شكل خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى 17 لعيد العرش حدثا في شكله وفي مضمونه ،وقد وقف العديد من الإعلاميين والباحثين عند الحدث دون تحليل الخطاب الملكي كنسق فكرى منتج لمعرفة جديدة تكشف أشياءا وتسكت عن أخرى.والتحليل لا يعني إعادة ما جاء في الخطاب بل الوقوف عن ما سكت عنه او أشار إليه بطريقة مباشرة لكون الخطاب مهما كان منتجه لا يتعالى على شروط انتاجه. وهو ما سنحاول الوقوف عنده في هذه المقاربة للخطاب الملكي 1-الخطاب الملكي والوضع العام بالمغرب: بدا الخطاب الملكي ساخطا على الواقع السياسي المغربي الحالي انسجاما مع غضب الرأي العام المغربي الذي لم يعد يفهم ما يقع المغرب من كثرة تواتر الفضائح السياسية والاقتصادية آخرها فضيحة النفايات وفضيحة خدام الدولة وهي الفضيحة التي كان لها وقع سلبي كبير على المواطن خصوصا بعد صدور بلاغ وزارتي الداخلية والمالية في الموضوع ضدا على احتجاجات الرأي العام، ومن استمرار التطاحنات والاتهامات بين أهم الأحزاب والإساءة للوطن عبر تصريحات خطيرة لقادتها.واعتقد ان غضب الخطاب الملكي اتجاه مما يجري بالمغرب والذي مس بهيبة الدولة وبمؤسساتها ، وتحذيره للأحزاب من تبعات إقحام الملك في صراعاتهم هو ما جعل جلالة الملك يستعمل كلمة الاطمئنان قائلا: »فما أريده لكل المغاربة هو تمكينهم من العيش الكريم في الحاضر، وراحة البال والاطمئنان على المستقبل«،وهي رسالة قوية من طرف جلالته لبعض المغاربة -الذين بدؤوا يتخوفون على مستقبل البلاد- مفادها ان المؤسسة الملكية هي ضامنة الاستقرار وضامنة مستقبل البلاد والساهرة على اطمئنان المغاربة رغم الوضع المقلق الذي يمر منه المغرب. 2-الخطاب الملكي وموقع المؤسسة الملكية: بلغة الحزم والصرامة ذكر جلالة الملك كل الفرقاء بموقع المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي وبمضمون ما نص عليه الفصل 42 من الدستور: » الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة «. ويرتبط هذا التذكير بسياق الخطاب الملكي الذي أصبحت فيه كل الأحزاب تقحم المؤسسة الملكية في الصراعات الحزبية بشكل رهيب ، وقد كان الخطاب الملكي واقعيا لإعادة الأمور الى نصابها مؤكدا -وبكيفية قوية- ان حزب الملك هو المغرب .وقد أحسن الخطاب الملكي تذكير الأحزاب بضرورة إبعاد الملكية عن الصراعات السياسية او استغلالها لتحقيق بعض الأغراض الانتخابية على حساب المواطن والملك ضدا على فلسفة الدستور الجديد الذي عرى حقيقة الأحزاب السياسية من حيث انها تختبئ وراء الملك متخلية عن اختصاصاتها الواسعة التي خول لها الدستور . 3-الخطاب الملكي والإشراف على الانتخابات: في الوقت الذي كانت بعض الأحزاب– حزب الاستقلال- تطالب بإبعاد رئيس الحكومة او وزير الداخلية او العدل والحريات عن الإشراف عن الانتخابات المقبلة وتشكيل لجنة او هيئة مستقلة جاء الخطاب الملكي ليعيد الأمور لنصابها مؤكدا ان الانتخابات التشريعية ل 7 اكتوبر ستنظم تحت سلطة رئيس الحكومة، ومسؤولية وزير الداخلية ووزير العدل والحريات، داعيا إياهم القيام بواجبها في ضما ن نزاهة وشفافية المسا ر الانتخابي.مؤكدا ان عماد الانتخابات هو المواطن وليس الأحزاب التي تستغله للوصول للسلطة بل ان الخطاب الملكي ذهب بعيدا ليؤكد ان المواطن هو مصدر السلطة مصدر السلطة التي يفوضها للفاعل السياسي.وعلى هذا الأساس يجب على الدولة ان تتحمل المسؤولية لفتح تحقيقات قضائية ضد كل حزب او فاعل سياسي او مسؤول حكومي يقحم جلالة الملك او يتحدث باسم الملك او ان يصف حزبه بانه حزب الملك او انه صديق الملك لان حزب الملك هو المغرب والملك ليس في حاجة لأي شخص او أي مؤسسة او إي حزب يتحدث باسمه .والأكيد ان إعلان جلالة الملك تنظيم الانتخابات المقبلة تحت سلطة رئيس الحكومة، ومسؤولية وزير الداخلية ووزير العدل والحريات سيمنع عبد الاله بنكيران رئيس الحكومة ومصطفى الرميد وزير العدل والحريات من الترشح لهذه الانتخابات لكي لا يكونان في حالة التنافي. 4-الخطاب الملكي والانتخابات: قمة القلق الملكي تتجسد في استغراب جلالة الملك من السياق الذي تجر فيه هذه الانتخابات واستغراب جلالته هو مؤشر على درجة الإفلاس الانتخابي نتيجة الممارسات الحزبية التي تتنافى مع مبادئ وأخلاقيا ت العمل السياسي السليم،هذه الممارسات التي لم تكتف عند إفلاس العمل الانتخابي بل انها بدأت تسيئ لسمعة الوطن في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين عبر إطلاق تصريحات واستعمال مفاهيم دون الوعي بخطورتها.والأكيد ان الرسالة موجهة – هنا- لبعض الزعماء الذين ميعوا المفاهيم وأصبحوا يطلقون أحكاما واتهامات خطيرة دون أي دليل ولو كنا في بلد ديمقراطي لتم فتح تحقيق قضائي معهم ومتابعتهم قضائيا وخصوصا تصريحات رئيس الحكومة بوجود دولتين. ولوضع حد للعبث السياسي والتسيب الانتخابي اللذان وصفهما جلالة الملك بالتصرفات والتجاوزات الخطيرة طالب جلالته ب محاربتها ومعا قبة مرتكبيها، وهي رسالة موجهة لوزير العدل والحريات وزارة الداخلية بصفتهما المسؤولين عن الانتخابات لمعاقبة ومتابعة من يسيء لسمعة المغرب . لكن اهم مصطلح مثير في الخطاب الملكي وهو يتحدث عن سياق الانتخابات هو قوله جلالته:" فبمجرد اقتراب موعد الانتخابات، وكأنها القيامة، لا أحد يعرف الآخر. والجميع حكومة وأحزابا، مرشحين وناخبين، يفقدون صوابهم، ويدخلون في فوضى وصراعا ت، لا علاقة لها بحرية الاختيار، التي يمثلها الانتخاب." انها قمة البلاغة اللغوية والتشبيه العميق ان يصف جلالته زمن الانتخابات المغربية بالقيامة وما يحمله هذا المفهوم الديني من دلالات عميقة في الثقافة العربية الإسلامية . وهي رسالة ملكية قوية الدلالات لكل موجهة للحكومة وللأحزاب بان تعيد النظر في خطابها وسلوكها وممارساتها ونحن نعيش زمن الانتخابات التشريعية التي تدل كل المؤشرات بأنها ستكون أتعس وافسد انتخابات تشريعية في تاريخ المغرب .وأمام خطورة السياق العام الذي ستنظم فيه الانتخابات التشريعية المقبلة التجأ جلالته الى لغة الحزم والصرامة قائلا:"وهنا أقو ل للجميع، أغلبية ومعارضة : كفى من الركوب على الوطن، لتصفية حسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة".وهذا صحيح فالوطن أصبح مطية سياسية ومادة انتخابية باخراج حزبي سيئ ورديء فاقد لكل قيم العمل السياسي السليم . 5-الخطاب الملكي الأحزاب: لغة الحسم والصرامة التي ميزت هذا الخطاب ورسائله الموجهة للأحزاب السياسية هي استمرار لنفس الرسائل الموجهة اليها منذ سنوات خصوصا في مضامين خطاب ثورة الملك والشعب ل_20 غشت 2013 والتي تفاعل الخطاب الملكي فيها بشكل واضح مع المؤشرات المقلقة التي هيمنت في الآونة الأخيرة على المشهد الحزبي خصوصا على اثر تبادل تهم التحكم وإقحام الملك والإدارة الترابية في الصراع الدائر بين حزبي البام والبيجيدي، وبين حزب الاستقلال ووزارة الداخلية.ونظرا لخطورة المواقف جاء الخطاب الملكي ليؤكد بان المؤسسة الملكية فوق الأحزاب ولا تصطف وراء حزب سياسي ولا تفوض أي حزب للحديث باسمها فملك البلاد لا ينتمي الى أي حزب سياسي وأن الحزب الذي ينتمي اليه هو حزب المغرب وأن كل الأحزاب سواسية عنده وفي هذا رسائل متعددة لكل من يهمه الأمر: أولها الرد المباشر على بعض الأحزاب الحاكمة التي تلعب دور المعارضة وتسيئ لسمعة البلاد بتصريحات خطيرة وغير مسؤولة.ثانيها موجهة للأحزاب التاريخية او تلك الحديثة النشأة التي تدعي بانها تحمي مشروع الملك و الدولة .ثالثها ان الوضع الحزبي بإسلامييه وليبراليييه ويسارييه وحداثييه ومحافظيه بات يشكل قلقا لا يؤرق المؤسسة الملكية فقط يخيف حتى الشعب. رابعها تأكيد جلالته ان سقف تطلعات الدولة وسقف طموحات الشعب ورهانات المرحلة تتجاوز بكثير سقف خطاب وسلوك وانشغال الفاعل السياسي.خامسها ان زمن التساهل مع الأحزاب التي تقحم الملك والدولة في الصراعات الحزبية قد انتهى . 6- تناقض ردود الأحزاب مع مضامين الخطاب الملكي: حزين جدا ان يفرغ الخطاب الملكي من مضامينه مباشرة بعد بثه حيث ظهرت القيادات الحزبية- دون أي خجل- تؤول الخطاب الملكي وتعيد ما جاء في مضامينه في حين كنت أتنظر ان يطلع علينا رئيس حزب ويعترف بان انتقادات الخطاب الملكي للأحزاب واقعية وها هي آليات حزبه لتجاوزها . اما ان تطلع القيادات الحزبية وتعيد ما جاء في الخطاب الملكي وكأن ما تحدث عليه جلالة الملك يقع في كوكب آخر اوكأن الممارسات المشينة التي تحدث عليها الخطاب الملكي تقوم بها كائنات غير القيادات الحزبية الحالية فيه نوع من العبث والنفاق والهروب .وعليه حان الوقت لتقوم الأحزاب السياسية بنقد جرءئ لذواتها ولخطاباتها وممارساتها وللتفاعل ايجابيا مع مضامين ورسائل الخطاب الملكي عوض الاستمرار في الهروب الى الأمام عبر التصريح بأشياء وممارسة نقيضها. وعليه فالخطاب الملكي ليس بحاجة للإشادة به من طرف زعماء الأحزاب بل بحاجة الالتزام به وتفعيله. 7- قطبية البام والبيجيدي خطر على مستقبل المغرب: هناك مؤشرات عديدة تؤكد سير المغرب نحو قطبية حزبية،قطب يقوده حزب العدالة والتنمية وقطب يقوده حزب الأصالة والمعاصرة، هذه القطبية التي بدأت معالمها تتشكل منذ انتخاب الياس العماري امينا لحزب البام .قطبية معادلتها المحورية الصراع بين ” القطب الإسلامي” في مواجهة ” القطب العلماني”، وهو ما يؤكده بعض الباحثين بقولهم بأن انتخابات 07 أكتوبر ستكون انتخابات شرسة بين قطبين أساسيين يقودهما شخصان عنيدان، قطب إسلامي محافظ يمثله العدالة والتنمية، وقطب حداثي يمثله الأصالة والمعاصرة. قطبية يمكن ان تشكل خطرا على المستقبل السياسي بالمغرب لان كل المؤشرات تنبئ بنشوب معارك شرسة قبل وأثناء وبعد الاستحقاقات التشريعية المقبلة التي تستعمل فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة على حساب التنافس السياسي الشريف وعلى حساب البرامج الانتخابية الجادة و الواقعية لربح الكتل الناخبة، حزب العدالة والتنمية يراهن على إستراتيجية تختزل حملتها الانتخابية في تقاطب سياسي حاد مع حزب "الأصالة والمعاصرة" للتأكيد على انه الحزب الذي يقود حملة المواجهة لما يسميه "التحكم السياسي"،اما حزب الأصالة والمعاصرة فيراهن في إستراتيجيته على ترسيخ فكرة انه الحزب الوحيد القادر على مواجهة ما ينعته بتيار "الإسلام السياسي. " والأكيد ان استمرار الصراع بين القطبين السالفين الذكر سيفرغ العملية السياسية والانتخابية من أبعادها الحقيقية فلا الأغلبية ستتمكن من الدفاع عن حصيلة عملها خلال ممارستها للسلطة ولا أحزاب المعارضة سيمكنها تقديم النقد البنا ء واقتراح البدا ئل المعقولة في إطار تنافس مسؤول من أجل إيجاد حلول ملموسة ، للقضا يا والمشاكل الحقيقية للمواطنين كما جاء في الخطاب الملكي الأخير.بل ان هذه القطبية ستحول سياق انتخابات 7 اكتوبر الى ما يشبه "القيامة" ،وستحول المعركة من معركة تخص البرامج والخيارات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية إلى معركة ” هوياتية”..وهي معادلة خطيرة بقدر ما تشوش على مسار العملية السياسية، والانتخابية ببلادنا، بقدر ما ترسم صراعا “سطحيا” له تداعياته لأنه سيقسم المجتمع المغربي إلى صنفين:" صنف المصلحين"، و"صنف الفاسدين" او" صنف المؤمنين" و"صنف العلمانيين" أو" دعاة الخير" و"دعاة الشر" ، او جبهة "رفض التحكم" وجبهة "ممارسة التحكم" .وأمام هذه المنزلقات على الأحزاب السياسية ان تعيد النقاش العمومي إلى مجراه الحقيقي لتركيز حزب البيجيدي قائد الأغلبية الدفاع عن الحصيلة الحكومية الراهنة،وكذا تقييم حصيلتها الاقتصادية، والاجتماعية،والسياسية، وكذا حزب البام قائد المعارضة بتقديم برنامجه الحكومي البديل في مجالات السياسات العمومية بدل البقاء في قطبية شكلية تميع العمل السياسي، لان القطبية التي يحتاجها المغرب – اليوم- هي قطبية مبنية على قاعدة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمكن المغرب ان يكون ضمن الدول الصاعدة بدل قطبية قائمة على قاعدة الثنائيات الأخلاقية، والهوياتية، لكونها قطبية تهدد مستقبل البلاد. وعليه اعتقد بان مضمون ورسائل الخطاب الملكي هو رهان حقيقي للأحزاب السياسية ان تعيد النظر في خطاباتها وسلوكها وممارستها للسياسة كانت أغلبية او معارضة وان تقوم بمهامها الدستورية بعيدا عن الاختباء وراء الملك او التسلط او الاختزال او التعالي او النرجسية السياسية.وعلى الأحزاب التي تدعي بانها ملكية ان تلتزم بمضامين الخطاب الملكي وتحوله لإجراءات عملية بدل ممارسة النقيض لما جاء به الخطاب الملكي وهو قمة الاستهتار حتى بالخطابات الملكية.