بعد يوم موشوم بالتعب وحافل بالأحداث وضوضاء الحياة، أعود إلى نفسي لأضمها وأجمع أشلاءها وأحضنها في حنين وهدوء أقرأها من جديد وأتفهمها وأنصت إلى كل ذرة فيها، وأتركها تأخذني حيث تريد بقدرتها على التخيل والتوقع ... تجتر يومها الذي سيبتلعه النسيان في يوم من الأيام، لتعيشه من جديد كما تتصوره ليس كما هو في واقع صاخب يضرب لنا موعدا في كل حين مع ضرورة من ضرورات الحياة بالخضوع لحتمياتها. لحظات من الحرية والتعالي عن الواقع، لحظات للاختيار والإرادة فيها مكان، لعلي أستطيع أن أتمتع بكل قدرة على اتخاذ القرار الواعي، ربما لأنني كما يقول شوبنهاور" أنا ذات مريدة لا تعرف في قراراتها سوى تريد أو لا تريد".
في هذه اللحظات أدلع نفسي التي لن يدلعها غيري، وأخاطبها بلغة طفل صغير لازالت البراءة ترسم ملامحها على تقاسيم وجهه، حيث كل شيء ممكن ولا شيء بمستحيل. أخاطبها وأطبطب عليها وأتأسف لها على ما فعلته فيها تقلبات السنين.
تشكي لي همومها وتتمتم في استحياء قائلة: إنها الحياة. كان عليها أن تذرف دموعها، إنها في خلوة مع نفسها، ولكنها لا تستطيع أن تخدش كبرياءها وتكشف عن ضعفها وقلة حيلتها،ومع ذلك تتبجح بحديثها عن قدراتها وإرادتها وحريتها في كل لقاء ...لترسم صورة إنسان مكوكي مشتت الانتباه استعراضي الحركة، يعبث بكل شيء حوله، أو ربما صورة إنسان مبرمج بشكل نمطي روتيني فاقد الحماسة يأبى أي تغيير...
في هذه اللحظات الهادئة أدركت استسلامها رغم أنها في يومها الصاخب كانت تجابه فتقبل أو ترفض حينا آخر، تثبت أو تنفي، تتكلم بطلاقة عن ما هو كائن وكما تراه وتحلل وتعلل بل وتناقش بكل طلاقة، لتعود وترى نفسها كانت تعيش أوهاما صادمة لها، لأن الحياة كانت تفرض عليها كيف تعيش، وأن الإختيار ليس إلا مظهرا من مظاهر وجودها الزائف...
هكذا يبدو وكأن قراراتي قد تم تقريرها لأتقمصها وفق ظروف معينة وبرتوكولات وجودية مبهجة تعكس حياة مثيرة ومغرية لتعكس جودتها. بينما في لحظات الصفاء الروحي أجد هذا الجمال الحقيقي مع خلوة نفسي في موعد جميل صادق، وفاء لها بهذه العلاقة الحميمية مع الذات المفكرة في انسجام مع الذاكرة، والإرادة والاختيار والحرية ومختلف الصفات الإنسانية...
عموما كلما قست الحياة على نفسي كلما اهتزت صورتي الداخلية، وأعيش ذبذبات تخل توازني ولن ترحم جسدي المنهك بفعل السنين وقسوة الأحداث.
عالم الفكر الهادئ هذا يرى الوجود في غيابه، يرسم صورة في حنين لما ينبغي أن يكون، لأن الكائن العاقل كثيرا ما يرى الأحسن ويقترف الأسوأ،ويعيش تناقضات وجودية صارخة تعبر عن نفسها في جل اللحظات.
غير أن ما تحمله ذاكرتي من أحداث مصحوبة بأحاسيس قد تكدر لحظات الهدوء تلك التي أتنفس من خلالها لأتصالح فيها مع ذاتي، بنوع من التأمل في عالم استيهامي، فأترك قدرتي على التخيل لتعبر عن نفسها وعن أحلامها لعلها تترك بصمة أمل في أعماقي وتسترجع كبرياء خدشه الزمن فتستشعر بكل نشوة هذا الوجود.
هي إذن حالة من الإسترخاء المطلوب أتحسس في كل عضو من جسمي لأحس به من جديد وأجمع أشلائي، أتنفس بعمق لأخرج زفيرا أتخلص به من كل التوترات، وكأنني أعيد تركيب كل الخلايا المتناترة من جديد وألامس عمقي بكل حنان ورقة، إنه جسدي الذي لن أستطيع البقاء من دونه، فمن ذا الذي سيكون أحن مني عليك؟
لحظات من الدلع الوجودي أتمتع فيها بالحرية الداخلية وبصوتي الخاص الصافي بين أعضائي في كل خلية تستطيع أن تضمن لي البقاء كما أريد وليس كما يراد مني وفق القدر والظروف.
أدخل لأعماق نفسي لأبحر في أحشائها ولأنصت لصوت أمواجي الغاضبة لأنتهي معها بصفاء وارتياح، تلك هي اللحظة التي أكون فيها متطابقا مع نفسي،أكون أنا أنا وكما أحب أن أراني بعيدا عن أي إكراهات وجودية صادمة لكل ذات مريدة تمتلك حرية القرار الواعي، وتتحمل مسؤولية اختياراتها وترسم ملامح وجودها بمساحيق تزيدها جمالا، بل تعكس ذوقها الذي لا تقبل مناقشته وتفرض تقبله .
التطابق مع الذات هي حياة داخلية صامتة تتحرك بين ضلوع الفرد لتشكل عالمه الخاص المحاط بأسوار،إنه حصني المنيع أعوذ إليه بين الحين والآخر حين أتوه عن نفسي في زحمة الحياة وعالم الضرورات.
لحظات الهدوء هي مجال للمونولوك الداخلي، مجال لتأمل الذات داخل قفصها حاملة لكل عالم خارجي لكنه يظهر كصورة بعيدة غير واضحة المعالم .إنها الذات التي ستخفي وراءها كل عمل سواها كحق لها على الأقل في لحظات التطابق مع نفسها.
كلما حقق الإنسان نوعا من النضج الفكري كلما مال للبحث عن هذه اللحظات، باحثا عن انسجام داخلي يغريه بكلمات تعبر عن ما كان يود السكوت عنه لو عاد لصخب الحياة.
تمر السنين لكن لا تزال الذات تناقش حياتها وتجترها بحنين وتعود لها كدليل على تاريخها الفردي، وتتألم للحظات ضعفها وتلعن كل الظروف الصادمة لها.
داخل ثنايا الذات حياة أخرى غير الحياة الواقعية، هي الواقع المأمول المتمرد على سواه، تلك هي حقيقة الشخص الداخلية، غير أننا نعتبر الشخص ما حققه أوما شرع في فعله لا ما أراد أن يكون، أي أن يترك أثرا في الحياة الإجتماعية الواقعية لا الإستيهامية، الفعل دائما سيد المواقف ذلك هومنطق العالم الخارجي أما الأحلام ففي العالم الداخلي المسكوت عنه.
فكيف أتطابق مع نفسي في ظل حياة داخلية تحمل أحلامي وآمالي وحياة خارجية تظهر ضعفا وعجزا لكل قدراتي؟
إنه الإنسان وضعفه أمام القدر الذي لا مرد له وقبوله في استحياء وضعف،إنه قبول لمرض أو لموت أو ألم أبدي أو أزمة حياتية، إنها حالات يبدو فيها الفرد في رضا وتقبل ننتظر فيه الفرج ويلعب فيها الإيمان بالغيب فيتامينا مقويا إلى حين الخروج من عنق القارورة. ذلك هو الإنسان في حقيقته عندما يحقق هذا التطابق مع الذات منصتا لصوت القدر وقوته ...
ومهما يكن سيظل الإنسان يتبجح بامتلاك لتلك الصفات الإنسانية الجميلة، والتي تجعله فاعلا في الحياة دون أن ينسى بينه وبين نفسه وجود قدرة أكبر وأعظم وأن اختياراته مرتبطة بقدر محتوم.
بين ثنايا نفسي أعود لأزرع فيها الطمأنينة والأمل في كل جميل وأن الحياة في بساطتها ممر نمر من خلاله من الولادة إلى الموت، يجب أن تخلد فيه اسمك بعملك لأنه سيكون علينا شهيدا. إنها إذن حياة فانية أمام عمل أبدي خالد.
عدت للطبيعة الخيرة وحب الخير للناس الذي يبث فينا تقبل واقعنا وتقبل ما نحرم منه، ويتمتع به غيرنا على أن الاختلاف في الرزق موجود، وأن رزق فلان في المال والآخر في الصحةأ و في الذرية والآخر في العمل .مع أنني أعتقد تمام الإعتقاد أن الرزق الذي أمتلكه ويكون سبب عفتي وكبريائي سيكون مصدر متعتي بكل تأكيد .
أدركت نفسي أن لولا لحظات الهدوء ما اطمأنت على رزقها وعلى قدرها، وأن سر عظمتها في الإنصات لعالمها الداخلي لتحدث هذا التناغم الذي سميته التطابق مع الذات، أي أن أكون أنا أنا لا أنا آخر، يحدث تناقضا بين الواقع الحقيقي و الواقع المأمول. ومع ذلك فالإنسان فاعل فيما يمكن فعله ويجب أن يكون ملحاحا في ذلك، مصرا بالعطاء والعمل لا بالسخط و الحقد والكراهية على الآخر، لا لشيء إلا لأنه يملك ما تريده وتتعلق به كتعلق طفل بقطعة حلوى يرى نفسه الأحق بها بكل براءة....
لحظة هدوء هي لحظة الدخول في عمق الوجود من خلال كينونتي، لحظة التطابق مع الذات أكون فيها أنا كما أنا في واقع حقيقي معاش في توافق مع القدر وبكل الرضا والسلام الداخلي...لقد حان وقت الصمت المزعوم ،ستليها أكيد لحظات أخرى من الهدوء الممتع...