كثيرا ما ينادى بإلزامية التعليم كحق مشروع لكل طفل، رُفعت شعارا في العديد من المواثيق و المعاهدات والمنظمات الدولية... وهو الأمر نفسه الذي نادي به المغاربة منذ خروجهم من كبوة الاستعمار، وجعلوها مبدأ مهما وأساسا من الإصلاحات التي طالت مجال التعليم آنذاك، أي لكل طفل مغربي الحق في ولوج المدرسة المغربية دون قيد. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا: هل الأمرُ ميّسر لجميع الأطفال وفي جميع المناطق؟؟ وفي المقابل، هل جميعهم يتمتعون بنفس الظروف المهيأة للعملية التعليمية التعلمية؟؟
يعتبر محظوظا من توفرت له الظروف الاجتماعية والنفسية والمادية التي تخلق له جوا ملائما للإقبال بأريحية على العملية التعليمية التعلمية، بكل جد ونشاط وقابلية. لكنّ الحال أن هناك من المتعلمين من تنعدم له هذه الشروط بثاتا، فالأطفال الذين جادت عليهم الأقدار بأن ينتموا إلى العالم القروي، خصوصا الذين يقطنون القرى النائية، خير دليل على ذلك، أولئك الذين يجاهدون ويتعبون و يضحّون ويعانون من أجل الظفر بما ينوّر أفهامهم، ولو بنذر يسير رغم أنف الظروف وبمعزل عن الدعم والتشجيع الكافي.
يوسف متعلم بالمستوى الرابع إبتدائي واحد من بين هؤلاء، يدرس بمدرسة قريته التي تنأى عن منزله بحوالي كيلومترين، يقطعها أحيانا غلى قدميه وأحيانا ممتطيا درّاجته الصغيرة الهوائية، تلك التي بدأ يتآكل هيكلها الحديدي شهورا تلو شهور، غير أنها ظلت وفية و مساندة له، يمتطي كرسيها الصغير بكل ثقة وحزم وأمل. أراه مقبلا على دراجته،
ينفطر قلبي تحسرا عندما أبدا، يخفي وراءها مسحة وعلى محياه ابتسامة لا تفارقه أخرى. فبالرغم من كل ما من الحزن والتعب وأشياء ابتسامة وجهه الأغبر وشعره يقاسيه يظل محافظا على همّا أكبر، وخلفه أخوه الأشعث، حاملا في صدره بالمستوى الأول، و الذي الصغير الذي يدرس أحيانا إلى المدرسة. يتكلف مهمة إيصاله معه
غالبا ما يصل يوسف إلى المدرسة متأخرا، يسرع في خطى ثابتة ليلقي بجسمه المنهوك على المقعد، ويخرج كتبه وأدواته، وعيناه فاحصتان على ما وضع على ظهر طاولة مجموعته، ومصوبتان طورا على السبورة وتارة على وجوه زملائه خاصة على وجه المميز المجد في الفصل، ليتدارك بهما ما فاته من أعمال. وعندما أستفسره الأمر يجيبني بأنه استيقظ مبكرا، وقام ببعض المهمات، كأن يخرج الماشية إلى المرعى ويعيدها إلى الحظيرة، وأحيانا ينشغل بجمع الحلزون، أو لقطف البقول أو السلق ليبيعها، تختلف تلك المهام حسب الفصول والمناسبات؛ ليوفر لنفسه بنفسه ما يحتاجه من ملبس وكتب وأدوات تخفيفا من عبء الأسرة.
الجميل في الأمر، ورغم كل هذه الظروف، أجد يوسف يكافح بكل ما أوتي من طاقة وقوة من أجل المنافسة الشديدة والشريفة مع زملائه، منتظرا منّي التشجيع والثناء بعينيه اللامعتين المغرورقتين، و الذي لا أبخل به عنه ولو بابتسامة، فيزيده حزما وإصرارا.
كل هذه الظروف جعلت فهم واستيعاب يوسف للدروس متأخرا، فغالبا ما يطلب مني في أدب بأن أعيد له الشرح، وتارة يندفع إلى السبورة دون وعي ليستفسر عن شرح أو عمل مطلوب منه حتى يستوعبه مرارا وتكرارا، ظل على تلك الحال، مصرا ومكافحا و مواظبا، إلى أن أصبح يحتكر الرتبة الثانية التي طالما تنافسها مع أحد الزملاء باستحقاق.
صحيح أنه يستفيد من " تيسير" تلك المبادرة الحسنة التي تقوم بها الدولة، لكن تبقى تلك الاستفادة غير كافية، تسد الأسرةُ بها رمق عيشها و التي تكون ولا شك في أمس الحاجة إليها....
إنها ولاشك الطفولة المغتصبة، الطفولة التي سرقت من يوسف براءته و أحلامه، سرقت منه تمتعه بلعبه، و ارتواءه من حنان أبويه، و تشبعه من حضن الأسرة التي لا يضاهيه كنوز الدنيا.
أفلا يحق لهذا الطفل المكافح أن يعيش طفولة بريئة؟ ألا يحق له أن يلعب ويتمتع ؟؟ و أن يرتع مع أترابه؟؟ ألا يحق له أن يدرس في جو وظرف مناسبين؟؟ألا يستحق دعما وعناية كافية؟؟ لما يتحمل همّا أكبر من همه؟؟ لما سرقت منه طفولته التي هيأته قصرا ليتحمل هما أكبر من حجمه؟؟...
كثيرة هي الأسئلة التي تسقط تباعا، ولكن ما يسعني إلا أن أدعو له بالتوفيق و أتمنى ألا يضيع عناءه سدى كما ضاع لأجيال قبله، وأن لا يملّ من كدّه وأمله أبدا مهما اختلفت الظروف كما فعل نبينا يوسف عليه السلام، كيف لا واسمه حمله تيمنا به.