يتذكر جيل السبعينيات والثمانينيات جيدا الفلم الهندي الذائع الصيت « Dosti » أو "الصداقة"، ويتحدثون عن تفاصيله في نواديهم بكثير من الأسى والحزن والعاطفة الإنسانية المفعمة التي علقت بأذهانهم منذ تلك الفترة التي كان حينها عرض فلم من الأفلام في السينما طيلة أسبوع - أو قد تمدد فترة العرض إلى أسبوعين في حالة الإقبال الشعبي الكثيف - بمثابة حدث فني يشغل الشارع بتفاصيله طويلا. يتذكرونه لا لأنهم استمتعوا بأحداثه مدبلجا إلى العربية العامية المغربية فحسب، ولكن لأنهم - بسبب نزعته الإنسانية الدافقة - طالما بكوْا مع بطليه المَعوقيْن اللذين جمعتهما آصرة صداقة راسخة في المحبة والإخلاص والوفاء والإيثار: الأعرج "رام نات" والأعمى "موهان"، وهما الشابان اللذان اختار المخرج سنجاي خان أن يقدمهما نموذجا للطبقات المسحوقة بفعل النظام الطبقي الفاحش، والاضطهاد الاجتماعي القاسي، حيث ستموت أمُّ رام نات المريضة جراء صدمة خبر من الشركة التي كانت تشغّل زوجها الذي لقي حتفه أثناء العمل، مفاده ألّا حق له ولا لأهله في أي تعويض، قبل أن تصدم اليتيم سيارة ليصبح أعرج، ثم يتشرد بعد أن يطرده مالك المنزل لعدم سداد واجب الكراء، ثم لتتعمق المأساة بطرده بلا شفقة من المدرسة لعدم تسديد رسوم الدراسة الشهرية، رغم أنه كان أكثر أقرانه اجتهادا وتفوقا ونبوغا! وهكذا يلتقي رام نات بموهان ليمتهنا التسوّل عن طريق عزف الأول على الهارمونيكا، وغناء الثاني بصوته الحزين المؤثر، عامليْن سوادَ أيامهم من أجل أن يجمعا من المال ما يساعد رام نات على التسجيل ومتابعة الدراسة من جديد، لتحقيق أمنية أمّه المتوفاة في شرف التفوق. هنا يبدو أحد أهم رهانات الفلم الهندي: إدانة نظام خوصصة التعليم التي لا تلتلفت إلى الكفاءة العلمية للمتعلم، لأنها لا تعترف بغير المال. في حوار مؤثر للغاية بين الشابين اللذين شردهما البؤس المؤسَّس، يسأل موهان صديقه: "وكم ستكلف دراستُك؟"، فيجيبه: "الكثير، ستكلف الكثير لمجرد الالتحاق، رسم الالتحاق، والتيرم الدراسي، والشروح، والكتب تتراوح قيمتها على الأقل من 50 إلى 60 روبية"، فيضع موهان يده على فمه من ألم دهشة صفعت فطرةَ شاب غضٍّ مثله لم يكن يتصور أن التعليم سلعة تباع، وبالمزايدة والغلاء الفاحش، ثم يقول لرام: "رامو، سمعت أن هناك بعض البلدان تدفع فيها الحكومات من أجل تعليمٍ للجميع"، ليجيبه ساخرا أسفا: "متى سيحدث ذلك في بلادنا؟ سيحدث، لكن عندما نبلغ من الكبر عتيا". والآن بعد مرور أزيد من خمسين عاما على زمن إنتاج الفلم (1964)، لا يبدو أن كثيرا من أمنية رامو قد تحقق، فرغم أن التعليم الأساسي في الهند إلى حدود سن الرابعة عشرة أصبح إجباريا، حيث تقوم الحكومة المركزية والحكومات المحلية بدعم التعليم في السلكين الابتدائي والثانوي الأول بشكل مكثف، وحيث يمكن لعامة الناس متابعة دراساتهم الثانوية الثانية والجامعية في جامعات عمومية تحظى بالدعم كذلك، على رأسها ثماني عشرة جامعة مركزية Central Universities مهمة، ضمن ترسانة لثاني أكبر نظام تعليمي في العالم، يضم أكثر من أربعمائة جامعة، وحوالي سبعة عشر ألف كلية (بكل أنواعها حكومية، وشبه الحكومية، والخاصة)، بها أكثر من تسعة عشر ألف تخصص، بميزانية بلغت سنة 1996 كلفة 3.2% من الناتج الإجمالي القومي، مما سمح لبعض أبناء طائفة "الداليت" المنبوذين - علاوة على دسترة نظام الحصص أو الكوطا الطبقية - بتحقيق شيء من الكرامة والمكانة الاجتماعية لأول مرة في تاريخ الهند الطائفي... رغم كل ذلك فإن القطاع الخاص ما فتئ يحكم قبضته على التعليم في البلاد، مراهنا على الوصول إلى حصة 50 في المائة من تلاميذ البلاد في أفق سنة 2018، وبالتالي تعميق الجروح الطبقية، مستغلا التدهور البيّن الذي أخذ ينال المدرسة العمومية ومخرجاتها. وهكذا، برز مستثمرو القطاع الخاص في التعليم في الآونة الأخيرة بقوة، ولا سيما في التعليم الابتدائي والكليات المهنية ذات الاستقطاب المحدود، مقابل رسوم باهظة، تتفاوت من كلية لأخرى، ومن تخصص لآخر، حيث تفرض على الطلاب أداء رسومها بالعملة الصعبة (الدولار)، وأحيانا دفعة واحدة، ولو كانت لسنتين أو ثلاث سنوات دراسية، مع اشتراط عدم استردادها في حالة فسخ عقدة التسجيل، وكذلك عدم إمكانية تحويلها إلى مؤسسة أخرى في حال تحويل التسجيل... مع اعتبار أداء الرسوم كلها شرطا ضروريا لإكمال مراسيم التسجيل! وذلك في شد وجذب بين سياسات الحكومات المتعاقبة وأرباب الاستثمار الخاص في التعليم. تلك بعض تفاصيل الألم الهندي منذ "دوستي" الستينيات، استحضرتها وأنا أتأمل المسار الذي يبدو أن الحكومات المغربية المتعاقبة منذ خمسة عشر عاما، انتهاء بالحكومة الحالية، تودّ أن تضع قدمي البلاد والعباد على سِكته، في اتجاه إلى الخلف حيث إعادة إنتاج شروط مأساة رام نات وموهان التي بكى معها المغاربة يوما ما! ففي خضم كل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في سياق خوصصة حق التعليم العمومي وسلعنته، ابتداء بعقد اتفاقياتٍ إطارٍ مع فيدرالية التعليم الخصوصي تمكن المستثمرين الخواص بموجبها من امتيازات عقارية وضريبية وتربوية عمومية خيالية، ومرورا بمرسوم فصل التوظيف عن التكوين الذي فجّر هذه أزمة استمرت طيلة شهور بين الحكومة والأساتذة المتدربين المحتجين على التخطيط لرميهم لقما سائغة وبأبخس الأثمان بين أنياب المدارس الخصوصية، نشرت جريدة ليوم الخميس 7 أبريل 2016 ما ينذر بصب المزيد من النار على هذا الملف حيث أُرفق المقال بوثيقة تفضح جانبا مما سمي بالتدابير المتخذة لتوسيع العَرض المدرسي، ضمن ما عُرف بتنزيل التدابير ذات الأولوية لإصلاح منظومة التربية والتكوين، مقدمة مجموعة من المبررات التي بموجبها سيتم تفويت المؤسسات التعليمية العمومية بمرافقها وتجهيزاتها [في انتظار أطرها المتفرّجين ببلاهة] إلى الخواص، وذلك لتحقيق مجموعة من الأهداف "النبيلة" المتمثلة في "تعزيز مساهمة التعليم المدرسي الخصوصي إلى جانب الدولة في تعميم التعليم، والرفع من جودته"، "وضمان أكبر قدر من العدالة والمساواة في الولوج إلى المدرسة"، "والتحفيز على ظهور نموذج تربوي واقتصادي جديد للتعليم المدرسي الخصوصي، يكون متكاملا مع التعليم العمومي، وليس بديلا له"! من يقرأ هذا الكلام المعسول ستطير به الأحلام إلى جنة وهْمٍ تعليمية بعيدة يستثمر فيها الخواص في قلب أحياء الصفيح والعالم القروي، حيث سيتكفل نقلهم المدرسي بالمرور يوميا على بيوت القصدير وأكواخ الطين بالمداشر والدواوير، لجمع أطفال المغرب المنسي ذوي الوجوه المغبرّة، وظهور الأكفِّ الجعدة المتشققة، والأسمال البالية، والنِّعال المشرومة، نحو مدرسة أنيقة ملوّنة بتصاوير ميكي ماوس وباربي، يتعلمون فيها جنبا إلى جنب الأطفال المنعَّمين "المبطبطين" الذين لا يكفّون عن التهام أكياس المقرمشات الغالية، بلغة موليير، وبأحدث الوسائل التقنية، والطرائق الفعالة! ولمَ لا والدولة - كما جاء في الوثيقة المذكورة – ستتعاقد مع الخواص في شراكة لتحقيق تينك "العدالة والمساواة" المنشودتين للمواطن المغربي، ولن تسمح أبدا بأن يحتكر الخواص قطاع التعليم بمنطق الربح مستأسدين! من يقرأ الوثيقة المشار إليها يتعاطف بقلبه مع قطاع التعليم الخصوصي وما يعاني منه من مشاكل تقتضي من الحكومة التدخل العاجل للأخذ بيده! فأغلب المؤسسات المستثمرة فيه – حسب الوثيقة - متمركزة في خط "القنيطرة – الجديدة"، مما يحرمها من الاستثمار بالمغرب البكر الواسع، ويحرم المغرب البكر الواسع من استثمارها، كما أنها ليست مهيكلة بما يسمح ببروز مجموعات مدرسية شبكية أو كبرى، وإنما أغلبها من استثمار مستثمرين صغار أو عائليين، كما أن أكثر من نصفها يمارس عمله بفيلات أو عمارات لم تعدّ أصلا لتكون مدارس، علاوة على أن النموذج التجاري الربحي هو المسيطر على عامة تلك المؤسسات، مما يجعل أغلبها مثلا يتخبّط فيرفع رسوم التسجيل والتدريس سنويا، دون أن تمتلك وزارة التربية الوطنية "المسكينة" آليات للتدخل لترشيد عمله! لذلك تقترح الوثيقة نموذج "التعاقد" بين الدولة وهؤلاء الخواص، وفق مبدإ الشراكة التي تضمن المنفعة المتبادلة. إن بعضا مما ذكرته الوثيقة الحكومية آنفا لكفيل بجرّ أرباب التعليم الخصوصي إلى المحاسبة والمساءلة، لأنه لا يُقر بالرهان التجاريّ الربحيّ لهذه المؤسسات مما يعرفه المغاربة جميعهم فقط، ولا يذكر فوضى السوق التي يستثمر من خلالها الرأسمال في المواطنين كيفما شاء وسوّل له جشعه فحسب، بل إن أكثر من نصف مؤسساته تحشر المتعلمين في علب كعلب السردين رغم تزويقها الظاهر... ولكنّ حِكمة الحكومة البالغة رأت أن تجعل من كل تلك النواقص مبررات لتوطيد دعائم المؤسسات الخاصة، أو بعبارة أخرى: لبيع المواطنين وحقهم الفطري في التعليم للخواص، بعد أن ظل وزراؤها يردّدون بصفاقة أن الدولة لم تعد قادرة على توفير (مجانية) التعليم والصحة للمواطنين، مع العلم أن هذين حقّان واجبان لهم، ومنفعتان عامّتان من ضمن الواجبات التاريخية التي هي في عنق الدولة بموجب العقد الاجتماعي، وهو العقد الذي يضمن عودة مداخيل البلاد والضرائب المباشرة وغير المباشرة التي يؤدونها إليهم في شكل خدمات أساسية، وليسا – مع غيرهما من الخدمات - تفضلا "مجّانيا" من أحد، كما يوحي مكرُ استعمال لفظة "المجانية"، بل إن توفيرها (أو بالأحرى جودة توفيرها) يظل المعيار الأهم على نجاح الدولة في مهامها، والمؤشر الحاسم بين الدول المتقدمة ذات التدبير الراشد، وغيرها من الدول الثالثية التي ينخرها الفساد. وهكذا، يبدو أن الحكومة بدل أن تحل للشعب مشكلة التعليم التي طالما أرّقته، قد انقلبت على عقبيها إلى أيسر الحلول، وهو بيع جَمَل التعليم العمومي بما حمل (المَرفق وتجهيزاته) للخواص، وإن كان ذلك بذرِّ قليل من الرماد في العيون، كادعاء ضمان تمدرس نسبة من أبناء المدرسة العمومية المنزوفة في المؤسسات الخاصة، ضاربة عرضَ الحائط تحذير لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة للمغرب منذ عامٍ بالضبط (أبريل 2015) - بعد أن (عطاتْ ريحتنا) دوليا – من توسُّع مظاهر الاختلال في ضمان حق جميع أطفال المغاربة في تعليم عادل متساوٍ، وذلك بتغلغل المستثمرين الخواص في الجسم التعليمي، بتواطؤ مع السلطات التي اتهمها الباحث في مجال حقوق الإنسان في التعليم "سيلفان أوبري" بأنها هي التي تقف خلف الدعاية المزدوجة الداعمة من جهة للتعليم الخصوصي، والمضادة في الوقت نفسه للمدرسة العمومية، رغم أن الفكرة غير صحيحة، ولكنها جذابة للمستثمرين من جهة، وكفيلة بخلق رأي عام يقبل الخوصصة من جهة أخراة... وفي ضوءِ هذه الوثيقة الفاضحِ نستطيع أن نفهم لماذا أغلقت الدولة المغربية 191 مؤسسة تعليمية (حسب المصدر نفسه) في ظرف خمس سنين فقط، بين 2008 و2013، ولأيّ غاية رهيبة ادُّخرت!! إن استمرت – لا قدر الله! – هذه السياسات اللاشعبية المخططة لمستقبل التعليم بالبلاد، فسنكون عمّا قريب أمام نموذج تعليمي تجاري رهيب، مما سيتمخض عن أغوال مالية متمركزة جديدة تزداد ثراء فاحشا حينما تستولي بمعونة "دولة الحق والقانون" على المؤسسات التعليمية العامة من مدارس وإعداديات وثانويات ومعاهد وكليات، مقابل استنزاف للطبقة المتوسطة التي لن يُنظر إليها إلا باعتبارها أرقاما ذات قدرة استهلاكية وفق مبدإ "ادفعْ لتتعلم"، حيث ستُمكن قوة رأس المال فئة قليلة محظوظة من الدراسة والتبريز العلمي، وبالتالي المهني والاجتماعي، مقابل ظهور فئة عريضة ممن سيُبقَى لهم – مرحليا – على مؤسسات عمومية مفرغة من محتواها، وتحمل عوامل اندثارها في نفسها، في انتظار انقراضها تدريجيا، قبل أن تجد تلك الفئة نفسها منبوذة في قاع المنحدر الاجتماعي، غير مؤهلة إلا لأعمال السخرة والمهن الدنيا، أو في أحسن الأحوال لأعمال الوساطة التقنية. وحينئذ، سيبكي المغاربة على دراما أنفسهم وأولادهم، أمرَّ من بكائهم على دراما رام نات وموهان، وسيعيشون فلمهم الهندي المؤلم بنكهة محلية خالصة!