أضحت بعض مؤسساتنا التعليمية مرتعا للعنف نظرا للاعتداءات المختلفة المتبادلة التي يكون ضحيتها احيانا التلاميذ واحيانا اخرى الاساتذة / مدرسون واداريون ، وهو ما تؤكده الوقائع التي نسمع عنها أو نعايشها يوميا والتي تعد سببا مباشرا في انتاج مناخ سلبي يؤثر على التحصيل الدراسي . ومن خلال الاطلاع على مختلف الكتابات التي تعرضت لهذه الظاهرة وخصوصا الحادث الاخير الذي عرفته احدى الثانويات التأهيلية بورززات وما تعرضت له أستاذة التاريخ الجغرافية يوم 22نونبر 2017 بثانوية الحسين بن علي بالحي المحمدي من اعتداء شنيع بآلة حادة ، تبين أن جل المحللين والباحثين والمعلقين يقتصرون على المقاربة الوصفية للعنف في الوسط المدرسي كنتيجة فقط، دون التحليل العميق للأسباب و العوامل الاجتماعية والنفسية لهذه الظاهرة والتي ترتبط جدليا ببعض مظاهر العنف المجتمعية التي تطبع سلوكيات الأفراد، صغارا وكبارا، وتؤثر في سيكولوجيتهم وتوجهاتهم العلائقية . لا نتوفر على إحصائيات دقيقة تكشف الحقيقة عن أعمال العنف في الوسط المدرسي المغربي ، إلا ان الملاحظ انها تتزايد خلال فترات الامتحان وفي ارتباط مع ظاهرة الغش في الاختبارات، والملاحظ كذلك انها تكثر في المدن وذلك لدواعي مرتبطة بالبيئة الاجتماعية وبمحددات أخرى كالبنية الديموغرافية ودرجة كثافتها، والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. و يرجع الفضل لما نتوفر عليه من معطيات حول الظاهرة إلى ما تتناقله الشبكة العنكبوتية بالصوت والصورة أحيانا، والملفات الرائجة في المحاكم، وإلى ما تنشره – بين الفينة والاخرى - الصحافة الوطنية ، وهي اخبار- في مجملها- كافية لكشف الستار عن المنحى التصاعدي الخطير الذي اتخذه العنف داخل مؤسساتنا التعليمية، وعن تحول العنف من حالات فردية إلى ظاهرة ، خاصة أن هناك بعض الحالات والوقائع التي يمارس فيها العنف ولم يعلن عنها أو تنتهي بصلح أو تنازل احد الطرفين .
تتشعب الأسباب التي تجعل العنف يتفشى أكثر داخل مؤسساتنا التربوية بين أسباب مادية ونفسية، وأخلاقية وتربوية وبيداغوجية، واجتماعية ومهنية ، ويمكن ارجاع تنامي ظاهرة العنف إلى الأسباب التالية :
ü الاختلال بين التعليم و التربية :
رغم أن وزارة التربية حافظت منذ إحداثها بعد استقلال المغرب على مصطلح " التربية " باعتبار ها هي الرهان الاستراتيجي للعملية التعليمية، الا اننا يجب ان نقر بوجود فراغ و هوة بين دور المدرسة "التعليمي" وهدفها " التربوي" ، إذ بالرغم من أن التربية تعتبر بالنسبة للعملية التعليمية بمثابة الروح من الجسد إلا مدارسنا أضحت جسدا بلا روح ، وفي اعتقادي فقد فشلت المدرسة في القيام بدورها الأساس المتمثل في تقويم سلوك المتعلمين وتعديل اتجاهاتهم وإعدادهم أخلاقيا ونفسيا واجتماعيا من أجل الاعتماد على أنفسهم ، وتطوير شخصيتهم ، وهذا ليس انتقاصا من دور المدرسة و لكنها لوحدها لا تستطيع تحمل العبء كله، في ظل تطور العوامل الاخرى المساهمة في التربية .
ü استقالة الاسرة
لقد استقالت الأسرة المغربية من مسؤولية تربية وتأطير وتتبع ابنائها ، تارة تحت ذريعة عدم قدرتها على إشباع حاجيات أبنائها نتيجة تدني مستواها الاقتصاد و كثرةِ مشاغل الحياة ِ، وتارة اخرى بسبب التفكك الأسري الذي لا يخفى على احد دوره في تقويض بنيان الاسرة و تحجيم دورها .
ü انعدام الديمقراطية في الممارسة اليومية داخل المؤسسات التعليمية :
وتتجلي في التفرقة في المعاملة بين التلاميذ من الفئات الطبقية والاجتماعية المختلفة ، وخصوصا ما يحصل عليه أبناء المتنفذين والأغنياء وأبناء الأساتذة أنفسهم، وأبناء بعض أعضاء جمعية أمهات وآباء التلاميذ ، أبناء المنتخبين ، وأبناء رجال السلطة المحلية و زبناء الساعات الاضافية المؤدى عنها ، من حظوة وتمييز في المعاملة مقارنة بأقرانهم من التلاميذ المغمورين ، وأبناء الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة ، و الإقصاء الممارس داخل المؤسسة أو الفصول ، والإهانة ،والحط من الشأن، والتحقير، والسب والشتم، والضرب و الاستهزاء بالتلميذ والاستهتار بآرائه و أفكاره أو إهماله وعدم الاكتراث به و عدم السماح له بالتعبير عن ذاته وتطلعاته. مما يولد في نفوس التلاميذ إحساسا بالدونية والحكرة والنقص والحرمان ، يتحول -هذا الاحساس- لديهم الى الشعور بالكراهية والحقد والرغبة في فرض ذواتهم .
ü ضعف المناهج والبرامج :
عدم مسايرة المقررات والمضامين والمحتويات الدراسية للتطورات المتسارعة التي تعرفها تكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة، كما ان الأساليب التربوية والبيداغوجية التلقينية التقليدية المعتمدة حاليا، أظهرت بالملموس عدم نجاعتها وانعكست سلبا على مستوى التلاميذ، و وجهت اهتمامهم إلى وسائل الاتصال الحديثة من فضائيات وإنترنت و تطبيقات الجوال وغيرها، وهو ما جعلهم يتأثرون بمظاهرها السلبية ، وبالأشكال المتنوعة من الانحراف السلوكي كالمخدرات والإرهاب و العنف و التزمت و التطرف والانغلاق ، وغيرها التي تقدمها هذه الوسائل …، دون أن ننسى تغيير مفهوم النجاح ، فالنجاح في المدرسة لم يعد كما كان في الماضي القريب
يعني النجاح في الحياة ، فالمدرسة أصبحت مكانا لتخريج المعطلين وتكاد لا تخلو اسرة مغربية من معطل اواكثر ، وقد نتج عن هذا الواقع المر هذا العنف اليومي الذي تعرفه مدارسنا والذي من ضحاياه الاستاذ والتلميذ على حد سواء.
ü غياب الانشطة الموازية و انعدام الفضاءات الترفيهية
الملاحظ في السنين الاخيرة غياب الانشطة التربوية الإجتماعية والفنية والثقافية والرياضية ، و عدم استغلال الوقت الثالث للتلميذ ، وعدم وجود سياسات منظمة لأوقات الفراغ، وملئها بالأنشطة الترفيهية البديلة التي تشبع مختلف هوايات وميولات التلاميذ ، فالفراغ يدفع التلميذ إلى التعاطي للعقاقير المنشطة والمهلوسة والانضمام إلى مجموعات الرافضين للمجتمع وتقاليده وعاداته وقيمه،(ظهور مجموعات عبدة الشيطان ... وأخيرا ظهرت مجموعات تطالب "بسلخ" الاساتذة .) هذا الفراغ تشغله مقاهي الشيشة وقاعات العاب وغيرها التي يوجد اغلبها – مع الاسف الشديد- بالقرب من المؤسسات التعليمية ، حيث تبث السموم بما تعرضه من مواد محظورة كالحشيش والمعجون والقرقوبي بكل اشكاله واصنافه من الخطير إلى الأخطر، وما تعرضه من اشرطة سينمائية وغنائية هابطة ورديئة ، وما يمارس في هذه الأوكار من لواط وشذوذ جنسي ، كما ان التلميذ يصبج فريسة سهلة بين مخالب بعض الغرباء من مروجي المخدرات والقوادين ، الذين يندسون وسط تجمعات التلاميذ أمام المدارس ويتربصون بهم في فترات أوقات الدخول أو الخروج او اثناء فترات الاستراحة بسبب غياب المكتبات المدرسية وعدم صلاحية المرافق الصحية وانعدام فضاءات الاستراحة بجل المؤسسات التعليمية .
ü ضعف وسائل الإرشاد والتوجيه الاجتماعي والتواصل مع الاسرة
غياب النجاعة في تفعيل دور خلايا العمل الاجتماعي والإنصات و الحوار مع التلاميذ و مع الأولياء ، والغياب التام للدعم النفسي والصحي للتلاميذ المحتاجين لهذا النوع من الدعم ، و عدم رعاية التلاميذ المتعثرين دراسيا وغيرها من المشكلات التي يعاني منها التلاميذ كما يلاحظ غياب واضح لربط جسور التواصل مع اولياء الامور التلاميذ الذين يشكلون حالات خاصة ،بل يجب ان نعترف بأن هناك خلل في العلاقة بين الأسرة والمدرسة بل قطيعة بينهما وخصوصا بالنسبة للثانوي بسلكيه .
ü افتقار جل نساء ورجال التعليم الى التكوين وانعدام الشروط المهنية الصحية .
- ان التصادم بين الاستاذ والتلميذ مرده في حالات كثيرة الى جهل بعض الأساتذة بقواعد النمو السليم وبحاجات التلاميذ وإمكاناتهم،لافتقارهم إلى تكوين في مجال علم النفس البيداغوجي (الاساتذة المتعاقدون نموذجا). و إلى انعدام الشروط المهنية الصحية المريحة للعمل داخل المؤسسات التعليمية ، بسبب ضغط ساعات العمل وكثافة المواد والبرامج ، و الاكتظاظ و تعدد المستويات ،وغياب او او عدم كفاية الوسائل والوسائط الديداكتيية المساعدة . أو عدم توفر اساتذة بعض التخصصات مما يكون سببا في هدر الزمن المدرسي وارباك السير العادي للدراسة
ü المدرسة صورة طبق الاصل لما يقع في الشارع
لا يمكن فصل المدرسة عن واقع الشارع الذي يساهم في تكريس ثقافة العنف بشتى أنواعه ، بدءا بالعنف اللفظي الذي بات من أكثر مظاهر العنف تداولا حتى في الأسرة ، وانتهاء بالعنف الجسدي المتمثل في الضرب بشتى الوسائل ، و استفحال ظاهرة التشرميل وخصوصا في ابواب المدارس ، مما جعل التلميذ يتعرض لأزمة حقيقية في التلقي والاستيعاب، و خلق نوعا من الكراهة العدوانية بين التلميذ والمدرسة وبينه وبين الاساتذة ( التشرميل اصبح ظاهرة مخيفة واصبح " المشرملون " هم القدوة والمثال الأعلى للتلاميذ )
كما الاستاذ والتلميذ هم ضحايا العنف الذي يحضره كل منهما من بيته والناتج اساسا عن ضغط الحياة الاجتماعية والسياسية والظروف الاقتصادية السيئة المتمثلة في - بالنسبة للاستاذ - في هزالة الأجرة، أمام الالتزامات المتعددة والغلاء المتواتر للمعيشة،( معاناة مع النقل و التطبيب و تدريس الأبناء وصعوبة الحصول على السكن و العزلة والتهميش خصوصا بالنسبة للعاملين في المجال القروي…) والمتمثلة بالنسبة للتلميذ في فقر الاسرة وفي المشاكل الاسرية ، فالاستاذ والتلميذ يكادان يعيشان نفس الوضعية الاجتماعية التي لا يجد كليهما تصريفاً لها إلا في العنف كأسلوب لحل الخلافات بينهما .
ü الاستاذ لم يعد- كما كان- قدوة .
ان المتتبع اليومي لشاشاتها المرئية وقنواتها الفضائية، وبرامجها الحوارية و وبعض مجلاتها و صحفها وكل ما يصل إلى يد الفئة المستهدفة فيها، سيجد أن جل أو بالأحرى كل ما يقدم على أنه قدوة ، ممسوخ لا قيمة حقيقية لها: لا حضارية ولا فكرية ولا دينية ولا ثقافية، فما يقدم للناشئة كقدوة إنما هم لاعبو كرة قدم وإما ممثلون وإما مغنون ومن على هذه الشاكلة ، حتى صارت أمنية كل تلميذ أن يكون لاعبا أو مغنيا او ممثلا ، و هو أقصى ما يتمناه ويسعى له ابناء هذا الجيل الناشئ. و أصبح اللاعب، أو الفنان الممثل والراقصة والمغني وأشباههم ( مع احترامنا وتقديرنا للفنانين الملتزمين ) أعلى قدرا وأكثر هيبة ومحبة في قلوب الناشئة من المخترع المبدع أو أستاذ الجامعة أو المدرس مربي الأجيال فضلا عمن هو دونهم، أما من جهة الدخل المادي فلا مقارنة تذكر فرجل التعليم تحت عتبة الفقر مثقل بالديون ونموذج للمواطن " الحازق" اعزكم الله ،ناهيك - وهذه حقيقة يجب ان تقال- عن بعض الاساتذة الذين لا يشرفون هذه المهنة ولا يستحقون الانتماء الى اسرة التربية والتعليم .
ü معضلة اعادة التمدرس /الاستعطاف
تنص المذكرات الوزارية على ضرورة الاحتفاظ بالتلاميذ أكثر ما يمكن داخل النظام التربوي، وهو مجرد اجراء ديماغوجي لخدمة اهداف سياسية ، إذ ما الفائدة من السماح بإعادة التمدرس في غياب الشروط الضرورية ، ومنها على الخصوص : 1- تكوين خاص بالاساتذة 2- مناهج وبرامج خاصة 3- بنيات تحتية ملائمة 4- خطط استراتيجية لتتبع ولتقييم نتائج هذه العملية .
ولكن يبدو أنه نظرا لأن الدولة عاجزة عن ايجاد اي حل لهذه الشريحة من التلاميذ ، فلا تملك سوى اعادتهم الى مقاعدة الدراسة التي لفظتهم بعد ان استوفوا ، وعدم تركهم في الشارع باعتبار أن المدرسة فضاء يستوعب الجميع، والنتيجة - في غياب الشروط المذكورة آنفا - هي تحول التشرميل من الشارع الى المدرسة . وكنتيجة حتمية لهذه السياسة المنتهجة منذ الاستقلال فها هو الاستاذ المربي يهرول الى المستعجلات لرتق جرح غائر في وجهه وهو النشء اليافع ، عماد المستقبل ، يشق طريقه نحو مخافر الشرطة ومنها الى الزنزانة .