صغيرا ترعرعت في كنف الفضاء المغاربي ،عشته وعايشته مع الكثير من اقراني، و لبساطة تفكيري وتحليلي إختزلته في شخص جدتي لأمي رحمها الله. فعلى عكس الأروقة الدبلوماسية،وصالونات القمم والملتقيات، كان المغرب الكبير واقعا ملموسا و معاشا بشكل يومي في عائلتنا كما هو الحال في العديد من الأسر الوجدية خاصة وبالمنطقة الشرقية. يحكي لنا جدي رحمه الله، كيف كانوا شبانا في أربعينيات القرن الماضي ينتقلون من وجدة إلى مغنية إلى تلمسان ،وهم مولعون بسباق الدرجات، يتسابقون في مشهد رياضي أخوي دون جواز سفر ولا نقطة عبور أو حتى تفتيش! كانت جدتي هي الأخرى رحمها الله، كثيرا ما تحدثنا عن أبيها الجزائري ،والذي رفقة العديد من إخوانه الجزائريين قطنوا وعاشوا ودفنوا بوجدة. لطالما كانت تحكي لي دون ملل، كيف كانت تغيير طائرات الإستعمار وهي تتعقب أثر المجاهدين الجزائريين داخل وجدة ، وكيف كانت القنابل والطلقات النارية تهوي بشكل واضح و مخيف من على متن طيور الموت الفولادية وهي تلقي حمم جحيمها فوق رؤوس المغاربة والجزائريين على حد سواء. “عمي الهبري” كما تناديه الوالدة رفقة ابنته وهما جزائريان ،ستصاب طفلته بشضايا قذيفة ،وهما في طابور بمعسكر شمال وجدة ،من أجل الإستفادة من معونات دولية مثلهم مثل إخوانهم المغاربة. رؤوس متفجرة ستعشعش في أعمدة خشبية بهذا المعسكر ، الذي كان آنذاك تحت إشراف (بن بلة) نفسه، قبيل إستقلال الجزائر بأشهر معدودة ، لتنفجر بعد ثلاثين سنة و تنهي بذلك حياة إثنين وتعطب ضحية ثالثة من أبناء المدينة. كذلك يروي لنا جدي رحمه الله كيف كان المغاربة يؤوون المجاهدين الجزائريين ويناصرونهم ويحاربون إلى جانبهم ، كثيرا ما سيبعث جد الوالدة بها وهي صغيرة لجلب (السفنج) وبعض الغداء وخاصة الجرائد للمجاهدين الجزائريين وهم تحت سقفه بوجدة .. ،لا يكل في تقديم الإسعافات ولا يكف عن مؤازرتهم رفقة الجيران ،حيث تتذكر وهي طفلة كيف كانوا ممددين على أسِرَّة ،فهذا رأسه مطوق ملفوف بضمادةو ذاك ساقه معلقة بالحبل إلى السقف، والآخر ينزف…في مشاهد ستبقى خالدة ومنحوتة في ذاكرتهم إلى الأبد. إختلط الدم والنسب والمصير ، وانصهروا جميعهم في مكون، ما قد كان ليصبح نواة المغرب الكبير. سيتقاسم الوجدييون محلاتهم التجارية والحرفية مع العديد من إخوانهم الجزائريين. عقب إعلان إستقلال المغرب ،خرج جد الوالدة الجزائري على عجل يصنع من أقمشة حمراء رايات المغرب ويرسم بأصابعه النجمة الخماسية عليها بالطباشير ليسلمها لكل من إخوانه وجيرانه المغاربة ولكل شخص صادفه ،إحتفالا بذلك اليوم العظيم. زمن طويل سيمر، و في صيف سنة 1979 ،بينما كانت سيارتنا “كرايزلر” حاملة اللوحة المعدنية الشهيرة (المغرب) تشق طريقها إلى باريس مع الساعات الأولى للصباح،وبينما الوالد يجتاز عربة للأشغال البلدية ،تعالت أصوات وحناجر هاتفتة (والمروووك والمرووووك وا الخاوة وا الخاوة وحبس حبس) …..،قللنا السرعة معها وفتحنا النوافذ، للسلام عليهم…وسط الطريق ! ..انتابت الفرحة مستقلو كلتا العربتين، واحدة من المغرب تكاد تكون الوحيدة المرقمة بدولة مغاربية وسط عاصمة الأنوار آنذاك، والأخرى فرنسية مؤهولة بمغاربيين من تونسوالجزائر ،إلى درجة أن سائقها كاذ يفقد السيطرة عليها من شدة الفرح… ليس علي أن أشرح كثيرا الموقف والمشهد ،فقد كان بالنسبة لهم ضربا من الخيال،خاصة الأجيال الأولى للمغتربين، فلا كان للعديد منهم هاتف ولا ربما حتى عنوان قار للتواصل مع أهلهم ،فما بالك بسيارة مغاربية لوحتها بالعربية، تضهر وتطفو فجأة من العدم إلى جانبهم….كل هذا في السبعينات…لن أنسى تلك الوجوه والعيون ابدا،… وكأننا جئناهم بأوطانهم. بعد هذه الواقعة،سيترسخ في ذهني وإلى الأبد ، حسي و وجداني المغاربي و ضرورة لم شمله ، على صغر سني . طوال سفرنا في أرجاء أوربا تلك السنة والسنوات الآتية ،سيحكي لنا الوالد عن التعايش مع الإخوان الجزائريين، من بين ما علق في ذهني هو ملاحقة الطلاب المغاربة الداعمين لإستقلال الجزائر، شأنهم شأن الجزائريين في قلب باريس ،وكيف كانت الشرطة الفرنسية تعاملهم جميعهم كمغاربيين لاتفرق بين أحد منهم ،حتى بلغ بهم الحال حد الإحتماء بكنائس العاصمة الفرنسية. كانت لاتفوت الوالد فرصة إلا وذكرنا بضرورة الإتحاد المغاربي وما قد يربحه ويستفيد منه هذا الفضاء في عديد من المجالات ،في زمن لم تكن أوربا شنغن اليوم قد رأت النور بعد،ولا كانت حتى غالبية دولها تفرض التأشيرة….هذا على الأقل إلى غاية سنة 1986. في سنة 1981،سيسكن بجوارنا قنصل الجزائر، وعلى الرغم مما توحيه تلك الفترة بالذات، إلا أننا إستطعنا نحن البراعم نسج علاقة أخوية متميزة بيننا وبين أبناء القنصل إذ سرعان ما تم بناء جسور محبة وثقة رفقة أبناء الحي، نابعة من براءة الطفولة نفسها. لم نكن نفهم وقتها ،أو بمعنى أدق ،لم نكن نريد فهم طبيعة وتشنج العلاقات المغربية الجزائرية، وتوتراتها وتداعياتها، ولا هل كان على السيد القنصل وعائلته التوجه إلى الدارالبيضاء من أجل عودتهم لبلدهم الجزائر التي تدرك أبصارنا جبالها وسهولها وأنوارها من على فوق سطوح منازلنا، أم كان لهم العبور إليها عبر النقطة الحدودية أمرا استثنائيا ؟ لا يهم ولم يهمنا أبدا ولا في أي وقت من الأوقات. كل ما كان يهمنا هو تلك الصداقة و كرة القدم التي كنا نلعبها معا في جو طفولي. وما زلت أحتفض بصورة لي مع اخواي الجزائريين خالد وزكرياء أصحاب الإبتسامة البريئة و العيون الزرقاء . ويشاء القدر مرة أخرى ، وأنا في ربيعي السابع عشر أن يتوقف الموكب الملكي بوجدة، لأشاهد و لأول مرة ليس ملكا واحدا، بل ملكين أثنين على أرض وجدة. خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز والملك الحسن الثاني رحمهما الله أمام عيناي..أدركت في هذه اللحظة و على الفور أهمية اللقاء ورمزية المدينة. تتبعت اللقاء ككل المغاربيين،لاكن بشوق ربما أكبر ،فقد كنت أدرك تمام الإدراك عبر الوالد رحمه الله ،ما كان يتفق عليه ..قريبا منا هذه المرة ،وبين ضهرانينا من أجل إندماج مغاربي وتكتل شامل ، و قد تعرفت على العديد من تفاصيل اللقاء، كوضعية كرسي الملك الحسن الثاني على الجانب المغربي ووضعية كرسي الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد على الأرض الجزائرية ،و كرسي خادم الحرمين الشريفين، على خط الحدود تماما . شكلت تلك الأيام في ذاكرتي ، إنطلاق مسلسل الإتحاد وانبعاث للروح المغاربية من جديد ، لطالما بقيا و لزمن طويل عنوانا للوحدة المنشودة . وبذلك عشت أول معاهدة تاريخية معاصرة ،كان مستقبل أجيال ومعهم جيلي شاهد عليها! عشنا سنوات التنقل الحر للمواطنين المغاربيين،و تحركت الكتل البشرية و صلنا الرحم وتبادلت الزيارات وتدفقت السلع والمنتوجات في كل الإتجاهات، إلى أن وصلت حدود مصر شرقا،ونهر السينغال غربا إلى الجنوب . فتحت محلات تجارية وشيدت فنادق على طول الطريق إلى الحدود ،إنتعشت معها خطوط المواصلات،وشتى أنواع التجارة والخدمات. كانت بادية في الأفق القريب ، بوادر إنفراج في العلاقات التاريخية بحلوها ومرها ،و بدأت هياكل ومؤسسات مغاربية تأخذ شكلها الطبيعي في وسطها المغاربي الطبيعي والمنطقي أيضا. شخصيا زرت الغرب الجزائري من تلمسان إلى سيدي بلعباس إلى وهران أكثر من مرة،و بقيت إلى يومنا هذا ذكريات أقل ما يمكن أن أقول على أنها ذكريات زمن الوحدة الجميل. كانت جدتي تزور الأقارب في تلمسان وسيدي بلعباس،ومغنية ،عبر مراكز العبور بالحدود في أمن وأمان وكذالك الشأن بالنسبة للأقارب والجزائريين بصفة عامة من الجانب الآخر . وقد رافقتها في إحدى الزيارات،ورأيت فرحتها وحسرتها في عينيها فور ختم جوازاتنا، المغربية، وجوازها الجزائري الذي لم تكن لتخطأه عين أحد، فلأول مرة أحسست بكبرياءها وهي على أرض أجدادها ،أحسست بشعورها وتبادلنا في لمح البصر، إبتسامات ،شرحت بإختصار عميق …كل شيء . لم يسعفنا القدر أن نلتقي فيما بعد مع صديقي الطفولة أبناء القنصل،حيث تلقيت آخر رسالة منهما سنة 1987 من الجزائر العاصمة ،لربما تحولوا إلى بلد آخر . يشاء القدر مرة تلو الأخرى ولبضع سنين، أن يعيش في منزلنا شاب تونسي،صاحب أخلاق حميدة، عرفنا على عادات وتقاليد تونس،عن أهلها ومدنها وثقافتها،عن مطبخها، وهو يعزمنا على ماءدته الصغيرة بعيدا عن أهله ووطنه. إكتشفنا بفضله بلادا مغاربية كانت تبدو بعيدة،إلى أن تفاجئنا معه بقوة تقارب مجتمعاتنا في كل شيء تقريبا. سيدفن هذا الصديق التونسي العزيز، معنا الوالد في أحد أيام عيد الفطر. هذا الشاب الطموح ،سيصبح فيما بعد رجل من رجالات الدولة التونسية رفقة أصدقاء له درسوا بوجدة، وتبوؤوا مناصب حكومية سامية. حلم الإندماج المغاربي سيرافقني ويرافق كل من عايش فترة من فترات المد والجزر في التقارب المغربي الجزائري، و بالرغم من كل هذه المحطات والمتغيرات السياسية وتوتراتها في العديد من المنعطفات ، والتي كان أبرزها، تعثر الإتحاد في شهر غشت من عام 1994،وبالرغم من ذلك الجو الذي أخذ يلقي بوزنه و بشكل ثقيل، والترقب الحذر الذي أعقبه من الجانبين،ترتب عنه إغلاق الحدود،والجمود التام والعودة إلى نقطة الصفر، رغم هذا كله ،لم يتزحزح الحلم عن مكانه، بل سيدفعني في مطلع الألفية التالثة إلى اﻹنخراط في جمعية أسسها شباب مغاربيون من كل البلدان المغاربية الخمسة ،و أوروبا أيضا ،من أجل بناء جسور التواصل والتعاون بتسريع الإندماج وكذا التسامح وحسن الجوار ،والرقي بشعوبنا إقتصاديا،إجتماعيا و تقافيا ..وكل ما من شأنه أن يضعنا على قدم المساواة ندا للند أمام أمم العالم المتقدم وتحدياته. وإلى يومنا هذا ما زلت مع أصدقائي الشباب المغاربي ،ننادي في كل محطة وفي كل فرصة بتفعيل على الأقل الإتفاقيات الرسمية التي أبرمت فيما مضى، ونقترح أفكارا و أرضيات تعاون وتبادل مشترك،لعلها تحقق آمال وتطلعات الإنسان المغاربي في القريب العاجل.