تلاوة القرآن أو الاستماع إلى تلاوته وراء الإمام هي كذلك مناسبة لتدبره وفتح أقفاله كي تتجاوب مع معينه العلمي والتوجيهي الذي لا ينضب .وفي رمضان هي آكد وأفيد لأنه شهر القرآن الذي كان رسول الله يتدارس فيه القرآن مع جبريل ، وينبغي أن تنأسى فيه برسول الله في العناية بالقرآن . وسأخصص الحلقات الأربع خلال الشهر الكريم لتسجيل بعض الخواطر التي ترد في هذا الشهر الكريم شهر صفاء النفوس وانفتاح القلوب للاستماع والفهم عن القرآن . ومما خطر في النفس وأنا استمع من جديد آيات الصيام ـ والواقع أن المرء وهو يستمع لها يفعل ذلك وكأنه يفعله لأول مرة ، الخواطر التالية : ـ أن الصيام هو شريعة من قبلنا وفي ذلك ما فيه من إشارة إلى وحدة أصول الدين ووحدة بعض الشعائر التعبدية وإن كانت تأديتها قد اختلفت من دين لآخر وجاء الإسلام الخاتم كي يضع صورتها النهائية . يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم .... ـ أن شهر رمضان محطة تزكية للنفس بامتياز فهو مدرسة للتقوى والتربية للنفس على اجتناب المحرمات ، فالصيام ليس إمساكا عن المباحات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ولكنه أيضا وبجانب ذلك إمساك عن المفطرات المعنوية أي عن المعاصي القلبية ومعاصي الجوارح التي تبطل مفعول الصوم وتقلل من فائدته وآثارها المعنوية أي نتائجه على مستوي تهذيب النفس والرقي بها في مدارج التقوى . ـ أن الإسلام هو دين اليسر ودين الفطرة . فالإسلام لم يشرع صيام الدهر ،كما أنه قد نهى عن الوصال . إن الأمر يتعلق بأيام معدودات ، وفي هذه الأيام المعدودات ينتفي كل شكل من أشكال الحرج أو العنت من قبيل العنت الذي قد يحل بالمريض والمضاعفات الصحية التي تترتب عن صيامه ومن قبيل العنت الذي قد يحل بالمسافر أو الشيخ العجوز أو القادر الذي يصوم مع المشقة الكبيرة التي قد تكون لها مضاعفات أو مخاطر على الصحة في بعض الظروف : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ـ أن هذا الدين وما فيه من شعائر مثل شعيرة الصيام هو نعمة إلهية كبرى ، وأن التوفيق إلى أداء هذه الشعيرة من خلال الامتثال شهرا كاملا لله تعالى بالامتناع الذاتي التلقائي عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وبالامتناع عن المفطرات المعنوية مثل الغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به ، كل ذلك يستوجب الشكر وذكر الله المنعم عند نهاية شهر رمضان : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون . والملفت للانتباه هذه القدرة الفائقة التي لرمضان في خلق هذا الانضباط الذاتي الفردي والجماعي ، وهو الانضباط الذي لا يقوى على تحقيقه قانون أو إلزام سياسي أو قهر عسكري أو أمني ، فالمسلم يصوم بينه وبين ربه ولا أحد يملك أن يطلع على صيامه أو إفطاره ، وتلك قوة تهذيبية استثنائية لا تتأتى إلا لدين عظيم منزل من رب منعم كريم .فالله أكبر على ما هدى الأمة إليه خلال شهر رمضان ، ورمضان شاهد على أن الأمة يمكن أن تعيش عيشة الهداية بالإسلام دون أم الخبائث مثلا ، وأنها قادرة أن تعيش دون مفترات أو مخذرات وغير ذلك من المربقات التي ينصرف الناس عنها بسبب رمضان وقدرته على خلق الانضباط في النفوس . ـ و رمضان هو شهر الرشد والترشيد، فهو شهر الدعاء ، والدعاء هو مخ العبادة ، وهو شهر الاستجابة وشهر القرب والتقرب ، والطريق إلى الاستجابة والرشد هو الطاعة والاستجابة لله بأداء شعيرة الصيام بالوجه الذي ينبغي أن تؤدى به : وإذا سألك عني عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لغلهم يرشدون ـ أن روحانية الإسلام روحانية متوازنة ، فشرطها ليس هو الانقطاع عن الدنيا أو الامتناع عن المباحات والطيبات ،فالأكل والشرب مباحان إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، والرفث إلى النساء مباح خلال ليلة الصيام . وهكذا فإن إتيان هذه المباحات المادية والغريزية لا يمس في شيء روحانية المسلم في الشهر الفضيل ، ولذلك فشهر رمضان يعطي صورة مجسدة عن توازن الإسلام ووسطيته ويسره واعتداله ومراعاته للفطرة ، وتوليفه توليفا عجيبا بين الروحانية ومواصلة الحياة العادية بمطالبها المادية والغريزية . ومما يؤكد هده الوسطية وذلك التوازن أن الإسلام لا يؤيد أن تكون تلك الروحانية روحانية مرتبطة بالشعائر أي بالشعائر التعبدية فحسب . بل وجب أن تكون لهذه المحطة الروحية التهذيبية آثارها على سلوك المسلم ومعاملاته فيتجنب كل أشكال الزور فيها ومنها أكل أموال الناس بالباطل من ربا أو رشوة أو ارتشاء أو غير ذلك من قبيله أو نظيره ، ومن لم يكن للصيام وهذا الشهر الفضيل مثل هذا الأثر السلوكي في حياته اليومية فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه . وهكذا فبعد ورود آية الصيام مباشرة يرد قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ولذلك فإن الذين يريدون علمنة الإسلام علمنة شاملة تصل إلى حد الفصل التام بين الشعائر التعبدية وبين الحياة اليومية للمسلم واهمون من جهتين : من جهة استحالة ذلك عمليا لأنه لا بد أن يكون للمعتقد اثر في نمط الحياة اليومي للجماعة ، وعلى الديمقراطية حتى في شملها العلماني أن تحترم ثقافة الجماعة ومتطلباتها الروحية ومستلزمات ذلك في نظام الاقتصاد وفي السياسة والقانون وغير ذلك . وهم واهمون لأن الإسلام يربط ربطا قويا بين الحياة الفردية والحياة الجماعية ، ويجعل للعبادة آثارا لا تخفى على حياة الجماعة ونمط العلاقات داخلها ، والسياسة إذا كانت ديمقراطية حقا وصدقا وجب أن تراعي ذلك وتوفر مستلزماته. وها هو ذا المسلم الذي يستمع إلى آيات القرآن تأمره بالصيام والدعاء في شهر رمضان ، يستمع إلى نفس الآيات تنهاه عن أكل أموال الناس بالباطل أو الإدلاء بها إلى الحكام من أجل ذلك .