ماقبل الرياضيات الحديثة 1955- 1962: بعد استقلال المغرب والى غاية 1962 كانت مقررات الرياضيات التي تُدَرَّس في المغرب هي نفسها التي تُدَرَّس في فرنسا وكانت تعتمد بالأساس على التحليل وعلى الهندسة بشكلها الكلاسيكي. من جهة أخرى، وفي الوقت الذي لم تَعْرف رياضيات التعليم الثانوي أي تغيير لقرون طويلة في العالم بأسره، فقد عرفت الرياضيات العليا في الجامعات الأوربية والأمريكية تطورا كبيرا، الشيء الذي دفع بالكثير من الأكاديميين الى المناداة بتقليص الهوة بين رياضيات الجامعة ورياضيات التعليم الثانوي وقد عرفت أوروبا بالخصوص موجة من الانتقادات لمقررات الرياضيات بالتعليم الثانوي منذ نهاية القرن التاسع عشر، لكنها لم تجد آذانا صاغية إلا بعد أن فوجىء العالم بإطلاق أول سبوتنيك في أكتوبر 1957 من طرف السوفيات ، وقد شكل هذا الحدث التاريخي الهام لحظة فارقة في مسار تطور مادة الرياضيات في العالم. تطبيق الرياضيات الحديثة في المغرب 1962- 1982: خلق إطلاق أول سبوتنيك في أكتوبر 1957 انزعاجا قويا للغرب من تأخره التكنولوجي واعترفت الحكومة الأمريكية علانية بتأخر بلدها في مجال الرياضيات مقارنة مع الروس. الشيء الذي جعلها تتخذ قرارات بتنظيم التعليم بشكل يتيح للتلاميذ النجباء، التّقدم بسرعة نحو الهدف دون ضياع للوقت، حيث تبين لها بِأن تدريس رياضيات مبنية على المنطق الصارم، هو الاختيار الأمثل لتدريس المفاهيم الحديثة وتحقيق التفوق في الرياضيات. كانت هذه الرياضيات التي أطلق عليها آنذاك ”الرياضيات الحديثة“، والتي حسمت الظروف والمصالح الاستراتيجية للدول في تبنيها بسرعة قياسية، كانت بمثابة ثورة على رياضيات أقليدس التي كانت هي أساس تدريس هذه المادة في مختلف دول العالم طوال 2000 سنة. وقد فعلت نشوة الاحساس بالانتصار على الرياضيات الكلاسيكية من طرف زعماء تحديث الرياضيات الفرنسيين " مجموعة Bourbaki " فَعَلت فِعْلَتَها في عالم الرياضيات الفرنسي Dieudonné حين صاح خلال مؤتمر التعاون الاقتصادي الأوروبي (1959) .”ليسقط أقيليدس، لا مثلثات بعد الآن“ « à bas Eucide, plus de triangles » . وهكذا ومنذ ذلك الوقت أصبحت الهندسة الكلاسيكية الاقليدية، رياضيات متجاوزة وحلت محلها رياضيات جديدة وهي " الرياضيات الحديثة" . ويعتبر المغرب من أوائل الدول التي طبقت فيها برامج الرياضيات الحديثة الى جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية( البداية 1962 على يد J.P.Nuss والتعميم 1968 على يد Y.Peureux)، قبل أن تطبق في فرنسا (1969) . ويرجع السبب في ذلك أولا للحماس الذي كان يطبع المسؤولين عن تدريس الرياضيات بالمغرب بحكم أنهم فرنسين، وهذا شيء جد مهم لأنه لا يجب أن ننسى أن ثورة التغيير هذه كانت بقيادة علماء فرنسيين ساهموا من جهة في تطوير مادة الرياضيات منذ القرن السابع عشر (Descartes – Pascl – Fermat … ) ومن جهة أخرى قادوا ثورة التغيير والمطالبة بتطوير برامج الرياضيات في التعليم الثانوي منذ أواخر القرن التاسع عشر . وهكذا فأن تصدير ثورة التغيير نحو المغرب كلن طبيعيا بحكم أن اللاعبين في مجال تدريس الرياضيات بالمغرب كانوا من نفس جنسية صانعي هذه الثورة ، أما قضية أن المغرب كان سباقا للدخول في اللعبة قبل فرنسا نفسها ، فربما كان الفاعلون في الميدان المغربي أكثر سرعة وحماسا لتطبيق هذا النظام بمباركة من المسؤولين السياسيين المغاربة المتحمسين لبناء دولة حداثية. وهناك احتمال ان يكون الأمر محكوما بدافع تجريب هذا النظام الجديد على المغاربة قبل المخاطرة بتطبيقه على الفرنسيين لكنه احتمال ضعيف جدا بحكم أن الفرق الزمني لبداية تطبيق هذا النظام بين المغرب وفرنسا هو سنة واحدة فقط. وقد أعطت الرياضيات الحديثة أهمية قصوى لأساسات الرياضيات والمنطق ونظرية المجموعات والبنيات الجبرية والتحليل واهتمت بالمحتوي الرياضي والبرهان الاستنتاجي المبني على التطبيق الصارم للمنطق ولم تُعِراهتماما كبيرا للجانب البيداغوجي او الديداكتيكي. وقد استفاد المغاربة من هذه الطفرة حيث كان التكوين في مجالي الرياضيات والفيزياء صلبا متينا الشيء الذي مكن المغرب من الحصول على أطر عالية الكفاءة من الأساتذة و المهندسين الذين كانوا يعوضون الأطر الفرنسية العاملة بالمغرب شيئا فشيئا، بل أكثر من ذلك فقد أصبح المغرب بعد فترة قصيرة يُصَدِّرُ هذه الأطر ، في إطار الإعارة، الى جميع دول الخليج التي كانت واعية بجودة المنتوج المغربي مقارنة مع أطر واردة من دول عربية أخرى. من جهة أخرى فقد كانت فرنسا نفسها تفكر في استيراد أساتذة الرياضيات من المغرب نظرا لكفاءتهم، كحل محتمل لتغطية النقص المهول في أساتذة الرياضيات، الذي كانت تعاني منه فرنسا نهاية الثمانينات. بالرغم من الإيجابيات التي ذكرنا، فإن الصرامة التي كانت تتميز بها هذه الرياضيات منعت الكثير من التلاميذ من التعاطي معها حيث كانت بحق " رياضيات النخبة" ، فرغم أن الأسباب لا تعود الى مسألة تطبيق الرياضيات الحديثة وحدها إلا أنها تعد سببا مهما ، الشيء الذي أدى الى بزوغ انتفاضات جديدة تستنكر " حجم الدمار" الذي تركه تطبيق هذا النوع من الرياضيات وظهرت " الثورة المضادة " على شكل أصوات كثيرة في العالم تدعو الى تطبيق رياضيات أكثر ديمقراطية تحت عنوان " الرياضيات للجميع" كانت هذه الموجات الاحتجاجية مرفوقة بتحليلات لمساوىء الرياضيات الحديثة وتحمل دعوات الى الاهتمام بديداكتيك الرياضيات وطرائق التدريس حتى يتمكن جميع التلاميذ من أخذ نصيبهم من الرياضيات بما يتناسب مع حاجياتهم وتوجههم وبالطرائق التي تلائمهم. بالنسبة لفرنسا مثلا كانت الأمور أكثر تنظيما حيث ظهرت موجة مراكز البحث في تدريس الرياضيات IREM التي أخذت على عاتقها دراسة كل ما يتعلق بتطوير تدريس هذه المادة. بداية التراجع عن الرياضيات الحديثة وتعريب الرياضيات 1982- 1989: في إطار هذه الحركية الداعية الى إعادة النظر في مسألة تدريس الرياضيات في العالم أجمع سواء من ناحية الغايات أو المحتوى أو طرائق التدريس ارتآى المغرب أن يدمج إصلاح البرامج وتعريب تعليم الرياضيات مرة واحدة. وإذا كان إصلاح البرامج مفهوما لأن العالم كلها اكتشف المشاكل المرتبطة بتطبيق الرياضيات الحديثة ومنها عدم قدرة التلاميذ على مسايرة دروس الرياضيات المقدمة لهم بهذه الطريقة، فإن دُعَات التعريب في المغرب استغلوا الفرصة واعتبروا أن اللغة الفرنسية هي كذلك سبب في ضعف مستوى التلاميذ في الرياضيات بالاضافة الى مبررات واهية أخرى من أجل تمرير مخطط التعريب. وهكذا وفي سنة 1979 كون السيد وزير التربية الوطنية لجنة مراجعة مقررات الرياضيات وتعريبها.وجاءت الأهداف المتوخاة من هذه المراجعة كالتالي : • تجنب التنظير والإفراط في التجريد ؛ • إلغاء الانتقائية وتبني شعار الرياضيات للجميع؛ • وضع برنامج خاص لكل شعبة يخدم خصوصياتها؛ • تقديم المفاهيم بالتدرج من مستوى لآخر (مقاربة حلزونية)؛ • إعطاء أهمية خاصة لجميع أنواع البرهان والتحليل والتوليف و النقد؛ • الاهتمام بالهندسة المستوية والفضائية الكلاسيكية؛ التخلي النهائي عن الرياضيات الحديثة 1989- 2000: نشير في بادىء الأمر الى أن الفترة الفاصلة بين 1989 و 2000 وبعدها بعدة سنوات كانت متميزة جدا، حيث فتحت أوراش مهمة ونوعية تؤكد عزم المغرب على الاستثمار في مجال التعليم وذلك بالعمل على تطوير الكفاءات حيث تم فتح مركز لتكوين المفتشين بباب تامسنة بالرباط في أواسط الثمانينات يلجه أساتذة التعليم الثانوي بعد مبارة ويستفيدون من تكوين لمدة سنتين تتخللها فترة تدريب بفرنسا لمدة شهر تقريبا كما استفاد أساتذة آخرون من تكوين في مجال الديداكتيك بكندا بالاضافة الى كلية علوم التربية التي مدت المغرب بأطر كفأة ساهمت في تطوير التعليم. هذه الأوراش كلها كانت متكامله مع بعضها وأعطت دينامية مهمة تجلت في نشر العديد من الكتب في التربية والديداكتيك وعلم النفس التربوي وظهرت العديد من المجلات والمقالات بل حتى الجرائد اليومية أصبحت لها صفحات تربوية تنشر فيها مقالات تعكس آراء وتجارب الأساتذة والمفتشين كما كانت تُعْقد ندوات كثيرة في عدد من المؤسسات التربوية . لقد ساهم هذا الوضع في انتشار الوعي التربوي والديداكتيكي في أوساط أساتذة الرياضيات والمفتشين التربوين مما ساعد على انخراط الجميع في النقاش الدائر حول "الرياضيات الحديثة" و " الرياضيات للجميع" وسهل مهمة الانتقال الى رياضيات اكثر ديموقراطية وباقتناع شبه تام من طرف كل الفاعلين التربويين . عندما وصل التعريب الى نهايته بالنسبة للتعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي سنة 1989 تم إجراء تعديلات جديدة على برامج الرياضيات لمسح لإزالة آخر بقايا الرياضيات الحديثة و لتصبح الرياضيات \أكثر قربا وتمثيلا لمطالب التغيير ودمقرطة التدريس ومنها: • التخفيف من الكتابة الرمزية في الإعدادي؛ • إدخال الهندسة الفضائية و الإحصاء في الإعدادي؛ • الانطلاق من الخاص نحو العام؛ • بناء بعض المعارف انطلاقا من وضعية مسألة؛ • التخلي عن المجموعات و التطبيقات والبنيات الجبرية؛ • تبني مقاربة التدريس بالأنشطة وحل المسائل تطبيق بنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000- 2008: خلال هذه الفترة تمت مراجعة المناهج الدراسية انطلاقا من منظور الميثاق الوطني للتربية و التكوين وهكذا اعتبرت اللجنة المكلفة بإعداد هذه البرامج ، أن مادة الرياضيات مادة حيوية بالنسبة لتكوين عقل التلميذ بشكل سليم وتدريبه على ممارسة النهج العلمي حيث تساهم هذه المادة الى جانب المواد الأخرى في تدريب التلاميذ على التفكير المنطقي والبرهان والاستدلال بجميع أنواعه وكذا على أساليب التحليل والتركيب والتأويل و النقد البناء . وهكذا تم العمل على: • خلق انسجام أكبر بين برامج الرياضيات بين الأسلاك التعليمية من الابتدائي الى الجامعي؛ • التمكن أولا من الحساب العددي و المرور التدريجي إلى الحساب الحرفي؛ • التخلي عن المفاهيم النظرية المعقدة ؛ • إعادة الاعتبار الى الإنشاءات الهندسية وخاصيات التحويلات دون تنظير؛ • الاهتمام بقراءة التمثيلات المبيانية و الجداول الإحصائية. • تخفيف مقرر العلوم التجريبية وتبسيطه.