أقبل على حياته، يعيش لحظته الحاضرة، لا ينغصها ماض دابر، ولا مستقبل زاحف، كأنه المعني بقول الشاعر: ما مضى فات والمؤمل غيب === ولك الساعة التي أنت فيها
شد ما نعى على الناس انشدادهم إلى الماضي واستلقاءهم في أحضانه وتحديقهم في ظلماته!
أصادق في نعيه أم يخادع نفسه؟
ما هذا الإحساس الغريب الذي بدأ يزحف على قلبه، ويجد له لذة؟ هذا الإحساس الذي يملأ عليه أقطار نفسه، وقد ظن أنه تخلص من رواسبه؟.
أليس انشدادا وعودة إلى ذلك الماضي السعيد على أجنحة الحب؟!
من ذا الذي لا يتشبث بأهداب ماضيه، كأنه قطعة من روحه وإن كان صحراء قاحلة؟
وما الظن بمن كان ماضيه قطعة من الجنة يغازل فيها الحور، ويساقيهن الرضا من كأس الحب، ويبادلهن الغرام على وفاء؟
نعم تبدلت النفس غير النفس، وانقلب الزمان، فأصبح الماضي عنده هو الحاضر الذي يجب الاستلقاء في شواطئه والموت بين أمواجه الدائبة.
كانت حياته هادئة مطمئنة كبركة صافية الماء، تنعكس على صفحتها الأشجار المحيطة بها والنجوم المتدلية من سمائها، ووجوه الحسان اللواتي يستغنين بصفاء مائها عن المرايا، وقد يعبثن بالاستحمام فيها.
من هي الحسناء التي أطلت وعبثت، فحركت ساكنها، وأثارت كوامنها، وألهبت لواعجها؟!
إنها تلك التي أرته الحياة في أبهى صورها، وعلمته أن الحب نوع من العبادة، يتطهر به القلب ويسمو، ويواجه الموت في أسمى صور الشجاعة.
أحس طيفها يعانقه، وتموجات أنفاسها الدافئة على محياه، تهدهد عواطفه، ونغمات حديثها تنسكب في أذنه موسيقى ساحرة.
ها هي رسالتها الأولى التي ألهمت وأوحت آيات الحب، التي رتلها غير ما مرة كما يرتل العبد الأواه مزاميره في محرابه، لماذا احتفظ بها؟ هل يخاف أن ينسى كلماتها المعدودة؟ وهل ينسى النبي الوحي المنزل عليه؟
وتلك الصورة التي يطل منها وجه وضيء، يحيط به شعر منسدل، ديجوجي فاحم، كالقمر في الليلة الظلماء. زودته بها إعرابا عن حب وليد. لماذا أبقاها؟ هل يخاف أن ينسى قسماته المليحة؟ هيهات!!