إذا كان قرار ترسيم الساعة الإضافية بشكل دائم، قد أجج شعلة الاحتجاج وعمق هوة الاحتقان الاجتماعي في واقع معيش يبدو كمدارة تتقاطع فيها سبل اليأس والتمرد وشوارع الإحباط وانسداد الأفق، فإن تداعياته المباشرة على المدرسة العمومية والزمن المدرسي، ألهب حماس التلاميذ عبر مختلف المدن والقرى، وأيقض فيهم شرارة النضال والاحتجاج، معمقين بذلك الأزمة التي أحدثتها الحكومة بقرارها الأحادي الجانب الذي لم يستحضر الإرادة الشعبية ولم يقدر حجم ردة الفعل القوية والعفوية التي صدرت عن الحركة التلاميذية وامتد صداها إلى الشوارع، في إطار مسيرات احتجاجية جابت الشوارع الكبرى تقاطعت جميعها حول مطلب "إسقاط الساعة الإضافية" والعودة إلى"توقيت غرينتش"، لكن بعضها زاغ عن المطلب الأساس بعدما رفعت مطالب ذات أبعاد سياسية بشعارات ساخنة ("الشعب يريد إسقاط الساعة"،"في بلادي ظلموني.."،"سلمية سلمية لاحجرة لاجنوية"، "التعليم فين غادي .. الخسران آحمادي"، "ماتخلعوناش بالتجنيد..جيل 2000 ماشي عبيد" ... إلخ) ، وهذا الانزلاق المطلبي واكبته انفلاتات تقاطع فيها الشغب والفوضى بالضجيج والاضطراب ورشق السيارات والحافلات بالحجارة وعرقلة حركات السير والجولان وتعطيل مصالح الناس والسب والشتم والتلفض بكلمات ساقطة مخلة بالحياء، انفلاتات بلغت مداها بالعاصمة الرباط أمام البرلمان حيث عمد بعض المحتجين إلى إهانة "العلم الوطني" في صورة تجسد قمة الانحطاط الفكري والقيمي والأخلاقي، مما نقل الاحتجاجات من بعدها النضالي وأسقطها في منزلق الفوضى والتسيب والعبث ، خاصة بعد أن تم اعتماد توقيت مدرسي جديد لم يغير استعمالات الزمن ولم يمس بزمن التعلم ولا بأوقات الراحة، وهذا يشكل مرآة عاكسة لحقيقة مرة، تسائل عددا من المؤسسات نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر: تسائل -أولا- الأسرة المغربية التي تراجعت أدوارها كمؤسسة للتربية والتنشئة الاجتماعية، فدور الآباء لا ينحصر فقط في توفير المسكن والملبس والمأكل وأغراض الدراسة، بل يمتد إلى مواكبة الأطفال وتتبع مسارهم الدراسي وحسن التواصل مع الوسط التعليمي، والحرص على التربية السليمة وتلقين أبجديات القيم وغرس مكارم الأخلاق، وتقويم الاعوجاجات والسلوكات غير الحميدة بالأساليب التربوية الناجعة، وبالتالي فكلما تراجعت الأدوار التربوية للأسرة، كلما كانت تنشئة الطفل معيبة من حيث القيم والأخلاق، وتسائل-ثانيا- مدرسة عمومية تعيش تحت رحمة "الإصلاح" و"الإصلاح" ثم "الإصلاح"، مدرسة عمومية لازالت أسيرة مناهج عقيمة لاتتيح أفاقا للخلق والإبداع، وبرامج دراسية ذات حمولات معرفية متجاوزة (التاريخ والجغرافيا نموذجا) تكرس الرتابة، وأساليب تقويمية لم تنفلت بعد من مخالب "الحفظ" و"التذكر"، تغيب فيها أبعاد التحليل النقدي والابتكار، مما يعمق مشكلة الغش المدرسي الذي أضحى اليوم فيروسا قاتلا ينخر جسد العمليات التعليمية التعلمية ويضرب أهدافها في الصميم ولم تسلم منه حتى الإمتحانات الإشهادية ...
توضيحا للرؤية، لامناص من التأكيد أن علاقة التلميذ(ة) بالمدرسة لاتتجاوز حدود "الأقسام" حيث تتساقط الدروس بشكل يومي - تباعا- على التلاميذ كما تتساقط أوراق الخريف، وكثيرا منهم يدرس
"صباح مساء" وتكاد تنعدم أمامهم فرص البوح والتعبير عن المواهب والقدرات والمهارات بعيدا عن رتابة الأقسام، وهذا الواقع يؤسس لمفردات"الرفض" و"النفور" من "مدرسة اللاحياة" حيث لايعلو صوت على صوت "الدروس" و"التقويم"(مراقبة مستمرة، امتحانات إشهادية)، لذلك، فالتلميذ(ة) ينفر من المدرسة العمومية، ومع ذلك فهو ملزم ومجبر على التعايش معها والتكيف مع واقعها المقلق كما هو، لذلك فقد نزلت"الساعة الإضافية" بردا وسلاما على التلاميذ، وركبوا على "صهوتها" بكل حماس وعفوية، ومنحتهم الفرصة التي حرمتهم منها "المدرسة العمومية" .. فرصة البوح والتعبير عن الذات والرغبة الجامحة في إسماع الصوت والاحتجاج في الشارع العام والهروب من حجرات الدرس وفروض المراقبة المستمرة، ولاشك أنها كانت بالنسبة لعدد من المتهاونين والمتعثرين فرصة سانحة لممارسة العنف والفوضى تحت مظلة الاحتجاج ...
ما شاب المسيرات الاحتجاجية من انفلاتات، هو امتداد للعنف المدرسي الذي امتد مداه في السنوات الأخيرة وطال عددا من نساء ورجال التعليم أثناء ممارسة مهامهم الاعتيادية، هو "منتوج خالص" لمدرسة عمومية تنتج عينات من التلاميذ يعانون "البؤس" المعرفي والقيمي والأخلاقي المتعايش جنبا إلى جنب مع "التهور" و"الشغب" و"العنف" و"اللامبالاة"، و"ثمرة حصاد" واقع سياسي واجتماعي كرس ويكرس مفردات اليأس والتمرد على الوطن، كما حدث قبل أسابيع بشواطئ الشمال، بعدما علق مجموعة من مرشحي الهجرة السرية آمالهم على "الزورق الشبح"(الفونتوم)، وعبروا بشكل علني عن رغبتهم الجماعية في الهروب والهتاف باسم دولة أجنبية ورفع علمها، أو كما حدث بالدار البيضاء (عين السبع) لما هددت ساكنة إحدى الدواوير الصفيحية -طالتها عمليات الهدم- بالهجرة وإسقاط الجنسية، ونتاج شيوع ثقافة العبث والتفاهة والإنحطاط التي عادة ما يتبناها الإعلام بكل أطيافه ويروج لها، على حساب تغييب ثقافة الرقي والتميز والإبداع في العلوم والآداب والشعر والمسرح والموسيقى الراقية والفنون التشكيلية وغيرها، بشكل يحرم التلميذ(ة) من التعرف على "النماذج" المحفزة على الدراسة والتحصيل الجيد والإبداع والابتكار، وحتى الأستاذ(ة) الذي يمكن أن يشكل "قدوة" أو"مثالا" أو"نموذجا" يحتدى به بالنسبة لتلاميذه، فقد تراجعت مكانته داخل المجتمع، وفي تراجعه تراجع لقيمة المدرسة العمومية ...
دون إغفال محدودية أدوار جمعيات آباء وأولياء التلاميذ التي لا يسمع صوتها أو إسمها إلا بمناسبات الدخول المدرسي، بدليل أن التلاميذ خرجوا إلى الشوارع بمبادرات فردية وتلقائية وبدون تأطير حتى من قبل آبائهم وأولياء أمورهم، مما جعلهم وهم يحتجون بحماس، يقترف بعضهم أفعالا جرمية معاقب عليها قانونا في مقدمتها التظاهر بالشارع العام بشكل غير قانوني، وإلحاق خسائر مادية بالممتلكات العامة والخاصة وإهانة العلم الوطني والسب والشتم وغيرها، وكان من المفترض أن تنخرط الجمعيات في الحراك التلاميذي من أجل التأطير وتنوير المحتجين بالمعلومة الصحيحة ذات الصلة بالتوقيت الدراسي المعتمد، كما أن ما حدث يسائل الأحزاب السياسية التي تحول معظمها إلى "دكاكين سياسية" تجري وراء الكراسي والمناصب بدل تأطير المواطنين والمواطنات سياسيا وتربويا ومعرفيا، مما أبعد المواطن عن السياسة التي سارت قبلة للفاسدين والعابثين بمصالح الوطن والمواطنين، ونفس المساءلة يمكن تسري بدرجات متفاوتة على باقي مؤسسات التنشئة الإجتماعية من دور الشباب والرياضة والثقافة وجمعيات المجتمعات المدني وغيرها...
ما تمت الإشارة إليه، ليس معناه التطبيع مع ما شاب المسيرات الاحتجاجية من انفلاتات خاصة تلك المتعلقة ب"إهانة العلم الوطني"، أو تبخيس حراك اجتماعي حمل توقيع تلاميذ/شباب/أطفال استطاعوا بحماس وعفوية تعميق هوة الاحتقان الاجتماعي ونقل "ساعة الغضب" من مستوى النقاش والجدل إلى مستوى الإحتجاج في الشوارع، وتحريك مياه "الحركة التلاميذية" الراكدة منذ سنوات، وإرباك المشهد السياسي والتربوي والأمني (حكومة، الوزارة الوصية، برلمان، أكاديميات، مديريات إقليمية، مؤسسات تعليمية، مصالح أمنية ...)، لكن تحكمت فيه الرغبة في إثارة الانتباه إلى أجيال صاعدة من التلاميذ يعانون بدرجات متفاوتة فقرا متعدد المستويات في التربية والمواطنة والقيم والأخلاق والمعارف والكفايات، تغذيه أحاسيس اليأس والتمرد والإحباط، مما جعل خروجهم إلى الشوارع يسقط في أوحال "احتجاج العبث" الفاقد للبوصلة، أجيال صاعدة تبدو اليوم كجمر حارق راقد تحت رماد ساكن أو كبركان هامد لا أحد يتوقع غضبه أو يقدر حجم دماره ، مما يفرض على الفاعل السياسي الإصغاء إلى صوت التلاميذ بما له وما عليه واعتبار ما حملوه أو هتفوا به من شعارات قوية وجريئة دون تجاهل أو تبخيس أو تحقير كمن نعث المحتجين ب"الضباع" أو"جيل القادوس"، وهو موقف غير مقبول ينم عن قصور في الرؤية ...
الآن وبعد أن تراجع منسوب الاحتجاجات إلى مستوياته الدنيا، وعاد التلاميذ إلى حجرات الدرس بعد أن أربكوا الشوارع و مجريات السنة الدراسية على حد سواء، لا يمكن تجاهل صوتهم أو نكرانه، فما قاموا به من احتجاجات هو امتداد لما يعرفه المجتمع من احتقان اجتماعي، وتعبير صريح عن تفاعل التلاميذ مع واقعهم السياسي والاجتماعي، وهي رسالة صريحة لابد أن تستوعبها الجهات الرسمية، التي لابد لها أن تستحضر "الإرادة الشعبية" في تنزيل السياسات والقرارات التي تهم عموم المواطنين خاصة تلك التي تلامس معيشهم اليومي، والدولة مطالبة اليوم باستخلاص الدروس والعبر في تعاملها مع "المدرسة العمومية" التي لامناص من الارتقاء بمناهجها وبرامجها لتكون فعليا "مدرسة حياة" قادرة على دعم أسس القيم والأخلاق وبناء صرح المواطنة الحقة .. "مدرسة حياة" تتعايش فيها المواهب والقدرات والمهارات والطاقات جنبا إلى جنب مع التعليم الناجع والفعال، من أجل بناء"تلاميذ/مواطنين" متسلحين بالمعرفة وقيم الوطنية، يصونون "الوطن " في لحظات السلم والانفراج كما في لحظات الأزمة والاحتجاج.. فالحذر ثم الحذر من تعليم يصنع الفشل ويعمق أحاسيس اليأس والسخط على الوطن، ومن حسنات "ساعة الجدل" أنها نزلت كالنقطة التي أفاضت "كأس الاحتقان''، و تحريك عقاربها نحو توقيت" غرنيتش" قد يخفف من حدة الأزمة والجدل، لكنه لن يحجب شمس الحقيقة بالغربال ...