في خطوة استباقية للتصدي لنقص متوقع في عدد أطباء الأسنان ببعض المناطق قامت الدولة الفرنسية ،بإيعاز من الجماعات الترابية المعنية، بتبني تعديل للاتفاقية الموقعة بين كنفدرالية نقابات الأسنان و الاتحادات الوطنية لصناديق التأمين عن المرض. التعديل ضم ما اصطلح عليه بالعقد التحفيزي لأطباء الأسنان. هذا التعديل دخل حيز التنفيذ منذ فاتح فبراير 2013 حيث يهدف في مجمله إلى تشجيع أطباء الأسنان الراغبين في العمل بالقطاع الخاص من فتح عياداتهم بالمناطق التي تفتقر ساكناتها لعدد كاف من أطباء الأسنان. يشمل هذا التحفيز إعفاءات من بعض الضرائب و الإستفادة من مساعدات جزافية حسب نصوص منظمة لهذه الاتفاقية في مقابل توفير و تقريب خدمات طب الفم و الأسنان للساكنة. في المغرب -و على الورق- ينص الدستور في فصله 31 على أن الولوجية لخدمات الصحة حق لكل مواطن و على الدولة و المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين من حق الصحة. إلا أنه و في محاولة لإسقاط ما يقتضه هذا الفصل على واقع طب الأسنان ببلادنا نلمس حجم الهُوّة بين ما خُطَّ في الدستور الجديد و ما هو معاش على أرض الواقع. سنة 2014، و خلال افتتاح المناظرة الثانية لطب الأسنان بالرباط، أكد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران سعي الدولة للتخلي عن طب الأسنان لصالح الخواص مُتحجِّجا في قوله هذا بكون هذا القطاع معقد التدبير و يستحسن أن تتفرغ الدولة للقطاعات التي تضبطها بشكل جيد، لكن -يضيف بنكيران- هذا لا يعني تملص الدولة من مسؤوليتها رغم الخوصصة. بالرجوع للأرقام فكلام بنكيران وقتها لم يكن سوى تحصيل حاصل لكون الخمسة آلاف طبيب أسنان التي تتوفر عليها المملكة تتوزع على النحو التالي: 4300 ينشطون بالقطاع الخاص و500 فقط بالقطاع العام إضافة إلى حوالي 200 طبيب أسنان في خدمة القوات المسلحة الملكية. و بما أن الأرقام تزكي تصريح بنكيران في طرح القطاع الخاص كبديل وحيد لخدمات طب الفم و الأسنان مستقبلا، فأين يكمن دور الدولة في تأطير الخواص استجابة لمتطلبات المواطنين خصوصا في ما يتعلق بالتوزيع الجغرافي لأطباء الأسنان و بحسب الكثافة السكانية؟! معلوم أن العديد من القرى و المراكز الحضرية في المغرب لا تتوفر على طبيب أسنان واحد مما يجعل المواطنين أمام أمرين أحلاهما مر: السفر (بكل تكاليف النقل و المبيت أحيانا) نحو المدن المتوفرة على أطباء أسنان أو اللجوء لأوكار منتحلي صفة طبيب أسنان مما يجعل المواطنين معرضين بنسبة كبيرة لمضاعفات صحية تؤدي أحيانا للموت كما حصل قبل أيام مع الطفل إلياس عزوز ذي 12 ربيعا بعد خلع ضرس بأحد الاوكار بمنطقة واد لاو (شمال المغرب) ترتب عنه تعفن ميكروبي مصحوب بنزيف حاد لم يمهل الطفل سوى ساعات قليلة ليلفظ الطفل آخر أنفاسه. إن غياب تصور واضح في هذا القطاع يجعل الحكومة ترتجل صياغة مخططات محكوم عليها مسبقا بالفشل. الحديث هنا يسوقنا لملف مكافحة الممارسة غير الشرعية و مشروع قانون 25/14 الذي تقدم به وزير الصحة السيد الحسين الوردي و الذي يهدف إلى تقنين ممارسة مهن الصحة بحسب الكفاءة و الشهادات المخولة لذلك (و هو بالمناسبة مشروع القانون الذي أثار حفيظة منتحلي صفة طبيب أسنان). خطوة جريئة تحسب لوزير الصحة إلا ان التصدي للممارسة العشوائية يفترض مزاوجة هذه المقاربة القانونية و الرامية لتنظيم القطاع بخطوة أكثر جرأة لتدبير النقص الحاد في أطباء الأسنان في القرى و كذلك المدن الصغرى، خصوصا أن الممارسين العشوائيين يجدون في غياب أطباء الأسنان بقرى و مدن المغرب العميق حجة لفرض أنفسهم كبديل فيما عجزت عن توفيره الدولة لمواطنيها. و لا أدل على ذلك احتضان مدينة كلميمة (بالجنوب الشرقي) لقاء لتنسيقية تضم مختلف الجمعيات الممثلة لصناع الأسنان بدعوة من المنظمة الديمقراطية لصناع الأسنان. و لم يكن اعتباطيا إختيار مدينة تنتمي لأفقر جهة و لا وجود فيها لطبيب أسنان واحد لتنظيم لقاء بحجم كهذا. الرسالة تحمل دلالات عدة تسير في نفس المنحى المراد منه إظهار صانع الأسنان كعنصر لا محيد عنه في معادلة توفير خدمات طب الأسنان للمواطنين بالمناطق الصعبة الولوج في محاولة لتبخيس و إجهاض مشروع القانون 25/14. إن الدولة المغربية و طبقا لما ورد في الفصل 31 من الدستور ملزمة بإيجاد صيغة تمكن من إعادة توزيع و إنتشار أطباء الأسنان بما يكفل للمواطن حقه في الاستفادة من الوقاية و العلاج بشكل يحفظ كرامته أولا و سلامته ثانيا بعيدا عن أوكار منتحلي الصفة و المشعوذين. الاقتداء بالتجربة الفرنسية في توفير أطباء الاسنان بالمناطق التي يعوزها هذا التخصص الطبي يبقى حلا معقولا إذا توفرت الإرادة السياسية الكافية للمضي في هذا الاتجاه. كما من الممكن (و هذا إقتراح شخصي) تدارس إمكانية العمل بنظام المسافة القانونية بين عيادات طب الأسنان على غرار ما هو معمول به لدى الصيادلة مما قد يساهم في تحسين التوزيع الجغرافي الحالي لأطباء الاسنان و تمكين الاحياء و القرى والمدن الصغرى و المهمَّشة من خدمات طب الفم و الأسنان.