يعتبر فتح النقاش العمومي حول قضايا حقوق الإنسان و حقوق المرأة في المجتمع المغربي مسالة ايجابية و ممارسة ديمقراطية ينبغي أن نتعود عليها جميعا في إطار دولة الحق و المؤسسات و إرساء دعائم العيش المشترك و إحقاق قيم العدالة و الإنصاف و الحوار الخلاق بين جميع مكونات المجتمع في فضاء ديمقراطي يحترم الحق في الاختلاف الفكري و السياسي. و كون أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان هي المؤسسة الوطنية المعنية بتعزيز احترام و حماية و النهوض بحقوق الإنسان على المستوى الوطني فان التوصيات التي يعدها و يقدمها للحكومة أو للبرلمان بشكل مؤسسي أو يعدها في شكل نقاش للتداول المجتمعي بصفة عامة من اجل تنزيلها و ملائمة القوانين و التشريعات الوطنية معها يدخل ضمن اختصاصه الصميم و صلاحياته القانونية التي يؤطرها القانون المنظم لعمله. و هنا يجب أن نشير إلى نقطة مهمة جدا يغفل عنها الكثيرون و هي تتعلق ببنية اشتغال المجلس الوطني من حيث إنتاج التوصيات. صحيح أن المجلس يمتلك مساحة كبيرة للتفكير و الاقتراح و وضع المشاريع الرامية للنهوض بحقوق الإنسان و تعزيزها على المستوى الوطني في إطار الاستقلالية كما تنص على ذلك مبادئ باريس إلا أن المجلس يعتمد بشكل شبه كلي في عمله على المرجعيات الدولية و الإطار المعياري الدولي و بالتالي فان دوره في كثير من الأحيان يقتصر على إعادة إنتاج التوصيات الدولية و سبغها بالطابع الوطني. و على سبيل المثال فان التوصية المتعلقة بالمساواة بين الرجل و المرأة في الإرث هي إحدى التوصيات التي تلقاها المغرب أثناء عرض تقريره الدوري الثاني أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف في إطار آلية الاستعراض الدوري الشامل وهي تعتبر من بين التوصيات التي رفضتها الحكومة المغربية باعتبار أنها تتعارض مع هوية المغرب الإسلامية إذ يجب أن لا ننسى بان الدستور المغربي و إن كان يقر بسمو الاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقيات و معاهدات حقوق الإنسان على التشريعات الداخلية فان ذلك لا يتم إلا في نطاق أحكام الدستور و قوانين المملكة و هويتها الوطنية الراسخة و بالتالي فمن الطبيعي أن يرفض المغرب مثل هاته التوصيات. فالمجلس الوطني لحقوق الإنسان لم يزد على أن كرر نفس التوصية التي وجهها مجلس حقوق الإنسان بجنيف للمغرب سنة 2012 لكن هذه المرة في شكل محلي كما لو أن هذه التوصية جاءت كنتاج لنقاش مجتمعي أو فقهي أو جدل دائر بين التيارين الحداثي و التقليدي وهذا غير صحيح لان مسالة المساواة بين أنصبة الورثة الأبناء ( ذكورا و إناثا) ليست من القضايا الجوهرية لحقوق المرأة في المغرب بل هي من أمور المساواة الشكلية لأنها لا تتعلق بالمساواة بين الرجل و المرأة في الإرث على وجه الإطلاق بل تركز فقط على حالة واحدة من حالات الإرث وهم الأبناء و مرد ذلك هو أن التوصية ذات منشأ معياري دولي ينظر إلى التشريعات الوطنية للدول مهما اختلفت الثقافات و البنيات الاجتماعية بمنظار واحد هو منظار معياري - شكلي يقف عند ظاهر النص القانوني و صياغته ولا يعير كبير اهتمام لفلسفته و سياقاته العامة. و تبني هذا المنظور من قبل المجلس الوطني لحقوق الإنسان و الحركات النسائية و التيارات الحداثية و محاولة فرضها كنقاش عمومي دونما اعتبار للسياقات المحلية هو ما أدى إلى الجدل الدائر حاليا و ظهور التيارات الرافضة لان القضية لم تنضج كنقاش عمومي طبيعي من داخل المجتمع. و للإشارة فقط فالتوصية بالمساواة في الإرث هي من التوصيات الكلاسيكية التي ما فتئ مجلس حقوق الإنسان بجنيف يطالب بها معظم الدول ذات المرجعية الإسلامية أثناء عرض تقاريرها الدورية و بالتالي فهي ليست بالأمر الجديد على المستوى الدولي. و على العموم يمكننا القول بانه لا توجد أي صعوبة بالمعنى الإجرائي في تنزيل مفهوم المساواة كما هو منصوص عليه دستوريا في الفصل 19 إذ أن تعديل النصوص القانونية و ملائمتها مع أحكام الدستور تبقى مسالة إجرائية يمكن للحكومة و البرلمان القيام بها بشكل يسير وفق المخطط التشريعي متى كانت هناك إرادة سياسية لتحقيق ذلك و متى توافرت الأغلبية البرلمانية و الأصوات الكافية لتمرير القانون أو إقرار التعديل. لكن المسالة عندما تتعلق بنظام الأحوال الشخصية الذي تقننه مدونة الأسرة يصبح أمرا مختلفا تماما لان هذا النظام تأسس وفق المرجعية الدينية للمغاربة التي تعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين هي المؤسسة الوحيدة التي تملك حق الفصل في القضايا الخلافية المتعلقة بها و منها التوجهات الرامية لتعديل أحكام المدونة التي تنهل أساسا من أحكام الفقه المالكي. و بالتالي فان التوصيات الهادفة لتعديل أحكام المدونة سواء من حيث الشكل أو المضمون حتى و إن اكتست الطابع الحقوقي فهي تدخل ضمن المجال الخاص لإمارة المؤمنين. و قد سبق أن سجلنا كيف انقسم المجتمع المغربي في أوائل الألفية بشان الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية و مشروع تعديل مدونة الأحوال الشخصية حيث لم يتم حسم الأمر إلا بعد تدخل الملك بصفته أميرا للمؤمنين من اجل حسم الخلاف الذي كان دائرا آنذاك حتى داخل لجنة تعديل المدونة وإقرار تعديلات تتسم بالوسطية و الاعتدال و تنسجم مع التوجهات الحقوقية و الحداثية للمملكة دون المس بالثوابت المرجعية و المذهبية. المطالبة بالمساواة بين الرجل و المرأة في التمتع بالحقوق المدنية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و مكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة وفق ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان يعتبر من الأمور البديهية التي يجب أن تأخذ مداها و أبعادها الحقيقة على مستوى النصوص القانونية و على مستوى التطبيق و الاجتهاد القضائي و على مستوى الضمير المجتمعي بحيث لم يعد مقبولا البتة أن يتم هضم حقوق المرأة أو ممارسة أي نوع من أنواع التمييز ضدها على مستوى ولوج سوق الشغل و التمتع بكافة الضمانات التي يكفلها قانون الشغل و قانون الوظيفة العمومية كما لم يعد مقبولا حرمان المرأة من ممارسة حقوقها السياسية و الاقتصادية و قد تحقق هذا الأمر على مستوى التشريعات و الممارسة العملية من خلال إقرار الدستور المغربي المساواة بين الرجل و المرأة في التمتع بكافة الضمانات الحقوقية التي تم النص عليها بالباب الثاني من الدستور ليس استجابة لمطالب الحركات النسائية فقط بل تكريسا لتوجه عام حرص المغرب على المضي فيه بخطى حثيثة منذ منتصف التسعينيات تكلل بالمصادقة على اتفاقية سيداو و رفع التحفظات الواردة عليها و إحداث خلايا مناهضة العنف ضد النساء و الأطفال على مستوى المحاكم الابتدائية و الاستئنافية و إصدار القانون رقم 13.103 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء. اما على المستوى السياسي فقد كانت هناك إرادة حقيقية في تعزيز تواجد النساء بالمجال السياسي و البرلماني و تولي المناصب الوزارية و قد تكللت هذه الإرادة بإقرار مبدأ المناصفة دستوريا و التنصيص على إحداث هيئة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة. على ان المناصفة ليست غاية في حد ذاتها بل هي مجرد تدبير إجرائي في افق تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل و المرأة في التمتع بالحقوق و الحريات و فق ما ينص عليه الدستور. لكن هل مطلب المساواة في الإرث ينحو في نفس الاتجاه إن التحليل المنطقي لهذا المطلب يقتضي أن لا نقف عند حدود مرجعيتة الدولية التي يتبناها المجلس الوطني لحقوق الإنسان و الجمعيات النسائية بل يجب أن ننظر كذلك في ما مدى انسجامه مع السياق المحلي و المنظومة التشريعية الوطنية. قد يبدو للبعض أن هذا الأمر يثير جدل الكونية و الخصوصية في تطبيق حقوق الإنسان لكن الأمر أعمق فهو يتعلق بطبيعة المنظومة القانونية المغربية التي يعتبر الدين احد أهم مصادرها و تستقي القاعدة القانونية مضامينها من أحكامه بشكل مباشر في كثير من المدونات و خاصة مدونة الأسرة التي هي محط خلاف اليوم فيما يتعلق بأحكام الإرث خاصة مسالة المساواة بين أنصبة الأبناء ذكورا و إناثا و مسالة التعصيب. فنظام الإرث في المغرب هو نظام شرعي و ليس مدني و هذا التمييز بين ما هو شرعي و ما هو مدني مرده إلى كون المنظومة التشريعية المغربية تنهل قواعدها القانونية من الشريعة و من القانون الوضعي معا ولذلك فهو نظام مختلف تماما عن الأنظمة القانونية الغربية كالقانون المدني الفرنسي مثلا الذي لا يستقي قواعده من الدين و بالتالي لا يوجد أي عائق أمام تعديل النصوص مثلما هو الحال عندنا لان تعديل النص القانوني يعني المس بأصله المعتمد في الشريعة الإسلامية الذي قد يكون نصا قطعيا الدلالة لا يحتمل التأويل أو الخلاف. فالمسالة ليست مسالة عقليات أو صراع بين تقليديين و حداثيين كما قد يبدو ظاهر الأمر، المسالة هي أعمق بكثير أنها تتعلق أولا بنظام اجتماعي قائم على قيم و على سلسلة من المفاهيم جد متشابكة تتعلق بنظام الأسرة و الزواج و انتقال الثروة بين الأجيال وثانيا بنظام قانوني يحتاج تعديله إلى إحداث قطيعة ابستيمولوجية مع مصادره الأساسية التي لا تقوم عليه فقط مدونة الأسرة بل تقوم عليه بنية المجتمع و بنية النظامين السياسي و الاجتماعي المغربي. و بالتالي فاستمرار إدخال التعديلات بشكل جزئي في إطار إستراتيجية ملائمة التشريعات الداخلية مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان و الالتزامات التعاهدية التي التزم بها المغرب قد يسعد كثيرا الحركات النسائية و المؤسسات الدولية لكن انعكاساته الاجتماعية داخليا قد تكون غير سارة لان الإشكال المتعلق بالإرث اليوم بالمغرب لا يتعلق بالمساواة بين الرجل و المرأة بل يتعلق بالتفكك المستمر للروابط الأسرية و ارتفاع معدل النزاعات المسجلة بسبب تعثر عملية اقتسام الإرث كما تؤكد ذلك الإحصائيات المتعلقة بقضايا قسمة التركات أمام المحاكم المغربية بل و يؤدي في كثير من الأحيان إلى ارتكاب الجرائم في حق ذوي القربي و مرد ذلك يعود إلى انحدار على مستوى القيم و غياب ثقافة احترام الحقوق لدى كثير من الأفراد. لقد اطلعت على العريضة المطالبة بإلغاء التعصيب و اعتقد جازما أن الموقعين عليها و الداعين للتوقيع عليها قد فعلوا ذلك دونما أي فهم لمسالة التعصيب ضمن منظومة الإرث اعتقادا منهم بان التعصيب يظلم المرأة و يسلبها حقوقها بسبب إشراك ورثة أبعدين معها في اقتسام التركة غير أن الحقيقة هي خلاف ذلك تماما. ذلك أن الهدف العام من الإرث باعتباره آلية لانتقال الثروة بين الأجيال هو تقسيمها و منع الاستفراد بالاستفادة منها من قبل شخص واحد فقط بغض النظر هل الوارث ذكرا أم أنثى ولذلك فان الآباء يرثون أبنائهم مع الأحفاد ذكورا و إناثا و الأزواج يرثون مع الأبناء أو الأحفاد ذكورا و إناثا حسب الحالات هذا بالنسبة لأصحاب الفروض كما تحدده المواد من 341 إلى 347 من مدونة الأسرة. و نفس الأمر بالنسبة للتعصيب فالهدف منه هو توزيع التركة و اقتسام المال و صلة القربى و منع استفراد الأشخاص بالثروة المنقولة عبر الإرث و لذلك نجد بان العصبة كما تحددهم المادة 348 من مدونة الأسرة لا يقتصرون على الذكور فقط. لذلك فالذين دعوا لإلغاء التعصيب كان هدفهم الوحيد هو أن تستفرد البنت لوحدها أو البنات لوحدهن بتركة والدهن دون إشراك إخوته أو أعمامه أو أبناء إخوته في قسمة التركة معهن وهذا التصور لا علاقة له لا بالمساواة ولا بإنصاف المرأة لا من بعيد و لا من قريب لأنه تصور يقوم على افتراض حالة واحدة من حالات التعصيب و افتراض أن العصبة في هذه الحالة هم ذكور فقط مع أن الحالة هذه تقبل كذلك أن يكون العصبة إناثا كالأخوات الشقيقات. نظام الإرث في المغرب هو نظام نابع من الشريعة الإسلامية في مجمل أحكامه و فلسفته و هو يتسق مع نظام الأحوال الشخصية و نظام الأسرة المعتمد من قبل المشرع المغربي و الذي ينبني على اجتهادات فقهاء المذهب المالكي و لذلك فان أي اجتهاد أو تعديل لأحكامه يجب أن يسند لأهل الاختصاص وهي المجالس العلمية و اللجان العلمية و الفقهية و القانونية التي يمكن إحداثها لهذا الغرض و التي لها وحدها إمكانية الفصل بشكل علمي و جدي و مسؤول في القضايا من هذا النوع. أما أن يتحول الأمر إلى مزايدات ذات طابع سياسي و عرائض و مطالبات بعضها لا يخفي أجندته الإيديولوجية فهذا أمر مجانب للصواب من وجهة نظري. على العكس تماما فالشريعة الإسلامية تقوم على مبادئ العدل و الإنصاف و تعطي للمرأة مكانة جد متقدمة في منظومة أحكامها ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتنافى أحكامها مع التكريم الإلهي الذي أولاه الله للمرأة. و بغض النظر عن بعض الاتجاهات المذهبية التي حاولت تكريس تصور غير سليمة لوضعية المرأة الاجتماعية فان عموم أحكام الشريعة الإسلامية تقوم على أساس المساواة بين الرجل و المرأة في الأحكام فهن شقائق الرجال في الأحكام مع مراعاة الخصوصيات. و الواقع اليوم هو أننا نعيش في عالم مفتوح و سريع التحولات و ماضي نحو المأسسة و أحادية التصورات المعيارية على مستوى النظم و التشريعات و هذا الأمر يتم تكريسه من خلال الدينامية الاتفاقية الدولية التي تسعى إلى تحقيق السمو المطلق للقانون الدولي على التشريعات الداخلية بحيث تصبح مجرد انعكاس للمبادئ المعيارية و للقواعد القانونية التي يتم صناعتها بعناية في خلايا التفكير و التنظير التابعة للمؤسسات الدولية دونما أدنى اعتبار للتباينات الهوياتية و التشريعية. و على سبيل المثال فالدعوة للمساواة بين الرجل و المرأة هي مطلب ايجابي من مطالب الحركة النسائية عالميا لكن تطبيقه بشكل معياري لا يتلاءم مع الوضعيات الاجتماعية الاعتبارية التي تتميز بها المرأة على سبيل المثال في التشريع الإسلامي من حيث الصداق و المهر و النفقة و غيرها من الأمور التي لا يوجد مثيل لها في الأنظمة المقارنة.
بحيث أننا سنجد بان تطبيق المساواة المعيارية في نظام الأسرة و الأحوال الشخصية سيضر بمكانة المرأة الاعتبارية خاصة وان النساء في المغرب و العالمين العربي و الإسلامي لازلن يشكلن في غالبيتهن فئة غير نشيطة في المجتمع بحكم ضعف التشغيل و التكوين في صفوفهن وهذه هي القضايا الأساسية التي يجب الانتباه إليها و العمل على مجابهتها حتى تستطيع المرأة التمتع بحقوقها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في بيئة ملائمة.