي معنى للانتخابات والديمقراطية والسياسة، و"حكومة" تعكس منطق "صناديق الاقتراع" وتعبر سياساتها عن هموم وانتظارات الجماهير الشعبية.
"مغرب ممكن" تصان فيه كرامة "الأستاذ" كقناة لا محيدة عنها لبناء "مواطن الغد" على مستوى القيم والمعارف والمناهج والمواهب والقدرات .. "مغرب ممكن'' تخيم على سمائه شمس "العدالة الاجتماعية" على مدار السنة .. "مغرب ممكن" يبدو كشجرة يستفيد الجميع من "ثمارها" على قدم المساواة .. وقبل هذا وذاك "مغرب ممكن" يرخي فيه "براق التنمية " أجنحته على كافة المجال المغربي، بشكل يحفظ "الكرامة " ويقوي "لحمة" المواطنة التي تتواجد في أزمة مقلقة، في ظل شيوع "ثقافة الانحطاط" واتساع "بؤر الإحباط"... فعسى أن ننام يوما، ونصحو على "مغرب ممكن" تبنى لبناته بسواعد "مواطنة" تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتتحرك حواضره وأريافه في مضمار التنمية - على قدم المواساة - بسرعة "البراق"...