خرج الرئيس الفرنسي الأسبق من قصر الإليزي كما لم يدخله من قبل ،سلّم السّلطة لخلفه ماكرون الذي فاز في الانتخابات ،لم يرفض نتائج الانتخابات، ولم يشكّك في نزاهتها كما يفعل الكثير من زعمائنا ،خرج برأسه مرفوعاً ، لم يفكّر في تهريب الذّهب إلى دولة أجنبية كما يفعل عادة الطغاة في بلداننا عندما تعصف بهم رياح التغيير ، بل منح للشّعب فرصة من ذهب للاختيار، وسهر على أن تمر العملية الانتخابية في جو تسوده الديمقراطية، وأعطى الدروس لكثير من الطغاة في العالم العربي وفي دول المغرب الكبير من الذين لا يؤمنون إلا بالكرسي. فرنسا أعطت الدروس للعالم جميعا في الديمقراطية ، وشعبها المتحضر أثبت للعالم أيضا أنّه لا وجود للتّقدم دون الاهتداء إلى الديمقراطية، وهذا ما رأيناه خلال الحملة الانتخابية من تنافس شريف قلّما نجده في أوطاننا التي غالبا ما يحكمها العسكر، أو تحكمها أنظمة شمولية تجثم على صدور الشعوب إلى ما لا نهاية.
فرنسا انتصرت فيها الديمقراطية ،وانتصرت فيها قيم التّسامح على قيّم الكراهية، لكن ماذا عن أوطاننا التي يحكمها الأصنام؟ لماذا لا يتعلّم من يحكمها بالنار والحديد الدروس من هذه الدول ؟ولماذا لا يتعلّم هؤلاء أن يدخلوا إلى السلطة عبر الصناديق لا عبر البنادق؟ ثم لماذا لا يتعلم هؤلاء مغادرة الكراسي بسلام كما يفعل الزعماء في الدول الغربية .
لا أحد ينكر أن الزعماء في دول العالم العربي وفي دول المغرب الكبير كانوا يتابعون ما يحدث في فرنسا باهتمام زائد ، وربّما سيصابون بالقلق تجاه العرس الديمقراطي الذي جسّده الشعب الفرنسي، بل هؤلاء بلا شك سيصابون بالإحراج أمام شعوبهم التي يحكمونها إلى أن يشاء الله، ولو أنّ هؤلاء وجدوا طريقاً لنسف هذا العرس لفعلوا ذلك بلا تردّد، فأحداث الربيع الديمقراطي أثبتت بما لا يدع مجالا
للشك أن الطغاة لا يريدون لأي دولة كيفما كانت أن تنجح في الاختبار الديمقراطي ، بل هؤلاء يحاولون بكل ما يملكون من وسائل إفشال أي تغيير قد يضر بعروشهم.
تخيّلوا لو أنّ ماكرون قدّر له أن يولد في إحدى دولنا التي يحكمها الطغاة ،هل سيكون بمقدوره أن يحلم بمنصب رئيس الجمهورية؟ وهل سيكون بإمكانه الوصول إلى القصر الرئاسي بواسطة صناديق الاقتراع الشعبية ؟
في بلداننا حيث الطغاة يحكمون، لا حياة لمن تنادي ،قتلوا الديمقراطية، قتلوا الحرية ،وقتلوا حتى الأحلام ،فإذا كان الغرب يتيح لمواطنيه إمكانية الحلم وتحقيقه فإنّنا في أوطاننا ممنوع علينا أن نحلم لا بالسياسة ولا بالرئاسة، فكلّ ما تحلم به الشعوب في هذه الأوطان هو أن يحالفها الحظ لتبقى ميّتة على وجه الأرض، أمّا ما يتعلق بالحكم فهو للحاكم وأبنائه لا شريك لهم فيه،وبه يستفردون.
كم من حاكم في أوطاننا بلغ من العمر عتيّا، و كم من هؤلاء بقي في الكرسي حتى جاءه الموت ، بل من هؤلاء من ثشبّث بالسلطة وهو عاجز حتّى على مخاطبة شعبه ، ومع ذلك يرفض أن يتخلى عنها في صورة مآساوية تظهر الفارق الكبير بيننا وبين الدول الغربية التي طالما تقدم لنا دروسا في الديمقراطية.
تشبيب الحياة السيّاسية من الأشياء التي أصبحت تفرض نفسها في الدول الغربية عبر ضخ نخب شابة قادرة على مواجهة التحديات ،على عكس أوطاننا التي ترفض التغيير وتمتعض من فكرة تشبيب الحياة السياسية، وتقبل بحكم الفرد الواحد الذي لا يغادر السلطة إلا بموت محقق أو بثورة تزلزل الأرض من تحت أقدامه . اختيّار الشعب الفرنسي لماكرون هو نتاج لسنوات من التجارب الديمقراطية التي جسدتها فرنسا على أرض الواقع ، وهو نتاج للإرادة الشعبية التي تتحكم في اختيار الحاكم وكذلك في عزله عبر الديمقراطية أيضا .
بواسطة الديمقراطية انتصرت إرادة الشعب الفرنسي ، وبواسطتها نشأ مبدأ المحاسبة لديهم ، وعبر الديمقراطية أعطيت الحرية للشعب لاختيار من يراه مناسبا لقيادة فرنسا ،على عكس أوطاننا التي بقيت فيها الزعامة حكرا على الطغاة الذين حوّلوا الأوطان إلى مزارع لهم ولأبنائهم الذين يرثون الشّعوب من بعدهم.
أما آن للحكّام في أوطاننا أن يفهموا ويّتعظوا ويتعلّموا الدّروس من الدول الغربية التي طالما تصفعهم بالديمقراطية، وأن يُزيلوا الغشاوة على أعينهم ويمنحوا
الشعوب فرصة الاختيار ،وأن يعيدوا الأمل إلى قلوب الملايين الذين يرزحون تحت الاستبداد، والذين يتمنون يوما ينعم فيه عليهم حكامهم بالديمقراطية،لأنه لا بديل عن الديمقراطية سوى التخلف والخراب والعودة إلى الوراء