إننا مازلنا في الدنيا أحياء نرزق والفرصة سانحة أمامنا للتزود لما بعد الموت، وها هو شهر رمضان يدعونا لذلك. فلنشمر عن سواعدنا ونهجر فراشنا ونوقظ أهلنا ونرفع راية الجهاد والاجتهاد ضد أنفسنا وشهواتنا ورغباتها.. ها.. قد جاء رمضان وعودة الروح فيه لاسترجاع المفقود والمنشود. جاء رمضان ليحمل معه ما يذكرنا به من حقيقة النفس التائهة الضائعة، لكن هناك شيئاً آخر يجئ به رمضان ليذكرنا به، نحن (العرب والمسلمين) في أقطار الأرض كلها.. نعم إذا كانت شهية بعض الناس مفتوحة للمزيد من ملذات الدنيا في العراك والخصام والاختلافات والعصبيات الدائرة بيننا والاختلاف والمنغصات، فما أحرى المنهزمين بأن تنكمش أيديهم وتغص حلوقهم، فما أحرى بني الإسلام بالصيام عن هذه الفنون النزاعية والقتالية والإختلافية.
أن المرحلة التي تمر بها الأمة كلها لا تتحمل من ذلك قليلاً أو كثيراً في أعقاب المتاعب التي تصيب الأمة، وتنتظم آلامها الأفراد والجماعات، فلابد أن يحدث تغير شامل في السلوك الاخلاقي القومي العام للإنسانية جمعاء.
أن بعض المسلمين لا يستفيدون من صيامهم هذه الآثار النفسية والاجتماعية التي تعين على خلق شعوب جامدة تتحمل متاعب الحصار الاقتصادي والعسكري. وأنهم حريصون في جوانب كثيرة من حياتهم على تقاليد اليسار والسعة، والتشبث بما ألفوه أيام السلام والسلامة.
من سنين طويلة ورمضان يستقبله العرب والمسلمين بطريقة رتيبة. روايات أقلها جاد وأكثرها هازل، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية.. أغان بعضها ديني، والآخر لا دين له تشنف الآذان، فكلمات تخلق الأجواء الضاحكة، وتسلي الجماهير التائهة، مواعظ تقليدية ممجوجة يفر أغلب الناس من سماعها أو كتابات إسلامية في موضوعات مختارة عن عمل لتخدير الفكر وتفتير الهمم. إن أعداء الإسلام لا يطلبون من أمة الإسلام أن تفعل بنفسها أكثر من ذلك! إن الأثر النفسي العظيم لفريضة الصيام هو تدريب المؤمن على ضبط نفسه، وإحكام أمره، وتقييد شهواته، فهو إذ يترك بعض الأعمال المباحة يتمرن على ترك جميع الأعمال المحظورة أو التي تفرض ظروف المروءة، وأعباء الكفاح أن يتركها، وكان قديماً يروى رجل عزيز صلب.. يقولون: هذا مورد!! قلت: قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ!! الصيام يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذي! ذاك يوم نصوم حقاً، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى النهام مقادير أكبر كما يفعل سواء الناس!! أهم ثمرات الصوم هو إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما.. فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل أهل بيته في الصباح، أثم ما يضطر به، فيقال: لا ! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأن شيئاً لم يحدث... إنها لعظمة نفسية جديدة وجديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر، والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت.
فلنبدأ من الآن، ولننتهز الفرصة المتاحة أمامنا قبل أن يحال بيننا وبين هذا الكنز العظيم في رمضان وقراءة القرآن. لكي تسري روح القرآن في الأمة شيئاً فشيئاً لتسترد عافيتها، وترتفع هامات أبنائها إلى السماء.