لقد شكلت سنتي 2007 و 2008 ربما فرصة لاعادة النضر في نضام صرف الدرهم لكون هاتين السنتين عرفتا على التوالي فائضا موازناتيا لاول مرة في تاريخ المغرب. اما مؤشرات الاطار الماكرواقتصادي فقد كانت جد عادية كمثيلاتها اليوم. هذا الاطار لا يزال هشا نسبيا حيث ان الرصيد الاجمالي للميزانية و رصيد الميزان التجاري كانا ولا يزالا يححقان عجزا بنويا. ذلك ان العجز الموازناتي في المعدل يتجاوز 3 بالمائة و مديونية الخزينة (دين الادارة المركزية) بلغ الحد الاقصى وغير قابل للاستدامة بعتبة 65 بالمائة من الناتج الداخلي. أما الصادرات المغربية فمرونتها ضعيفة اذ لا تغطي الا نصف الواردات. اضافة الى ذلك، فاقت البطالة الرقمين باكثر من 10 بالمائة هذه السنة خصوصا بطالة الكفاءات... فبالرغم من ان سنتي 2007 و 2008 عرفتا فائضا موازناتيا فلم يتم النبش في موضوع مرونة العملة المغربية رغم الالحاح المتواصل لصندوق النقد الدولي فيما قبل لان وزارة الاقتصاد والمالية كانت دائما تعتبره من المواضيع الحساسة جدا نضرا لتدعياته. فماذا تغير اذن منذ ذلك الحين الى اليوم في محددات اقتصادنا لكي يفكر السيد والي بنك المغرب في تعويم الدرهم ؟ لا شيء يذكر سوى
الاجراءات الاقتصادية الفاشلة، جزئيا او كليا، والتي ادت الى الاحتجاجات الاجتماعية المتزايدة على بلدنا.
لقد كنا ننتضر من السيد والي بنك المغرب أو ''مساعده'' وزير الاقتصاد والمالية أن يعطينا تبريرا عمليا او حتى نضريا مقنعا عن الضرورة الملحة و الجدوى من قرار التعويم الجزئي أو الكلي حاليا. وبالرجوع الى تصريح اعلامي للسيد وزير الاقتصاد والمالية مؤخرا قال فيه بان خيار تعويم الدرهم المغربي استوحاه من اطار تحليلي ''نضري'' يدعى في الاقتصاد الكلي الدولي ''مثلث المستحيلات'' نسبة الى الاقتصادي الكندي ''ماندل'' و صديقه البريطاني ''فليمين''.
الا اننا ناكد ان المغرب في وضعيته الحالية بتبنيه نضام صرف ثابت للدرهم (الهدف الاول) فهو يحترم الاطار النضري ل''ماندل'' لانه يتوفر على سياسة نقدية ''مستقلة'' (الهدف الثاني) بدليل انه ليس عضوا في اتحاد نقدي و لا يسمح بتنقل حر للرساميل بينه وبين الخارج على اثر عمليات مراقبة التدفقات (الهدف الثالث لماندل)، باستثناء العمليات بالعملة التي يقوم بها المواطنون الاجانب اثر استثماراتهم بالمغرب.
هكذا يتبين ان الحجج المقدمة من طرف الحكومة مجانب للصواب لان مضمون اهداف مثلث المستحيلات ''لماندل'' و صديقه ''فليمين'' تتناسب مع حالة المغرب الذي يحقق هدفين من بين الثلاثة و يتخلى بالشكل المطلوب من طرف ''مانديل'' على حرية تنقل الرساميل. هكذا لا نجد مجالا نضريا للتفكير في تعويم كلي للدرهم.
سنشرح في المحور الاول بتفصيل مضامين الاهداف الثلاثة لماندل. وفي المحور الثاني سنقوم بتعليق حول الخطاب الرسمي التي يسعى الى تمرير قرار تعويم الدرهم باي ثمن و سنبين كذلك كيف استطاعت الصين، بخلق استثناء غريب، و الجمع بين المستحيلات الثلاث في ان واحد. مما سيمكننا بالخروج بتوصيات مهمة بخصوص نضام الصرف في المغرب في المحور الثالث.
المحور الاول. الاهداف الثلاثة لمثلث المستحيلات ل ''لماندل''
يعتبر مثلث المستحيلات لماندل مبدءا اقتصاديا تم التنضير له من طرف الاقتصاديان روبير ماندل و ماركوس فليمين حيث ينص على استحالة تحقيق ثلاثة اهداف في ان واحد في اقتصاد وطني وهي : تواجد نضام صرف ثابت بجانب سياسة نقدية مستقلة للبنك المركزي و حرية مطلقة لتدفق الرساميل مع الخارج. فالمغرب حاليا يحقق الهدفين الاولين في حين يتخلى عن الهدف الثالث لانه لا يسمح بتنقل حر لرساميله من و الى الخارج، بالشكل الذي يتسق مع متطلبات ماندل.
حسب هذا الاطار التحليلي، فكل هدف له ايحابيات حيث ان سياسة سعرف صرف ثابت لها حسنات حيث تنعش الصادرات وتسمح بمحيط نقدي مستقر. فالسياسة النقدية المستقلة للبنك المركزي تسمح بتثبيت اسعار الفائدة بالشكل الذي يسمح من تغطية حاجيات الاقتصاد الوطني من اجل التحكم في التضخم و محاربة البطالة أو انعاش النمو الاقتصادي. اما حرية حركية الرساميل فهي تمكن من انعاش المبادلات التجارية و من تخصيص امثل للموارد المالية و تسمح بالولوج الى الرساميل في ضروف مرضية. ورغم ايجابيات كل هدف على حدة فان حسب ''ماندل'' يستحيل تحقيق الاهداف الثلاثة في ان واحد لهذا يجب التخلي عن هدف واحد و تحقيق الهدفين الاثنين الاخرين. والجدير بالذكر ان الصين شكلت استثناءا كما تبين سنة 2012 حيث جمعت المستحيلات.
فاذا انخفضت اسعار الفائدة في البلد هربت الراساميل الى الخارج بحثا عن مردودية اكبر للتوضيف المالي و الاستفادة من اسعار فائدة مرتفعة. هذا الهروب في الرساميل يجعل الفاعلون يتخلصون من العملة الوطنية مما يؤدي الى تدهور قيمتها. و عكس ذلك، فان أي ارتفاع في اسعار الفائدة وطنيا يؤدي الى دخول الرساميل الاجنبية للبلد و ارتفاعا في قيمة العملة الوطنية.
فحسب ''ماندل'' هناك ثلاثة خيارات. و اما الخيار الاول فهو التخلي عن سياسة نقدية مستقلة مع اعتماد سياسة سعر الصرف الثابت و حرية الرساميل وهي حالة الدول المنضوية في اتحاد نقدي. وهي وضعية غير متناسبة مع حالة المغرب.
واما الخيار الثاني فهو التخلي عن سعر صرف ثابت (بمعنى تبني التعويم الكلي) مقابل الاحتفاض على سياسة نقدية مستقلة للبنك المركزي و السماح لحركية مطلقة للرساميل. وهي حالة غير متناسبة مع حالة بلدنا كذلك.
عكس ذلك، يتناسب الخيار الثالث ل''ماندل'' مع وضعية المغرب حاليا والتي تفرض التخلي عن هدف حرية تدفق الرساميل و سن مزيد من المراقبة من أجل حصر حركية الرساميل خصوصا خروجها و بالمقابل الاحتفاض باستقرار سعر الصرف في سعر ثابت و تبني سياسة نقدية مستقلة للبنك المركزي.
المحور الثاني. قرار تعويم الدرهم قرار بدون سند نضري
لقد ورد على لسان السيد وزير الاقتصاد و المالية انه يستحيل الجمع في ان واحد ما بين ثلاثة اهداف بناءا على نضرية ''ماندل'' وهو ما نحن متفقين عليه، رغم الاستثناء الذي تقدمه الصين كما سلف. ويجب اثارة الانتباه، الى ان السيد الوزير تحدث عن هدف ''الانفتاح التجاري'' للمغرب و الحالة هاته أن ''ماندل'' لم يتحدث عن الانفتاح التجاري وانما عن ''حرية حركية الرساميل'' كهدف و الفرق شاسع ما بين الامرين لان التنقل الحر للرساميل اوسع من التبادل الحر من طبيعة الحال.
وكما يعلم الجميع، فان المغرب لم يحرر كليا حسابه للراسمال، وكان محقا في ذلك، حيث اقتصرت حرية تنقل الرساميل على الاجانب الذين يقومون باستثمارات في المغرب والسماح لهم من تحويل ارباحهم الى بلدانهم، وهذا امر مفروض. اما بالنسبة للمواطنون المغاربة فليس لهم الحق بالقيام بتحويلات حرة ومطلقة في الرساميل مع الخارج لان هذه التحويلات مراقبة، الهم اذا تم اعتماد طرق ملتوية في شكل هروب الرساميل.
اضافة الى ذلك، يفترض نموذج ''ماندل'' علاوة على ''حرية حركية الرساميل''، يلعب سعر الفائدة يلعب دورا مفصليا في توازن الاسواق الثلاثة المتعلقة بالسلع و النقد و الصرف. لكن في حالة المغرب، فاسعار الفائدة هي شبه ثابتة و ليست نتاجا للعرض و الطلب بقدر ما هي محددة من طرف بنك المغرب و متحكم فيها من طرف اللوبي البنكي بالشكل الذي لا يترجم توجيهات بنك المغرب حيث ان
ثلاثة او اربعة ابناك فقط تستحوذ على ثلثي الودائع و القروض و التأمينات في تجاوز لتوجيهات بنك المركزي والذي لم يستطع منذ سنوات كسر هذا الاحتكار.
اما بخصوص الصادرات و الواردات فان نموذج ''ماندل'' يفترض مرونة اكبر للصادرات و الواردات ذلك لانه نموذج متسق مع الاقتصاديات المتقدمة وليس الاقتصاديات الناشئة. هذا ما لا يتحقق في الاقتصاد المغربي حيث مرونة الصادرات مع اثمنتها ضعيفة جدا لان شركائنا لا يستوردون من المغرب الا كميات محددة سلفا دون اي ارتباط بتخفيض اثمنة الصادرات. نفس الشيء ينطبق على الواردات التي تصبح باهضة الثمن لنفس الكمية المستوردة أو اكثر خصوصا المواد الطاقية و التجهيزات الاساسية لانها مواد ضرورية لا ينتجها اقتصادنا. هذه المرونة يصطلح عليها في ادبيات الاقتصاد الدولي بمرونة ''مارشال - لورنير''.
في الدول المتقدمة كالدول الاوروبية أو الامريكية، المنضوية في اتحاد نقدي، فان ثقة الفاعلين كبيرة في الاقتصاد و في عملته مع توفر احتياطي كبير من العملة، فان تعويم العملة بالنسبة لهاته الدول له ايجابيات تكمن في تحديد ثمنها بميكانيزمات العرض و الطلب في السوق و يعبر هذا الثمن عن الحقيقة يترجم المحددات الاقتصادية و يمكن من تخصيص امثل للموارد.
هكذا فان أي تدهور في قيمة الدرهم ب 10 بالمائة يؤدي فورا بارتفاع فاتورة الواردات ب 10 بالمائة مما يتسبب في ارتفاع الاسعار في الداخل و انخفاض قيمة الصادرات تقريبا ب 10 بالمائة. ناهيك عن ارتفاع الدين ب 10 بالمائة كذلك. اما من جانب المضاربين فهم يربحون 10 بالمائة من المبلغ المستثمر.
المحور الثالث. التوصيات
انطلاقا من هذه الاعتبارات العلمية و العملية و اعتبار امكانية اختيار نضام صرف ياتي بين المنزلتين، ما بين نضام سعر الصرف الثابت و نضام سعر الصرف العائم كليا، نضام يمزج ما بين تدخل بنك المغرب لتثبيت سعر الصرف و قانون العرض و الطلب في سوق العملات، فاننا نقترح في حالة المغرب ما يلي :
اولا. توسيع طفيف في هامش تغيير سعر صرف الدرهم بتحديد حد ادنى و حد اقصى، هذا اذا ما قبل صندوق النقد الدولي و التخلي عن التفكير في التعويم الكلي للدرهم لان لا الضرورة و لا المناسبة تسمحان به،
ثانيا. الاستمرار في اغلاق حساب الراسمال امام خروج الرساميل المغربية الى الخارج و تقوية المراقبة لتفادي تدفق رساميل المضاربة الحاملة للازمات و محاربة هروب الاموال،
ثالثا، تمكين استقلالية السياسة النقدية و معالجة بنك المغرب لاشكالية عدم ترجمة الابناك لتوجهاتها فيما يخص تخفيض اسعار الفائدة.