تعيش منطقة الريف المغربي في شمال البلاد، و تحديدا مدينة الحسيمة وضواحيها، ما يسميه البعض بالحراك أو "حراك الحسيمة"، وهي كلمة تحمل دلالات سياسيوية الهدف منها الركوب على مطالب اجتماعية مشروعة لأبناء المدينة الجميلة وباقي أبناء شعبنا في كل مناطق البلاد من طنجة إلى الكويرة ومن وجدة إلى مغارة هرقل والساحل الغربي على المحيط وتحويل هدف الخروج السلمي للمطالبة بالحقوق إلى منبر سياسي للتناحر والمزايدات والتشكيك والتخوين وغيرها من المصطلحات النعروية (من النعرة والفتنة). خرج أبناء الحسيمة إذا بأسلوب حضاري مطالبين بمطالب اجتماعية ورفع التهميش الذي لحق بمنطقتهم، وإن كان التهميش يطال أكثر من 80% من مناطق المغرب العميق، إلا أن الحسيميين قرروا البدء وعدم انتظار باقي المناطق وخرجوا منكرين ورافعين صوتهم منددين بسياسة التهميش ومطالبين برفع الحيف عن سكان منطقتهم وباقي المناطق، خصوصا وأن الحكومات المتعاقبة في بلادنا منذ الاستقلال يقودها أناس همهم الوحيد الكرسي وخدمة المصالح الشخصية والوصول إلى المناصب العليا، وماذا ينتظر من أناس ينجحون في الانتخابات التشريعية بالأموال وشراء الذمم، وهنا أيضا يلام الناخب البسيط الذي يبيع ذمته لمن سينهب حقوقه وحقوق غيره فيما بعد.
"حراك الحسيمة" وقع إذا وخرج الناس وطالبوا بحقوقهم وقالوها صراحة "لا نثق بأحد من المنتخبين والوزراء والحكومة ونريد أن نرى نتائج ملموسة على أرض الواقع وإطلاق برنامج تنمية شامل من مستشفيات ومدارس وجامعة وخدمات وشركات استثمارية تنعش سوق الشغل وتحسين ظروف العيش للسكان"؛ ولم يناد أحد من السكان بالانفصال ولم يمس برموز الدولة ولا التعرض لشخص ملك البلاد ورئيسها المسؤول الأول، وأنا هنا اتكلم على سكان الحسيمة وليس على أشخاص.
في المقابل ظهر شاب إلى الساحة ونصب نفسه زعيما "للحراك" وجمع حوله مجموعة من الشباب الذين رأوا فيه "البطل الفاتح" وربما رأوا في وجه صورة زعيم ثورة الريف ضد الاحتلال الإسباني "محمد بن عبد الكريم الخطابي"، حيث أن المسمى ناصر الزفزافي، وهو شاب مندفع وحماسي تبدو عليه براءة المراهق السياسي أو الزعيم المتهور المفتقد لأبجديات الحنكة السياسية وآليات العمل الجمعوي، وبدأ يخطب في التجمعات ويطل على العالم عبر بوابة وسائط التواصل الاجتماعي والتسجيلات المرئية، متهما الدولة والمخزن ومن يمثلهم من سلطة وأعوانها ومنتخبين بأنهم عصابة مجرمين وسراق وناهبين للثروة وغيرها من النعوت القدحية التي قد تكون صحيحة بنسب متفاوتة وقد تكون غير دقيقة وهو بذلك يتحمل مسؤولية ما يقول على من يتهمهم في الدنيا وفي الآخرة.
تهور ناصر وتضخمت شخصية القائد المغوار فيه فدفعته لارتكاب بعض الأخطاء التي ليست من اختصاص "الحراك" ولا روح رسالته التي رفعها الحسيميون مطالبين فيها بمطالب اجتماعية صرفة تتغيا تحقيق ظروف اجتماعية مناسبة وحياة كريمة والحق في تعليم وتطبيب وشغل وسكن يليق بالعيش الكريم؛ فمرة يصف الاستعمار الإسباني بالرحم من الاستعمار العروبي، وثارة يثني على محمد بن عبد الكريم الخطابي، رحمه الله، على أنه أحد "الصحابة المبشرين بالجنة" بقوله رضي الله عنه وأرضاه، وهي كلمة لم يقلها حتى أشد المتملقين على محمد الخامس رحمه الله، ثم إنه خلال جميع قيديوهاته وخطبه لم يذكر كلمة أنه" كمغربي" "كمغاربة" بل دائما ينزع بنعرة التمييز العنصري والعرقي باستعمل كلمة" ريف – ريفي"، ولم نره ولا غيره في يوم من أيام المظاهرات حاملا أو ملتفا براية البلاد في رسالة وطنية صادقة، لأن الرية راية المغاربة والوطنية وليست ملكا لأحد أيا كان منصبه، فهي لا تمثل لا المخزن ولا النظام بل تمثل رمز الوطنية و"تمغرابيت" التي ناضل من أجلها أجدادنا وأسلافنا وسقوها بدمائهم الطاهرة الزكية في وجه المحتل.
وأخيرا ختم الزفزافي تهوره، وأنا هنا لا أتحامل عليه بل تعاطفت معه في البداية ولا زلت لأني أعتبره متهور ومراهق سياسي لا يفقه دواليب وأزقة ودروب السياسة والنضال، يعني "نية" كما نقول بالدارجة، فحاد بروح المطالب الاجتماعية المشروعة إلى التدخل في أمور ليست من أولويات"الحراك" فوصل به الأمر إلى مقاطعة خطيب الجمعة في المسجد والتهجم عليه بدعوى أنه ضد "الحراك"، ولا أعتقد أن ناصر أو أيا كان وهو ذاهب إلى المسجد يتوقع أن تكون الخطبة مفصلة على مقاس أفكاره، ثم إن التوجه إلى بيوت الله هو للعبادة وليس للتجادل والجدل الذي هو منهي عنه" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"؛ فما كان عليه أن يقاطع الخطبة ويفسد على الناس جمعتهم خصوصا وأنه حتى " إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت" فما بالك إذا أوقفت الخطبة! وإن كان موضوع الخطب والأئمة والعبادة بشكل عام في مساجدنا أصبح حالها لا يسر مع التوفيق وهذا موضوع آخر قد نعود إليه.
إذا تهور الزفزافي ووقع في المحظور وأعطى فرصة قانونية "لخصومه" لإيقافه بالقانون ومحاكمته بتهم قد تكون ثقيلة وتؤثر ليس فقط على فرصه في "الزعامة والقيادة" ولكن على حياته الخاصة كشاب؛ وتحول من "زعيم" قومي "للحراك" إلى معتقل "رأي" وبذلك هدم كل ما بناه وحول مسار "الحراك" من مطالب اجتماعية عادلة إلى مطالب بإطلاق سراحه ومن معه.
وفي ضوء كل ما تقدم وتبيانه، دعونا نروم نداء العقل والوطنية الصادقة، ونتوجه إلى العقلاء في البلاد، وفي مقدمتهم جلالة الملك، مطالبين إياه بالتدخل السريع بحكمته المعهودة وحرصه الكبير على حل قضايا أبناء الوطن والاهتمام بالجانب الاجتماعي الذي فيه كرامة المواطنين، من تعليم وصحة وسكن وفرص شغل وكرامة إنسان وحقوقه، خصوصا وأن نهضة الشعوب تقاس بمستوياتها المعيشية، فلا نقبل في القرن الواحد والعشرين أن تلد النساء على أبواب
المستشفيات، ولا أن يضم الفصل الدراسي الواحد 60 تلميذا، ولا أن يئن المرضى في مستشفيات فارغة بلا عناية، ولا أن يتدور الشباب الحامل للشهادات في الأزقة والدروب بدون شغل ولا أن يعيش سكان القرى النائية في كل مناطق البلاد في عزلة تامة عرضة للبرد القارص والحر الشديد والجوع والعطش والتهميش وغياب المستشفيات والمستوصفات والمدارس والخدمات، ولا أن يظل صغار الفلاحين بلا دعم ولا إعانة على تطوير منتوجهم ولا ولا ولا... والأمثلة كثيرة لأنه مع كامل الأسف من يفترض فيهم أنهم يمثلون هؤلاء من نواب ومستشارين ووزراء لا يزورونهم إلا خلال فترة الحملات الانتخابية بهدف كسب أصواتهم والوصول بها إلى مآربهم ولا أحد عنده من المروءة والشهامة وروح المسؤولية والمواطنة الصادقة ما يؤهله لخدمة المواطن ويراعي الله تعالى في عمله أداء الأمانة المنوطة به.
إن حل مشكلة الحسيمة و"حراكها" ليس باعتقال من اعتبروا مشاغبين ومحرضين، ناصر الزفزافي ومن معه، ولكن جوهر الحل في الاستجابة لمطالب الشعب وتوفير العيش الكريم للمواطنين وتحسيسهم بقيمتهم كمواطنين فاعلين في المجتمع بل عموده الفقري. إن الأمم المتقدمة تقدمت بالعدل والمساواة بين مواطنيها واحترام عقولهم وذكائهم وقبل كل شيء احترام إنسانيتهم وكرامتهم وتوفير سبل الحياة والعيش الكريم لهم والاستثمار في الجانب الاجتماعي وتوفير السكن اللائق وظروف العيش الضامنة للكرامة حينذاك تقدمت وسادت وتطورت وصانت كرامة مواطنيها؛ فماذا ينقصنا نحن، ولو على طريقتنا، للقيام بالشيء نفسه والاستجابة لمواطنينا.
أخطأ الزفزافي أو أصاب، اعتقل أو أطلق سراحه، مع أنه لم يرتكب جرما واضحا، ما لم تكن أشياء خفية لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، فكل هذا ليس مهم بل الأهم هم مطالب الناس بتحسين أوضاعهم والحد من الهوة بين الفوارق الاجتماعية والعمل بصدق على النهوض بالطبقات الهشة وحفظ الكرامة الاجتماعية للمواطنين لأن الضغط يولد الإنفجار والمتربصون بوحدة الوطن كثر والعالم يحسدنا على استقرارنا ويحسدنا على تحكيم شعبنا للغة العقل والابتعاد عن العاطفة في مطالبه كما حدث في دول كثيرة، انتهت بالفوضى العارمة والدخول في نفق له أول وليس له آخر والمثلة كثيرة.