مطارات المملكة تلغي التفتيش المزدوج وتكتفي ببوابات مراقبة أتوماتيكية    سعر الذهب يواصل ارتفاعه مع تزايد المخاوف الاقتصادية    طرح تذاكر مباراة المغرب والنيجر للبيع عبر منصة إلكترونية    المغاربة يتصدرون الأجانب المساهمين في الضمان الاجتماعي بإسبانيا    عامل إقليم العرائش يترأس اجتماعا هاما لتتبع مشاريع تنموية حيوية بالإقليم    توقيع كتاب الشريف الطريبق " سينما مختلفة " بالعرائش    موانئ الواجهة المتوسطية : ارتفاع بنسبة 9 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري في فبراير الماضي    مسرحية "مساح": رؤية فنية جديدة بدعم وزارة الشباب والثقافة والتواصل    ترامب وبوتين يجريان محادثات حول وقف إطلاق النار في أوكرانيا    حقيقة إلغاء وزارة الصحة لصفقات الحراسة والنظافة بالمستشفيات العمومية    الفريق أول المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى المملكة العربية السعودية    هام للتجار.. المديرية العامة للضرائب تدعو الملزمين إلى تقديم التصريح برسم سنة 2024 قبل هذا التاريخ    المتصرفون التربويون يواصلون نضالهم ضد الحيف والإقصاء والتدليس في لوائح الترقيات    تنسيق أمني يبحث مسار نفق قرب سبتة    "الجمعية" تطالب بعقوبات قاسية ضد مغتصبي 14 طفلة في بلدة "كيكو" بإقليم بولمان    بورصة البيضاء تنهي التداول بأداء إيجابي    بعد تراجع أسعار النفط عالميا.. نقابي يكشف السعر العادل للوقود في المغرب    الألكسو تكرم الشاعر محمد بنيس في اليوم العربي للشعر    ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمي بعد الهجوم الأمريكي على الحوثيين    القضاء الاستئنافي يثبت حكما بالحبس ثلاث سنوات بحق "ولد الشينوية"    "طنجة تتألق في ليلة روحانية: ملحمة الأذكار والأسرار في مديح المختار"    "دخلنا التاريخ معًا".. يسار يشكر جمهوره بعد نجاح "لمهيب"    الاتحاد السعودي يستهدف عبد الصمد الزلزولي    التوتر الأسري في رمضان: بين الضغوط المادية والإجهاد النفسي…أخصائية تقترح عبر "رسالة 24 "حلولا للتخفيف منه    الرياضة في كورنيش مرقالة خلال رمضان: بين النشاط البدني واللقاءات الاجتماعية    الترجمة في المغرب و''عُقْدة'' الفرنسية    رجة قوية بوزارة التربية الوطنية!    منخفض جوي جديد يرافقه أمطار ورياح قوية في عدة مناطق بالمغرب    البطولة الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال 25).. شباب المحمدية ينهزم أمام ضيفه حسنية أكادير (4-0)    قرعة متكافئة للهلال والنصر في ربع نهائي أبطال آسيا    الطائرات الصينية تعيد تشكيل ملامح صناعة الطيران: منافسة قوية تنتظر إيرباص وبوينغ    ليبيا.. "الكتب المدرسية" تتسبب في سجن وزير التربية والتعليم    الدبلوماسية الناعمة للفنون والحرف التقليدية المغربية.. بقلم // عبده حقي    حموشي يؤشر على تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    إسرائيل تجعل دخول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين "شبه مستحيل"    دراسة جديدة تربط بين الطقس الحار وأمراض القلب في أستراليا    المغرب يعزز مكانة جواز سفره بإضافة وجهات جديدة دون تأشيرة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    إلغاء مباراة مونبلييه وسانت إيتيان في الدوري الفرنسي بسبب الأعمال النارية    شهر رمضان في أجواء البادية المغربية.. على إيقاع شروق الشمس وغروبها    رسالة محمد بن عيسى ومسؤلية "الأصالة والمعاصرة" أمام الله والتاريخ بشأن مستقبل مدينة أصيلة    نتانياهو يعتزم إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي    محاولة للإساءة للمغاربة: كشف مجرم جزائري ادعى الجنسية المغربية بعد اعتقاله في فرنسا    البطلة برطال: أهدي الميدالية الذهبية للملك محمد السادس والشعب المغربي    تقرير بريطاني: ثلث الهواتف المسروقة في المملكة المتحدة تُهرب إلى الجزائر    حادثة سير خطيرة قرب طنجة تسفر عن وفاة وإصابات خطيرة    فوز الحسنية و"الجديدي" في البطولة    وفد برلماني نسائي يروج للمناصفة    هاليفي يٌثني على "حماس".. ونتنياهو يٌقيل رئيس جهاز أمن "الشاباك"    واقع الأطفال في ألمانيا.. جيل الأزمات يعيش ضغوطات فوق التكيفات    نشرة جوية إنذارية بالمغرب    مدرب الوداد موكوينا يتحدث عن إمكانية الرحيل بعد التعادل مع اتحاد طنجة    لا أيمان لمن لا أمانة له ...    الأدوية الأكثر طلبا خلال رمضان المضادة للحموضة و قرحة المعدة!    ارتباك النوم في رمضان يطلق تحذيرات أطباء مغاربة من "مخاطر جمّة"    أبرز المعارك الإسلامية.. غزوة "بني قينقاع" حين انتصر النبي لشرف سيدة مسلمة    ظاهرة فلكية نادرة مرتقبة فجر يوم غدٍ الجمعة    أداء الشعائر الدينيّة فرض.. لكن بأية نيّة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كازا يا كازا...
نشر في أخبارنا يوم 31 - 10 - 2011

الذي ينظر في عيون سائقي السيارات في الدار البيضاء، سيجد أنها تشبه عيون المنومين مغناطيسيا، وأن هؤلاء الناس الذين يخرجون كل صباح أو مساء، أو في أية ساعة، وهم يركبون سياراتهم في شوارع هذه المدينة الملتهبة، ليس لهم إلا همّ واحد ومصيري، وهو أن تتحرك سياراتهم بأية وسيلة. التوتر يدور في رؤوس السائقين بمجرد أن يدور المفتاح في محرك السيارة.
هناك حالة مرضية أخرى عند سائقي السيارات في الدار البيضاء، وهي أنهم مصابون بما يشبه الاكتئاب الجماعي.. إنهم متوترون جدا في مدينة بها أزيد من 6 ملايين نسمة، وأكثر من مليون سيارة. وفي هذه الحالة، يكون هدف الإنسان غريبا، وهو أن يصل إلى عمله صباحا أو إلى منزله مساء، دون أن تحترق أعصابه بالكامل.
ما الذي حوّل الدار البيضاء إلى هذه الحالة المرضية المزمنة مع أن الفرنسيين هم الذين وضعوا لبناتها الأولى؟ لا جواب غير ما يقوله البيضاويون: إنه الفساد في كل شيء، في التخطيط والتدبير والتسيير.. لقد ذهب زمن الفرنسيين من زمان وجاء زمن المغاربة.
منذ زمن الفرنسيين تغيرت أشياء كثيرة جدا في الدار البيضاء.. أسواق المدينة النموذجية صارت كتلا من الفوضى والأوساخ، الأماكن الأسطورية والتاريخية صارت مزابل يتبول فيها السكارى، والمدينة التي كان متوقعا لها أن تنافس مدن العالم في المعمار والنظام، صارت تخاف على نفسها من خطر واحد: الاختناق.
درب عمر، الذي يوصف بكونه قلب البيضاء النابض، تتشابه مشاهده مع مشاهد مدن عالمية شهيرة. هذا المكان يشبه، مثلا، مدينة شنغهاي الصينية في القرن الخامس عشر. الفوضى في كل شيء.. شاحنات متوقفة في كل مكان، عربات مجرورة جنبا إلى جنب مع سيارات فارهة، مخازن تضم أطنان السلع يغلق مدخلها بائع متجول بعربة خشبية.. في هذا المكان الفوضى تنافس نفسها.
البيضاويون يقولون إن مدينتهم صارت دوّارا كبيرا، لكنها في الحقيقة أسوأ بكثير من الدوار. في «الدوّار» يمكن أن تجد الاخضرار والهواء في كل مكان، وفي الدار البيضاء يحجب الإسمنت السماء، وواجهات العمارات والمنازل أصبحت سوداء بفعل التلوث والدخان والغبار. كثير من الناس صاروا يفضلون صباغة منازلهم بألوان قاتمة حتى لا يغطيها التلوث سريعا.. بياض الدار البيضاء صار مجرد خرافة من الماضي.
في الدار البيضاء معضلة حديثة اسمها «أشغال الطرامواي». هناك شوارع أقفلت بالكامل في وجه السير في انتظار أن تفتح في وجه الطرامواي الذي يقال إنه سيخفف مأساة المواصلات في هذه المدينة. لكن البيضاويين يسخرون من الأشغال ويقولون إنها بدأت لكي لا تنتهي. المشكلة هي أنه عندما ستنتهي الأشغال، يجب إقناع عشرات الآلاف من أصحاب السيارات بتركها وركوب وسيلة نقل يتساوى فيها الجميع، أي أصحاب السيارات المهترئة وأصحاب «الكاتْ كاتْ» وأصحاب السيارات التي يساوي سعرها ميزانية مدينة كاملة. الطرامواي صنعه الغرب كنموذج للمساواة الاجتماعية بين الناس، إنه مثال على دمقرطة المجتمعات، لكن في الدار البيضاء، حيث الفوارق الاجتماعية والطبقية مشينة، سيكون مستحيلا إقناع «الكبار» بأن الطرامواي صنع من أجلهم. إنهم ينتظرون فقط بداية الطرامواي لكي يركبه الفقراء ويخففوا عنهم زحمة المواصلات.
الدار البيضاء تحمل في أحشائها كل المتناقضات. إنها نموذج سيئ للحياة بالنسبة إلى كثيرين، وهي النموذج الأرقى لعيش فئة ميسورة بنت فيلاتها وقصورها على مشارف المدينة. هذه الفئة تبدو لها المدينة الحقيقية، حيث يعيش البيضاويون البسطاء، كخلية نمل مخيفة.
الروح المتوهجة للدار البيضاء بدأت تذوي منذ زمان، من أيام تركها الفرنسيون في أيدي أناس ملؤوا مناطقها الخضراء بمزيد من الإسمنت والعمارات؛ ثم توالى الاحتضار عندما فقدت المدينة مسارحها وفضاءاتها الثقافية.. لم تعد الدار البيضاء اليوم مدينة الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب، لم تعد مدينة الحي المحمدي بتاريخه الذي يشكل مدينة داخل مدينة، ولا بكل أحيائها ورموزها التاريخية الأخرى. في الدار البيضاء، توجد اليوم جمهورية اسمها «دب غلف»، هنا تعوْلمت المدينة وصار لها تاريخان: الدار البيضاء ما قبل «درب غلّفْ»... والدار البيضاء ما بعد «درب غلّفْ».
كازا يا كازا.. لم يعد فيك اليوم غير هذا التناقض الذي يصيب بالجنون، وحذاء بدرهمين في سوق العفاريت، وحذاء بعشرة ملايين يشتريه العفاريت، وأيضا هذا الصراع بين الوداد والرجاء، وخلفه صراع حقيقي ومخيف لا يراه أحد.

عبد الله الدامون - المساء
الذي ينظر في عيون سائقي السيارات في الدار البيضاء، سيجد أنها تشبه عيون المنومين مغناطيسيا، وأن هؤلاء الناس الذين يخرجون كل صباح أو مساء، أو في أية ساعة، وهم يركبون سياراتهم في شوارع هذه المدينة الملتهبة، ليس لهم إلا همّ واحد ومصيري، وهو أن تتحرك سياراتهم بأية وسيلة. التوتر يدور في رؤوس السائقين بمجرد أن يدور المفتاح في محرك السيارة.
هناك حالة مرضية أخرى عند سائقي السيارات في الدار البيضاء، وهي أنهم مصابون بما يشبه الاكتئاب الجماعي.. إنهم متوترون جدا في مدينة بها أزيد من 6 ملايين نسمة، وأكثر من مليون سيارة. وفي هذه الحالة، يكون هدف الإنسان غريبا، وهو أن يصل إلى عمله صباحا أو إلى منزله مساء، دون أن تحترق أعصابه بالكامل.
ما الذي حوّل الدار البيضاء إلى هذه الحالة المرضية المزمنة مع أن الفرنسيين هم الذين وضعوا لبناتها الأولى؟ لا جواب غير ما يقوله البيضاويون: إنه الفساد في كل شيء، في التخطيط والتدبير والتسيير.. لقد ذهب زمن الفرنسيين من زمان وجاء زمن المغاربة.
منذ زمن الفرنسيين تغيرت أشياء كثيرة جدا في الدار البيضاء.. أسواق المدينة النموذجية صارت كتلا من الفوضى والأوساخ، الأماكن الأسطورية والتاريخية صارت مزابل يتبول فيها السكارى، والمدينة التي كان متوقعا لها أن تنافس مدن العالم في المعمار والنظام، صارت تخاف على نفسها من خطر واحد: الاختناق.
درب عمر، الذي يوصف بكونه قلب البيضاء النابض، تتشابه مشاهده مع مشاهد مدن عالمية شهيرة. هذا المكان يشبه، مثلا، مدينة شنغهاي الصينية في القرن الخامس عشر. الفوضى في كل شيء.. شاحنات متوقفة في كل مكان، عربات مجرورة جنبا إلى جنب مع سيارات فارهة، مخازن تضم أطنان السلع يغلق مدخلها بائع متجول بعربة خشبية.. في هذا المكان الفوضى تنافس نفسها.
البيضاويون يقولون إن مدينتهم صارت دوّارا كبيرا، لكنها في الحقيقة أسوأ بكثير من الدوار. في «الدوّار» يمكن أن تجد الاخضرار والهواء في كل مكان، وفي الدار البيضاء يحجب الإسمنت السماء، وواجهات العمارات والمنازل أصبحت سوداء بفعل التلوث والدخان والغبار. كثير من الناس صاروا يفضلون صباغة منازلهم بألوان قاتمة حتى لا يغطيها التلوث سريعا.. بياض الدار البيضاء صار مجرد خرافة من الماضي.
في الدار البيضاء معضلة حديثة اسمها «أشغال الطرامواي». هناك شوارع أقفلت بالكامل في وجه السير في انتظار أن تفتح في وجه الطرامواي الذي يقال إنه سيخفف مأساة المواصلات في هذه المدينة. لكن البيضاويين يسخرون من الأشغال ويقولون إنها بدأت لكي لا تنتهي. المشكلة هي أنه عندما ستنتهي الأشغال، يجب إقناع عشرات الآلاف من أصحاب السيارات بتركها وركوب وسيلة نقل يتساوى فيها الجميع، أي أصحاب السيارات المهترئة وأصحاب «الكاتْ كاتْ» وأصحاب السيارات التي يساوي سعرها ميزانية مدينة كاملة. الطرامواي صنعه الغرب كنموذج للمساواة الاجتماعية بين الناس، إنه مثال على دمقرطة المجتمعات، لكن في الدار البيضاء، حيث الفوارق الاجتماعية والطبقية مشينة، سيكون مستحيلا إقناع «الكبار» بأن الطرامواي صنع من أجلهم. إنهم ينتظرون فقط بداية الطرامواي لكي يركبه الفقراء ويخففوا عنهم زحمة المواصلات.
الدار البيضاء تحمل في أحشائها كل المتناقضات. إنها نموذج سيئ للحياة بالنسبة إلى كثيرين، وهي النموذج الأرقى لعيش فئة ميسورة بنت فيلاتها وقصورها على مشارف المدينة. هذه الفئة تبدو لها المدينة الحقيقية، حيث يعيش البيضاويون البسطاء، كخلية نمل مخيفة.
الروح المتوهجة للدار البيضاء بدأت تذوي منذ زمان، من أيام تركها الفرنسيون في أيدي أناس ملؤوا مناطقها الخضراء بمزيد من الإسمنت والعمارات؛ ثم توالى الاحتضار عندما فقدت المدينة مسارحها وفضاءاتها الثقافية.. لم تعد الدار البيضاء اليوم مدينة الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب، لم تعد مدينة الحي المحمدي بتاريخه الذي يشكل مدينة داخل مدينة، ولا بكل أحيائها ورموزها التاريخية الأخرى. في الدار البيضاء، توجد اليوم جمهورية اسمها «دب غلف»، هنا تعوْلمت المدينة وصار لها تاريخان: الدار البيضاء ما قبل «درب غلّفْ»... والدار البيضاء ما بعد «درب غلّفْ».
كازا يا كازا.. لم يعد فيك اليوم غير هذا التناقض الذي يصيب بالجنون، وحذاء بدرهمين في سوق العفاريت، وحذاء بعشرة ملايين يشتريه العفاريت، وأيضا هذا الصراع بين الوداد والرجاء، وخلفه صراع حقيقي ومخيف لا يراه أحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.