كان الأستاذ راشد الغنوشي قد أشار بسرعة إلى مسألة في غاية الأهمية في كتابه (المرأة بين القرآن وواقع المسلمين). تتصل هذه المسألة بتصوراتنا السائدة عن الآية القرآنية 14 من سورة آل عمران (زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا). ذلك أن الذهنية الذكورية تستدعي هذه الآية الكريمة لممارسة "إرهاب" فكري لا يخفى على الأنثى؛ إذ يتم استغلال الآية لتذكيرها دوما بكونها من فتن الدنيا وحجر عثرة على طريق الآخرة. وفي إطار ذلك الفهم السائد، تبتلع الأنثى هذه التهمة لأنها مذكورة بفصاحة في كتاب خالقها! وإذا حصل فعل من قبيل تحويل البديهيات إلى الأسئلة، وراحت الأنثى تتساءل عن العدالة الإلهية في تقسيم الأدوار بهذا الشكل (رجل يستعيذ بالله من فتنة النساء حتى تصلح آخرته؛ وأنثى تمارس دورها الشيطاني في الكيد والإيقاع..)؛ سيتحطم كل شيء، وسيغادر هذا الدين أفواج من النساء وخاصة فتيات في زهرة العمر، وليس بعيدا أن يكون هذا حاصلا في هذا القُطر أو ذاك. إن السؤال إذا تسلل إلى البديهيات، لن يملك صاحبه خط الرجعة ولن يرضى بالاطمئنان الكاذب ولا إيمان العجائز. وهنا تكمن خطورة المسألة التي يتجاهلها الخطاب التقليدي غير المتحرر من النَفَس الذكوري. الأستاذ راشد الغنوشي، من موقعه كغيور على هذا الدين وكتابه العزيز: أن يتعرضا لعملية اختطاف وأن ينساقا وراء أهواء الذكور، تساءل بدوره: لماذا التفاسير لم تنتبه إلى أن الخطاب موجه للناس عامة (زُين للناس)؛ والنساء بطبيعة الحال يندرجن ضمن الناس. لكن واضح أن الذهنية الذكورية لا تنتبه لهذا المعطى ولا تعرف انتسابا للنساء إلى دائرة الإنسانية؛ وهي ذهنية منطبعة لدى النساء بقوة: وقد حاربتها أمنا سلمة مع الجارية في الحديث المشهور "إني من الناس". إن هذا السؤال كان مدخلا لمساءلة القضية كلها. هل يمكن أن يكون المقصود هو أن النساء يقعن في حب نساء أُخر (رائحة "السحاق"!). هل يمكن أن يكون النساء بهوية غير هوية الإنسان. إن هذه أسئلة مشروعة وكفيلة بزلزلة الموروث التقليدي غير المُمحص. وهنا بالإمكان إثارة قضية أهم: إنها قضية الحور العين. لا يخفى أن بعض الوُعاظ يكُثرون من الدعوة بالويل والثبور وكل عظائم الأمور واستنادا إلى القول المأثور: الويل لنساء الطين وشوقا إلى الحور العين؛ يُكثرون من هذه الدعوات التي تلاحق المرأة وهي التي لا تدري –المسكينة- ذنبها فقد خُلقت هكذا امرأة تفوح جمالا وإنسانية وجدية ورقة وحنانا! يظن الوعاظ أنهم بهذه اللغة المسبوكة بإتقان والعازفة على أوتار غرائز للرجال سينقذون الناس من النار وسيُبعدونهم عن شرور النساء وسيبعثونهم إلى حيث الحور العين. إن المفارقة صارخة في هذا الخطاب. إن المعنيين بخطاب هؤلاء الوعاظ هم الرجال؛ فهم الذين يملأهم الشوق إلى الحور العين، وهم رجال "أسمى" من رجال الطين. والسؤال المطروح: هل الجنة أعدت للمتقين (من المؤمنين والمؤمنات) أم هي مُعدة للذكور فقط يجدون فيها ما لذ وطاب من الحور العين اللائي يُمتعنهم متعة لا يظمأون بعدها أبدا! أما المرأة؛ هل هي محرومة من الجنة ومُتعها؟ هل الوُعاظ نسوها وتناسوا أنها تريد أيضا احتجاز مقعد لها في رياضها؟ هل لا تشفع لها التقوى، التي هي معيار الاستحقاق عند الباري تعالى، في الاستمتاع بما يقدم الحور العين من ملذات خيالية غير متصورة؟ إن سدنة العقلية الذكورية مستمرون في حراسة التخلف والنظرة الدونية غير الإنسانية إلى المرأة الإنسان. إن أفكار هؤلاء السدنة مدسوسة في الكتابات التي تملك قيمة رمزية عالية لدى المسلمين. لهذا لا غرابة أن نجد هذه الذهنية الذكورية تنتعش باستمرار، رغم أن البشرية قطعت مع إرث أسود ثقيل تم فيه السطو على إنسانية المرأة وتكريس مكانتها "الذيلية" ووضعها "الدوني" بالنسبة للرجل الذكر الذي ينبغي أن يرتاح دوما على أكتاف عذابات المرأة وشقائها. "يُصاب المرء بالحيرة حينما يجد في كُتب التفسير هذا الشطح في تفسير مثل هذه الآية: (فاليوم لا تُظلم نفس شيئا ولا تُجزون إلا ما كنتم تعملون، إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعُون، سلام قولا من رب رحيم). سورة يس. الآية: 54-58 أنقل من تفسير ابن كثير ما يلي: (.. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمق وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)، قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه (في شغل فاكهون) أي بسماع الأوتار، وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار..). وكذلك قال الطبري: (.. وقوله تعالى: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون. اختلف أهل التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله جل ثناؤه أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة، فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون قال شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون: قال: افتضاض الأبكار. حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا أبو النضر، عن الأشجعي، عن وائل بن داود، عن سعيد بن المسيب، في قوله: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، قال: في افتضاض العذارى..). لاحظ أن جميع التفسيرات أعلاه ليس فيها رواية واحدة منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولقد فات على هؤلاء وأمثالهم أن "أصحاب الجنة" هم "ذكور" و"إناث" والآية ذكرت "... هم وأزواجهم... " فكيف يكون نعيم النساء في الجنة هو افتضاض بكارة العذارى؟؟ وإن كانت "أزواجهم" هنا تعني زوجاتهم (وهي لا تعني ذلك وإنما تعني الأزواج المتشابهة سواء أبين أهل الجنة أهل النار لأن زوجة فرعون لن يكون مصيرها معه وكذلك زوجة لوط)، فهل تستمتع الزوجات بأزواجهن الذكور ويفضون أبكار العذارى؟ أم أن أصحاب الجنة من المؤمنات سيُبعثن سحاقيات؟؟ وحتى لو سلمنا بهذه الفكرة الشاطحة، فهل افتضاض الأبكار متعة يتوق لها كل الذكور؟؟ إن الفكرة ليست مقززة فحسب ولا تحط من قدر كلام الله تعالى فقط ولكنها لا تدع مجالا للشك أن من كتب كُتب التفسير هذه ونسبها للمفسرين أصحاب الاسم، ساقط العدالة إما لأنه لا يعقل ما يقرأ، أو أنه يبث عمدا سموما في كتب العلماء تحط من قدرهم وقدر أصحاب النبي الكريم وتحط من قدر كلام الله". (عماد محمد بابكر حسن، أمي كاملة عقل ودين، دار الوطن الرباط، الطبعة الأولى 2014، ص:99-100) إذا أردنا اختصار مفاعيل العقلية الذكورية في الموروث الديني فلن نجد عبارة أدق: إنها عملية نزع مفضوحة لكرامة المرأة الإنسان. إنها تصوير مُشين تومئ إلى أن المرأة مُسخَرة للتسلية والقيام بوظائف تلعب فيها دور المفعول به دائما. إن الموروث الديني بحاجة إلى مراجعة عاجلة، بحاجة إلى تصفية صارمة تقتلع العناصر الخاضعة لأهواء الناس وخاصة تلك التي لها صلة بالعقلية الذكورية. وإلا سنجد أمامنا جيلا جديدا من الفتيات والشباب يطرحون في البداية أسئلة بريئة مؤداها في ظل هذا الموروث البئيس هو: الإلحاد، أو الانتحار. إن تمثُل الفتاة للصور التي تُصور بها وظيفة المرأة في هذا الموروث والتي لا تتجاوز خدمة الرجل جنسيا و"مناولته" ما يحتاج إليه ليعيش في رخاء؛ يشكل -هذا التمثُل- قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت. لفتت قريبتي انتباهي إلى مسألة في غاية الأهمية. كانت آنذاك تدرس في نهاية السلك الإعدادي (بل ربما ختمته) وهي الآن في الثانوي. تعيش الفتاة في بيئة هي ظاهريا حديثة من حيث الفضاء (المدينة) والوسائل (سيارة ممتازة، "آيباد"..) والاهتمامات (الاصطياف على شاطئ البحر..)؛ لكنها في العمق بيئة مثخنة بالتقاليد الراكدة والسلوكات الشاطحة والجهل المركب. ذات مرة، هتفت بمكنون صدرها: كل شيء جميل في هذا الدين؛ إلا أني لا أدري لماذا لم يساو بين الرجل والمرأة؟ أو لماذا المرأة ليست كالرجل منزلة وحقوقا ومكانة؟ الظاهر، أن السؤال عادي ليس فيه جديد، لكن ما وراءه هام: إنه فعل تحويل البديهيات إلى أسئلة. إنه استنطاق للمألوف. إنه بوح ومصارحة صادقة بالآلام المعيشة. كنت آنذاك، زمن طرح قريبتي لسؤالها، أسير أوهام. كنت واثقا من نفسي أن لي إجابة شافية على سؤالها العميق الدلالات. كنت أظن أن بسردي لنصوص وآيات تؤكد المساواة بين الرجل والمرأة في القيمة والمنشأ والجزاء، قرأتها هنا وهناك عند محمد عمارة "التحرير الإسلامي للمرأة" أو محمد الغزالي "المرأة بين التقاليد الوافدة والتقاليد الراكدة" أو سعد الدين العثماني "قضية المرأة ونفسية الاستبداد" أو كتابات عدة ليوسف القرضاوي أو إطلالات خاطفة على موسوعة عبد الحليم أبوشقة "تحرير المرأة في عصر الرسالة" أو مقالات لعلي عزت بيغوفتش "عوائق النهضة الإسلامية" أو ردود قوية لمحمد وسيد قطب على "شبهات حول الإسلام" وفي"الإسلام ومشكلات الحضارة". كنت أظن أن باستحضاري لهذه المرافعات البليغة التي قدمها رهط كبير من رجالات الفكر والدعوة حول تهافت دعوى دونية مكانة المرأة في الإسلام كما صور ذلك المستشرقون وغيرهم، كنت أظن أنني بهذا سأرفع الإشكال وسأقول إن الإسلام يرفض المساواة الميكانيكية ويريد العدل (التعادل بين الحقوق والواجبات). كنت أعتقد أن هكذا كلمات ستجيب على سؤال طرحته فتاة لم تتجاوز 16 أو 15 ربيعا عن براءة تُحسد عليها (براءة لا دخل فيها لتأثير الأنترنت، أو التلفاز..). كنت أُقدر أن توضيح التمايز القائم بين الدين والتدين سيحُل المعضلة. هيهات.. هيهات أن يكون الأمر بهذه البساطة. إن الفتاة طرحت سؤالها بعدما استكنهت مظاهر التحديث المغشوش التي تحيط بها. إنها لم تسمع بدعاية الحركات النسائية ولا دنا إلى سمعها صوت الحركات المتمركزة حول الأنثى. إنها لا تعرف حكاية الميراث ولا غيرها من الحكايا التي تومئ إلى وجود تمايز بين الذكر والأنثى. إنها تعرف شيئا واحدا هو ما ينطق به واقعها المعيش. إنها تعرف الخطاب اليومي الذي يتم تصريفه حول المرأة في المناخات التي تعيش فيها. إنها تعرف الأوجاع النفسية التي تكاد تمزقها حينما تستمع لما يُراد لها أن تكون من فم أمها وخالتها وجدتها وخالها.. إن قريبتي، يا سادتي، لن تعير انتباها للآيات الكريمة ولا للسيرة النبوية العطرة؛ لأنها تتألم في واقعها، فبماذا ستفيدها الآيات والنصوص التي تحمل تصورات إنسانية عن الأنثى بينما واقعها مجروح بذهنية ذكورية: والطامة أن النساء أول من يروج لها. إنها تريد أن يتغير واقعها، تريد أن ترى مساواة حقيقية في المعاملة، تريد أن تحس أنها إنسان كامل الإنسانية.. بهذه المناسبة أسوق طريفة من الطرائف التي حدثت لي هذه الأيام (قبل أقل من أسبوع): اتصلتُ بإحدى قريباتي وهي مسنة على مشارف الثمانين: 78 سنة؛ وعلى غير عادتي حيث لا أجد ما أقول مع غير من يشترك معي ذات الهموم الفكرية والانشغالات التنظيمية والنضالية، بادرتُ بفتح ملف شائك للنقاش معها؛ لما سألتني عن أحوالي: أجبتها –مازحا ومُقهقها- أنها في غاية السوء، ورجوتها أن تبحث لي عن من "يناولني"! وهنا لا أجد الكلمات المناسبة لأعبر عن مقدار سعادتها بطلبي وسرورها اعتدادا بذهنيتها الذكورية وانبجاس وثوقيتها من جديد بهذه العبارات: أرأيت؟ ألم قل لك إنك ستنزل عند كلامي؟ ها الآن قد وصلت إلى ما رُمته في أحاديثي السابقة معك حينما مازلت تلميذا! جميل يا ابني أن يفكر الإنسان في من "يناوله". لا تخف! تأكد أني سأجد لك من تناسبك. إن والدتك وجدتك قد شاختا ولم يعُد بمقدورهما أن يخدمانك. سأبحث لك عن من "يخدمك" و"يناولك". إن هذه القريبة المسنة جذع مشترك بيني وبين قريبتي الفتاة –بطلة هذه القصة-؛ واضح مما حدث لي معها في هذا الأسبوع على سبيل المُزحة أنها مدافعة شرسة عن تمثلات ذكورية بائسة لدور الفتاة والمرأة. دور يقول: إنها خادمة ومناولة للرجل في نهاية المطاف. إن الأم والجدة والزوجة لا شُغل لهن سوى "خدمة" هذا الفتى. كأن هذا الفتى منزوع الأطراف وفاقد للبصر حتى يكون محط مساعدات كل هؤلاء النسوة! لهذا لا عجب أن نجد قريبتي الفتاة تتلظى بهذا الخطاب وتكتوي بآثار هذه العقلية وتحترق أسى على هويتها الإنسانية المفقودة، وتطرح سؤالها في صمت. إن معالجتنا لقضايا اجتماعية (المرأة)، مازالت موضوعة على رأس جدول أعمال التحديث الذي نتوخاه، تتطلب ألانصراف إلى الواقع بهدف تغييره. إن السؤال هو: كيف سيتم القطع مع إعادة إنتاج التخلف، كيف سيتم الوقوف ضد إعادة إنتاج الخطوط الرجعية الذكورية في ذهنيتنا جميعا رجالا ونساء؟ كيف سيتم إيقاف نزيف الظلم الاجتماعي والنفسي الذي تتعرض له الفتاة الحائرة بين زيف مكشوف لتحديث تقنوي (التكنولوجيا، السيارة، الآيباد، البحر...) وواقع تقليداني ذكوري وبئيس حتى النخاع؟ إن الدين الذي تعرفه قريبتي هو الدين الذي يسري في الواقع ويخترق ذهنيات الناس. إنها غير مكترثة بدين النصوص (القرآن الكريم، السيرة النبوية..)، لأنها لا ترى له أثرا. إن مراجعة الموروث الديني والترويج لعقل نقدي متسائل والكف عن استهلاك التكنولوجيا بدون استيعاب والإلحاح على تحويل البديهيات إلى أسئلة في مواطن الدرس؛ إنها خطوات ينبغي البدء بها حتى نخرج من مهزلة "لعن نساء الطين" و"الشوق العنصري إلى الحور العين".