شهد علماء الهند على سلوك بوذا الاخلاقي بأنه شديد الضبط، قوي الروح، ماضي العزيمة، واسع الصدر، عزوفا عن الشهوة، بالغ التأثير، بريئا من الحقد، بعيدا عن العدوان، جامدا لا ينبعث فيه حب ولا كراهية، ولا تحركه العواطف ولا تهيجه النوازل، بليغ العبارة، فصيح اللسان، مؤثرا بالعاطفة والمنطق، له منزلة كبيرة في أعين الملوك، ومجالسه ملتقى العلماء والعظماء. وأورد الدكتور أحمد شلبي في كتابه ضمن السلسلة الرابعة عن أديان الهند الكبرى، جملة من السلوك الاخلاقي عند بوذا منها:
1- القصص التي تروى لتدل على تواضعه أن أحد تلاميذه قال له مرة: إنني أيها السيد أومن بكل قلبي أنه لم يوجد قط، ولا يوجد الان، ولن يوجد الى اخر الدهر مرشد أعظم قدرا واكثر عقلا من مرشدنا المبارك.
فأجاب بوذا: هل أنت قد عرفت كل العارفين الذين سبقوني، وهل عرفت كل العارفين الذين يأتون بعدي؟.
2- ومن أقواله الاخلاقية:
- .. ولكن ليس معنى هذا أن نغمض عيوننا عما يعانيه البشر من الفقر والشقاء زاعمين أنهم استحقوه بما جنته نفوسهم، إذ كل من يفكر هكذا ولا يتمسك بالأخوة العامة والمحبة الشاملة مع سائر الخلق، فلا شك أن ناموس الطبيعة يعاقبه أشد العقاب، لأنه خارج عليه بعدم بذله الجهد الذي يسبب العفو والرحمة، هذا وإن ناموس مستقل بذاته، نافذ بنفسه، لا يتأثر بمؤثر بشري أو إلهي أبدا.
- كما اقترح بوذا سلوكا أخلاقيا لإخماد نار الفتنة، بقوله:" اتبعوا الصراط السوي النير، إن هذا الصراط مستقيم لا عوج فيه، أما بابه، فهو تطهير الذهن، ونهايته السلام والحنان لكل الخلق من الاحياء، إن الذي سلك هذا الصراط، لا يقول، إنني أنا، وذلك الإنسان غيري، ولذلك ففي نفعه خسارتي، كلا بل هو يقول : يجب علي أنا الذي فزت بالبصيرة، أن أشعر بالحب والحنان لكل الخلق الذين قيدوا بهذه الأغلال، أغلال العلة وتعدد الحياة، ولقد كسرت أنا هذه الأغلال بنفسي بقلع الشهوة من قلبي".
- واقترح على الرهبان سلوك الطريق المثمن: 1- الاعتقاد الصحيح.2- العزم الصحيح.3- القول الصحيح. 4- العمل الصحيح. 5- العيش الصحيح. 6- الجهد الصحيح. 6- الفكر الصحيح. 7- التأمل الصحيح.
- ونص بوذا على المحبة الشاملة واعتبرها أهم وأفضل من الاعمال الحسنة لدى الجماعة البوذية، وقد قال بوذا في ذلك:" الحسنات على اختلاف أنواعها لا تبلغ سدس فضل المحبة التي تحرر القلب من شوائب الشر، لأن مثل هذه المحبة يتضمن سائر الحسنات إن المحبة تشرق نورا وبهاء، ترون على كل إنسان أن يغرس في نفسه الحب العميق الصادق لصائر الخلق".
ووجب قول الحق فسلوك بوذا لم يؤسس على دين وإنما استاقه من معارف سابقة عنه، وأكد ذلك أبو المكارم ازاد في مقاله :" التاريخ الجديد العام للفلسفة ( بمجلة ثقافة الهند، ص: 25)": يبدوا لي أن وضع بوذا في صفوف الفلاسفة أسهل من وضعه في صفوف الانبياء، وذلك لأنه لم يتعرض في مباحثه لوجود الله، بل حاول حل مسألة الحياة".
فأساس النظام الذي وضعه بوذا العمل لا العقيدة، فقد كان يحاول خلق عادة لا اقرار عقيدة، وعلى هذا ليس في تعاليمه إلا القليل الذي يصح أن يوصف بالعقيدة، كما أنه لم يأمر بعبادات ولا رياضيات تقشفية وكل إلحاحه كان على التدريب الاخلاقي.
ومما سبق فقد وقفنا على نماذج من السلوك الاخلاقي للبوذية في حياة مؤسسها، كما رأينا في المقال بأنها نظاما أخلاقيا، واتجاها تربويا، ولكنها أخذت تتطور من قرن الى قرن حتى سمعنا هذا الانحراف الذي أصيب به رهبان البوذية من سفك للذماء وتعصب ديني لبوذية المذهب الجنوبي، والتي تنتشر في بورما وتايلاند وسيلان، وكتبها المقدسة مكتوبة باللغة البالية وهي لغة هندية قديمة.
هذا يسلمنا إلى حقيقة هامة هي: على مؤسساتنا العلمية والثقافية من معاهد وجامعات أن تنفتح على هذه الثقافات، والوقوف على قيم الائتلاف لا الاختلاف، حتى ننشد عالما تسوده الاخلاق النبوية:" انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق". وإلا ستعرف الحضارات صراعا دينيا كما نظر اليه الخبير الامريكي صامويل هنتكتون في كتاب صراع الحضارات.وواجبنا نحن الباحثين أن ندرس ثقافة الشعوب وأن ندرسها، حتى نرفض ما نرفضه، ونقبل ما نقبل عن بينة، لا عن جهل، وإلا كانت خسارتنا فادحة في هذا المجال.
كما لا أنسى أن أشير في هذا المقال على النقاش الذي دار ويدور حول مادة علم الاديان، يوم كنا ندرس المذاهب العقدية في الديانات تحت اشراف الدكتور محمد الاسماعيلي بجامعة محمد الخامس كلية الآداب الرباط. فريق يرى أن من واجب الجامعة تدريس فروع المعرفة، سواء كان أساس هذه المعرفة وحيا سماويا، أو انتاج العقل البشري، ثم تستخلص منها ما يعود على المجتمع بالخير. وفريق ثاني: يرى أن من واجب الجامعة أن تعني بتدريس المواد الدينية فقط، أو ما يتعلق بها من قريب أو بعيد، كعلوم التربية والاجتماع.. وما عدا ذلك، فلا يجوز أن تتضمنه خطط الدراسة، وخاصة إذا كانت له صلة بعقائد الشعوب الاخرى، لأن في تدريسها خطر على عقيدة الطالب. وهنا تدخل الدكتور الاسماعيلي بقولة للباحثين لا أنساها " أنتم درستم العقيدة الاسلامية وفهمتموها وحفظناكم إياها عن ظهر قلب، وجئناكم بأساتذة من مختلف الاديان ليدرسوكم دينهم حتى
تعرفوا قيمة تدينكم ودينكم والنعمة الالهية لاصطفائكم في ماستر المذاهب العقدية في الديانات".
كما فرض هذا المقال ( قراءة في أخلاق بوذا وانحراف البوذيين اليوم) طرح السؤال الاشكالي التالي: فهل يكون تدريس أخلاقيات الاديان خطرا يجب اتقاؤه؟ لن أجيب عن هذا السؤال وإنما سأعرض على باحثي جامعاتنا أن يتفرغوا له في أطاريحهم حتى ينيروا بها ثقافتنا نحو السمو الانساني.